الرئيسية / الافتتاحية / الحرية لسهام بن سدرين
الحرية لسهام بن سدرين

الحرية لسهام بن سدرين

تضرب السيدة سهام بن سدرين عن الطعام منذ 14 جانفي ذكرى سقوط الدكتاتورية. وحسب آخر الأخبار فإن حالتها الصحية، وهي في الرابعة والسبعين من العمر، تدهورت بشكل لافت ممّا اضطر السلطات السجنيّة إلى نقلها إلى المستشفى حيث تقيم في قسم العناية المركّزة. وتخوض سهام بن سدرين هذا الإضراب احتجاجا على اعتقالها التعسّفي منذ أشهر بتهم واهية وهو ما يشي بأن الهدف الحقيقي من اعتقالها هو التنكيل بها ناهيك أنّه تمّ أخيرا التمديد في احتجازها دون إعلامها مسبقا ودون مبرّر قانوني وفقا للمعلومات التي قدمتها هيئة الدفاع.

يعلم الجميع أن سهام بن سدرين مثّلت، شأنها شأن العديد من نساء تونس ورجالها، رمزا من رموز النّضال ضد الدكتاتورية لمدّة عقود سواء كمناضلة سياسيّة أو ناشطة حقوقيّة ونِسويّة أو إعلامية أو ناشرة. وقد تعرّضت بسبب ذلك، هي وعائلتها، إلى صنوف من الاضطهاد. وقد كلّفها ظهورها في صائفة 2000 في إحدى القنوات التلفازية بالخارج قناة المستقلّة“- وتشهيرها بفساد العائلة الحاكمة، السّجن الذي غادرته بعد مدّة تحت ضغط الحركة الديمقراطية في تونس والعالم.

وبعد الثورة عُيّنت سهام بن سدرين على رأس هيئة الحقيقة والكرامة. ولئن تعرّضت للنّقد حتى من الأوساط الديمقراطيّة بسبب بعض التصوّرات والممارسات، وهو أمر طبيعي، فإنّها تعرّضت خاصّة لحملات التشوية من الجهات المستهدفة بالمحاسبة خاصة من أجهزة الدولة المورطة في جرائم التعذيب وانتهاك حقوق التونسيين والتونسيات. ومن الواضح أنّ اعتقالها اليوم مرتبط بنشاطها على رأس الهيئة الذي أقلق هذه الجهات في بلد ساد فيه تقليد الإفلات من العقاب خاصة أنّ هيئة الدفاع تؤكّد خلوّ الملف من مستندات جدّية تجرّم بن سدرين وهو ما يشي بأنّ اعتقالها يعني قبر ملف العدالة الانتقالية وبالتالي قبر المساءلة والمحاسبة معه.

بالطبع لا السيدة سهام بن سدرين ولا أيّة مواطنة أو مواطن آخر مستثنى من المساءلة القضائيّة في صورة ارتكابه جرما ولكن الجميع يعلم أنّ إقامة العدل، خاصة في القضايا التي تحمل طابعا سياسيا، لا يحقّقها نظام مستبدّ وقضاء مدجّن وإنّما يحققها نظام ديمقراطي وقضاء مستقلّ وقانون عادل. إن سهام بن سدرين، ما كانت ليُزجّ بها في السجن في نظام ديمقراطي حتّى لو كانت تواجه اتهامات تستند إلى وقائع، فالسجن في مثل هذا النظام استثناء لا قاعدة طوال فترة الأبحاث والتحقيقات، فما بالك إذا كانت التهم الموجهة إليها واهية وبالتالي فإنّ مكان بن سدرين في كل الحالات خارج السجن لا داخله.

لقد دخلت بلادنا من جديد، منذ انقلاب 25 جويلية 2021 في مربّع الاستبداد والدكتاتورية التي صفّت أو تكاد مكاسب الثورة الديمقراطية. ومن البديهي والحالة تلك أن تفتح السجون أبوابها من جديد للمعارضين والمنتقدين ولكلّ من لا تتحمّل وجوده الفئات المتحكمة في السلطة لتعارض مصلحة أو غيره. ومن البديهي أيضا أن تتمّ العودة، في ظلّ هذا الوضع القمعي، إلى إضرابات الجوع وسيلة للدفاع عن الحريات والحقوق خاصة لمن هم في السجن أو حتّى خارجه كما كان الأمر في عهدي بورقيبة وبن علي.

لقد أصبح الإضراب عن الطعام في عهد بن علي بشكل خاص وسيلة نضال شائعة في ظل سيطرة البوليس على كل الفضاءات ومراقبته حركات المواطنين وسكناتهم مدعوما بشُعَبِ الحزب الحاكم وميليشياته (لجان اليقظة) فضلا عن الإدارة. جرت العادة أن يكون الإضراب عن الطعام وسيلة من وسائل نضال المساجين السياسيين في معتقلاتهم. ولكن مع بن علي أصبح إضراب الجوع سلاح كل المقهورين للدفاع عن حقوقهم ليس في السجن فحسب بل خارجه أيضا، يستعمله الطالب والأستاذ والمعطل عن العمل والعامل والنقابي والإعلامي لأنّه أصبح الملجأ الوحيد بسبب الانغلاق السّياسي. وهو ما جعل آنذاك صحيفة لوموندالفرنسية تتحدّث عن المتلازمة التونسيّة” (le syndrome tunisien).

وما من شكّ في أن العودة إلى استعمال سلاح الإضراب عن الطعام في سجوننا اليوم، هي تعبير، كما ذكرنا أعلاه، عن عودة حالة الانغلاق السياسي في بلادنا بعد انقلاب 25 جويلية 2021 وما ينتج عن ذلك من سيادة القمع والجور في علاقة الدولة بمواطنيها حيث لا يجد المتضرّر من ملجئ للدفاع عن حقّه سوى وضع صحته في الميزان وهو ما يعرّضه لمخاطر عدّة أقصاها الموت وأدناها الإصابة بعاهات وأمراض بدنية. ولكن كما يقول المثل التونسي ما يلزّك على المرّ كان اللي أمرّ منّوفالكرامة تبقى بالنسبة إلى كلّ إنسان حرّ مسألة غير قابلة للتصرّف حتّى لو كان الثمن التضحية بالنفس.

كيف علينا أن نتصرّف كديمقراطيين اليوم وسهام بن سدرين تواجه خطر الموت؟ بالطبع لا يمكن أن ننتظر ممّن أقدم على وضع الناس ظلما وجورا في السجن وحرمهم من حريتهم وعرّضهم للتنكيل أن تهتز له مشاعر أو إحساس تجاه تدهور حالة بن سدرين جراء إقدامها على الإضراب عن الطّعام. إن المسؤوليّة كلّ المسؤوليّة تعود إلى القوى الديمقراطية التي ترفض الظلم وتناصر الحرية وتهدف إلى تركيز دولة القانون الديمقراطية والعادلة، للوقوف إلى جانب سهام بن سدرين وكل مساجين الرأي بمختلف انتماءاتهم.

ليس دور الديمقراطيين أن يطالبوا سهام بوقف الإضراب عن الطعام خوفا على صحتها فهي حين وضعت صحتها في الميزان كانت تدرك كل الإدراك ما ينتظرها من متاعب وما يتهدّدها من مخاطر وهي بالتالي ليست في حاجة إلى النّصح، بل إنّ دورهم، دورنا، جميعا هو ممارسة أكبر ضغط ممكن على السلطات لتلبّي مطالبها وعلى رأسها إطلاق السراح. إنّ تعرّض سهام بن سدرين لأيّ مكروه نتيجة إضراب الجوع سيبقى بلا شكّ يلاحق سلطة الانقلاب على مرّ الدّهور، لكنّه سيبقى يلاحقنا جميعا كتعبير عن تقصيرنا في الوقوف إلى جانبها مهما كانت الاختلافات في تقييم عملها على رأس هيئة الحقيقة.

إن معيار إيمانك بالحرية لا يظهر إلّا عندما تواجه ظلما ضحيّته خصمك أو مختلف معك في الرأي والموقف.

إلى الأعلى
×