بقلم سها ميعادي
47 سنة تمرّ يوم 26 جانفي 2025 على أحداث “الخميس الدامي“، أحداث بقيت محفورة في الذاكرة الجماعية للنقابيّين والطبقة العاملة وعموم الشعب التونسي بمختلف شرائحه وفئاته بما خلّفته من شهداء وجرحى ومعتقلين، حيث تحدّثت تقارير مستقلة عن أنّ عدد القتلى قد تجاوز الألف وكذا الأمر بالنّسبة إلى المصابين والماثلين من النقابيين والمواطنين أمام محكمة أمن الدولة والمحاكم العادية. جدّت هذه الأحداث الدّامية إثر تنفيذ المنظمة الشغيلة الإضراب العام يوم 26 جانفي 1978، واجهه النّظام البورقيبي بإطلاق يد مليشيات الحزب الحاكم لإحداث الشغب واتّخاذ ذريعة إطلاق النار على المتظاهرين العزّل مستندا على المؤسّستين الأمنية بقيادة زين العابدين بن علي –مدير الأمن الوطني آنذاك– والجيش التونسي في أوّل انفجار شعبي منذ 1956، ينتفض الاتحاد ضدّ خيارات السلطة القائمة وسياساتها الأمر الذي حدا بالعديد من الدّارسين إلى اعتبار أنّ هذه الأحداث تُعدّ مفصليّة في تاريخ البلاد وفي علاقة السلطة بالاتحاد العام التونسي للشغل.
جذور الأزمة
لم تستطع سياسة الانفتاح والخيار الاقتصادي الليبرالي لحكومة الهادي نويرة، والذي جاء على أنقاض فشل تجربة التعاضد، في بداية السّبعينات أن يصمد أمام تدهور الأوضاع المعيشية لعموم التونسيين حيث ارتفعت الأسعار بشكل لافت وتدهورت القدرة الشرائية وتنامت ظاهرة النزوح من الريف نحو المدن الكبرى إثر قوانين أفريل 1972 وأوت 1974 وجويلية 76 وتعمّقت الفوارق الاجتماعية والطّبقية بين طبقة استفادت من هذه القوانين فكدّست الثروات على حساب العمال وحقوقهم المنهوبة وبين سائر العمال والمهمّشين الذين يعيشون شظف العيش.
ومن رحم هذه الأوضاع الاجتماعية البائسة تشكّلت حركة مقاومة عمّالية تحمل بذور وعي نقابي وسياسي وتطالب بحقوق العمال وبالحريات كان لخريجي الجامعة التونسية ومراكز التكوين المهني والمعاهد التقنية الملتحقين بسوق الشغل الأثر البارز فيها. وبدأت العديد من القطاعات في خوض إضرابات العديد منها دون موافقة قيادة الاتحاد من قبيل إضراب النقل في 02 ماي 1973، وإضراب قطاع التعليم الثانوي في 28 جانفي 1975 والذي لم تعترف به البيرقراطية النقابية آنذاك واعتبرته غير شرعي. ففسحت المجال للتنكيل بمناضلي القطاع الذين طالهم التجريد من الصفة النقابيّة والنّقل التّعسّفيّة والطرد من العمل… وشيئا فشيئا بدأ نسق الإضرابات يتصاعد وبلغ ذروته سنة 1977 بفعل الغلاء المشطّ للأسعار وعدم التزام السلطة بتعهداتها المنصوص عليها ضمن “العقد الاجتماعي“، ورفض تبعات السياسة الاقتصادية الليبرالية التي أثبتت نتائجها الوخيمة على الطبقة العاملة وعموم الشعب التونسي. وفي هذا السّياق تأتي المسيرة التي نظّمها الاتحاد الجهوي للشغل بصفاقس يوم 9 سبتمبر 1977 وأحداث قصر هلال ومنزل بورقيبة في شهر أكتوبر وما تبعها من مواجهات عنيفة بين آلة القمع وعمال وأهالي المدينتين. كما تأتي جملة المسيرات والإضرابات الاحتجاجية القطاعية والجهوية التي سبقت الإضراب العام يوم الخميس 26 جانفي 1978.
هذا الوضع على المستويين الاقتصادي والاجتماعي تزامن مع وضع سياسي اتّسم بالانغلاق والتّشدّد واستقرار نهج الحكم الفردي المطلق (بعد أن تمّ إقرار نظام الحزب الواحد سنة 1963) والتضييق على الحريات العامة والفردية وعلى حرية الصحافة حيث أُقرّت الرئاسة مدى الحياة وتمّ الانقلاب على الاتحاد العام لطلبة تونس من أجل احتوائه والقضاء على النزعة الاستقلاليّة داخله. وقمع الحراك التلمذي والطلابي سنوات 72 و75 و76. ومنعت الأحزاب السياسية وحوكمت المعارضة السياسية من تيارات اليسار الجديد (مجموعات آفاق/العامل التونسي…) وحركة الوحدة الشعبية سنوات 73 و74 و75. ينضاف إليها بعد ذلك بداية الخلاف فالأزمة مع المنظمة النقابيّة. وما زاد الوضع تعفّنا لتتظافر بذلك كلّ الشروط الموضوعيّة ولتعيش البلاد انفجارا شعبيا غير مسبوق بروز الصراع داخل القصر بين أجنحة الحكم حول طريقة إدارة الأزمة والتي تخفي بدورها انشغالا بخلافة بورقيبة، ودخول الحبيب عاشور الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل طرفا في ذلك الصراع. وقد تمكّن الجناح المصلّب أو ما يعرف بـ“الصّقور” من بسط نفوذه وإمساكه بدواليب الدولة وإعلانه دون مواربة انتهاج سياسة العنف في التعاطي مع المنظمة الشغيلة. فاختزن بذلك الخميس الدامي بكلّ أسبابه المباشرة والعميقة أوجها متعدّدة لأزمة طالت مختلف نواحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
الاتحاد من الموالاة إلى معركة الاستقلالية
كان لزاما على السّلطة لضمان تمرير خيارها الاقتصادي الليبرالي أن تعمد إلى محاولة احتواء المنظمة النقابية فكان أن أعادت الحبيب عاشور على رأس المنظمة (19 جانفي 1970) بعد إبعاده عنها إثر ما يُعرف بـ“أزمة البابور“، ثمّ عُيّن بعد ذلك عضوا صلب اللّجنة المركزيّة للحزب الاشتراكي الدّستوري الحاكم وعضوا في ديوانه السياسي. ولم يكن الأمين العام لاتحاد الشغل يجد حرجا في الإصداح بموالاته للسلطة حدّ تجريم الاحتجاجات الطلاّبية وعدم تبنّي العديد من الإضرابات القطاعية كما أسلفنا الذّكر. بل إنّه أعلن صراحة أثناء انعقاد المؤتمر الرابع عشر للاتحاد (24-27 مارس 1977) عن مساندته المطلقة وموالاته لبورقيبة قائلا قولته الشهيرة “إذا كان البعض يتبنى الاشتراكية ويوالي الماركسية اللينينية فإنّ الاتحاد والنقابيين في تونس لا يوالون إلا الزعيم بورقيبة ولا يتبعون غير منهج البورقيبية، المنهج الأمثل والأنسب لتونس”. هذا وقد صادق المؤتمر نفسه بالإجماع على العقد الاجتماعي الذي التزم بمقتضاه الطّرف النّقابي بتحقيق السلم الاجتماعي وعدم تقديم أيّة مطالب على امتداد خمس سنوات. وقد نشرت صحيفة “لوموند” الفرنسية بتاريخ 31 مارس 1977عريضة أمضاها 600 نقابي، ندّدوا فيها بإقدام المنظمة على إمضاء هذا العقد. واعتبروه خرقا للممارسة الديمقراطية، باعتباره تمّ دون استشارة الهياكل النقابية، وضربا لمبدأ النضالية وتعدّيا على استقلالية القرار النّقابي.
إلاّ أنّ هذا الوئام لم يُكتب له أن يطول. فقد شهدت الأشهر الموالية نسقا تصاعديّا من الخلافات والتوترات كانت شرارتها الزيارة التي أداها الحبيب عاشور على رأس وفد نقابي إلى ليبيا، ما بين 14 و17 ماي 1977، والتي أثارت حفيظة الوزير الأول الهادي نويرة لما تناولته من مسائل لا تخصّ العمّال فقط بل تمتدّ إلى ما هو سياسي حول الجرف القاري، ولما شهده الخطاب النقابي من منحى تصعيدي غير معتاد إزاء تفاقم الأوضاع الاجتماعية والارتفاع الجنوني للأسعار.
وبدأت السلم الاجتماعية تتهاوى تدريجيّا بفعل تنامي الاحتجاجات العمّالية ورفض الشقّ الحكومي المتصلّب الزيادة في الأجور وانتهاجه خيار المواجهة المباشرة بقمع المحتجين والزجّ بهم في السّجون وبتسخير ميليشيات الحزب الحاكم للاعتداء على دور الاتحاد في مختلف الجهات وبالتلويح باغتيال الحبيب عاشور الأمين العام وقيام الاتحاد بسلسلة من الإضرابات الجهوية والقطاعية ردّا على التهديد باغتيال زعيمه، وإعلان السلطة اعتزامها القيام بمؤتمر استثنائي لإزاحة عاشور من المنظّمة.
وأمام هذا الوضع تكثفت اجتماعات الهياكل القيادية للمنظّمة وبرز صلبها تناول جملة من القضايا المستجدّة من قبيل استقلالية الاتحاد عن الحزب الحاكم، والتّوزيع العادل للثروات ونصيب العمّال فيه وقضايا الحريات العامة والفردية وحرية الصحافة… وقد عقد اتحاد الشغل هيئة إدارية يومي 16 و17 نوفمبر دعا فيها القيادة النقابية إلى الانسلاخ عن الحزب الحاكم وإلى عقد مجلس وطني التأم من 8 إلى 10 جانفي 1978، وأعلن فيه القطيعة. وأمام تصعيد السلطة عادت الهيئة الإدارية للانعقاد مرة أخرى يوم 22 جانفي 1978 دفاعا عن استقلالية الاتحاد ووجوده في ظلّ “تغلّب نزعة التصلب الهادفة إلى إعطاء صبغة قانونية لسياسة دكتاتورية قائمة على العنف والترهيب“. وقرّرت الإضراب العام تاركة للمكتب التنفيذي اختيار توقيته المناسب وكان ذلك الخميس 26 جانفي 1978، اختارت السلطة أن تواجهه بقوة الحديد والنار وباعتقال قيادات الاتحاد وتنصيب قيادة جديدة موالية لها في محاولة للقضاء نهائيا على كل نفس حر يرفض التّذيّل لها ويطالب بالاستقلالية عنها.