بقلم كمال عمروسية
يفيد تقرير المرصد الاجتماعي التابع للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية أنّ الاحتجاجات للسنة الفارطة 2024 شهدت نسقا تصاعديا، ناهيك أنّ عدد التحركات مرّ من أكثر من 400 تحرك في الثلاثي الأول ليتجاوز حاجز الـ826 تحرك في الثلاثي الأخير من نفس السنة. هذا وقد شهدت بلادنا تحركات عديدة ومتنوعة مطلع هذه السنة. وقد بدأ الحراك يتنامى ويتطوّر شيئا فشيئا ويتّسع من الناحية الجغرافية، فمدن تونسية عديدة كانت مسرحا لتحركات مختلفة، كما أنّ قطاعات مختلفة شنّت احتجاجات وعبّرت عن عدم رضاها وسخطها.
جانفي : شهر الهزات والانتفاضات في تونس
الشتاء الساخن أو جانفي المجيد، تسميات عديدة تطلق وتنسب إلى شهر جانفي ويبدو أنه أصبح شهرا مقترنا في مخيال وذاكرة المواطن التونسي بالهزات والانتفاضات والثورات حتى أن عبارة “هاو جاء الشتاء” أو “هاو جاء جانفي” تعكس الآثار العميقة التي خلفتها أحداث جانفي على عقل وتفكير ومزاج الشارع التونسي. ولا نجانب الصواب إذا أكدنا أنّ حكام البلاد يهابون ويخافون الشتاء ويقرؤون له ألف حساب، وبذلك يكون لشهر جانفي وقع هامّ عند المظلومين والمكلومين والمقهورين وفي الآن نفسه يرعب الظالمين والمتعسّفين والحكام الجائرين.
ففي هذا الشهر تم تأسيس أعرق المنظمات التونسية، ذلك أنه في 20 جانفي 1946 تمّ تأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل، وكذلك في مطلع 1952 تمّ تأسيس المنظمة الطلابية والشرعية الوحيدة الاتحاد العام لطلبة تونس. وفي 18 جانفي سنة 1952 تمّ إعلان الكفاح المسلح ضد الاستعمار المباشر الفرنسي. ومثّل 26 جانفي 1978 حدثا تاريخيا مهمّا إذ شهدت بلادنا بمناسبة يوم الخميس الأحمر انتفاضة عمالية وشعبية ضد الفقر والجوع بعد إعلان الإضراب العام من طرف المنظمة الشغيلة الاتحاد العام التونسي للشعل. وفي نهاية ديسمبر من سنة 1983 انطلقت احتجاجات من مدينة دوز التابعة لولاية قبلي الواقعة في الجنوب التونسي، إثر رفع الدعم عن الخبز، وبعدها انطلقت انتفاضة واسعة دفاعا عن الخبز والحرية والكرامة الوطنية في كامل أرجاء البلاد أُطلقت فيها الذخيرة الحيّة على المتظاهرين العزّل وسقط العشرات من الشهداء وسجن المئات قبل أن يتراجع بورقيبة عن إجراء رفع الدعم بمقولته الشهيرة “نرجعو وين كنا”.
كما أنّ جانفي يقترن في ذاكرة شعبنا بملحمة مدينة الرديف في الجنوب التونسي حيث حوصرت القرية العجوز طيلة ستة أشهر وخطّ متساكنوها ملحمة ضد القهر والظلم والغطرسة، وقد شكلت أحداث الحوض المنجمي محطة متقدمة في مسار إسقاط الديكتاتورية في تونس، هذا المسار الذي تواصل مع اندلاع شرارة الثورة في 17 ديسمبر 2010 في سيدي بوزيد وبلغ ذروته في 14 جانفي 2011 مع فرار الجنرال بن على وإغلاق حقبة حكمه التي تعدّ من أحلك الفترات التي عاشها شعبنا. هكذا هو شهر جانفي شهر الملاحم والهزات والانتفاضات فكيف هي الحال هذه السنة؟
جانفي 2025 وتنامي الاحتجاجات
عرف شهر جانفي 2024 168 تحرّكا احتجاجيا بنسبة تراجع تقدّر بـ67% مقارنة بجانفي 2023. وإن كنّا على مشارف نهاية الشهر، فإنّه يمكننا الجزم بأن عدد التحركات والاحتجاجات سيشهد تطوّرا قياسا بالسنوات الماضية، فبلادنا لا زالت تشهد تحركات ذات طابع بيئي، وإن تراجع عددها، كما تمّ تنظيم أكثر من تحرك هذا الشهر يتعلق بقضايا الموقوفين ومساجين الرأي وآخرها يوم الثلاثاء 28 جانفي حين منعت السلطات التونسية وقفة احتجاجية أمام سجن منوبة دفاعا عن الحقوقية سهام بن سدرين.
يبقى الطابع الغالب للاحتجاجات هو المتعلق بالتشغيل الهش، فبعد إصرار الأساتذة والمعلمين النواب وانتزاعهم في 8 جانفي 2025 للقرار المتعلق بإدماجهم وإنهاء معاناتهم، شهدنا عديد التحركات والنضالات في قطاعات مختلفة. لقد تمّ إلغاء العمل بالمناولة رسميا بتاريخ 22 أفريل 2024 لكن للأسف ظلت الحكومات المتعاقبة تنتهج هذه الآلية المهينة والمذلة وهو ما دفع بعمال المجمع الكيميائي إلى تنظيم مسيرة يوم 10 جانفي للمطالبة بالقطع مع العقود الهشة، كما شنّ يوم 29 جانفي عمال وإطارات المجمع الكيميائي التونسي المظيلة1 إضرابا عاما عن العمل وإيقاف الإنتاج وغلق المصنع احتجاجا على تأخر صرف أجرة شهر جانفي مع التأخير في الإيفاء بالتزامات أخرى.
ومازال القيّمون والمرشدون التطبيقيون المتعاقدون مع وزارة التربية يواصلون نضالاتهم من أجل تسوية وضعيتهم وملفهم المهني على غرار المعلمين والأساتذة النواب الذين يشتغلون تحت نفس الأمر 1046، وبعد إعلانهم مقاطعة العمل والمرابطة يوميا أمام مقر وزارتهم التجأوا إلى التصعيد بالدخول في اعتصام مفتوح منذ يوم الإثنين 27 من الشهر الجاري. وبتاريخ 21 جانفي 2025 تم تنظيم وقفة احتجاجية من طرف أعوان الآلية المتعاقدين مع المركز الدولي للنهوض بالأشخاص ذوي الإعاقة بسيدي بوزيد والقصرين وطالبوا بإيقاف العمل بسياسات العقود الهشة التي تعني 1400 شخصا وإصدار نظام أساسي دائم يضمن لهم الاستقرار الوظيفي. كما لوّحت الجامعة العامة للنقل بالتصعيد إذا استمرت سلطة الإشراف في تجاهل المطالب المتعلقة بتسوية وضعية المتعاقدين صلب القطاع وأكّدت في بيان أصدرته أنها ستلجأ إلى كافة الأشكال النضالية بما فيها الإضراب.
وقد دخل عمال المركب الفلاحي “واد الدرب” في احتجاجات ميدانية على خلفية مطالب مهنية عالقة تتعلق بالأجور وبتسوية وضعية العملة المسترسلين الذين هم في انتظار الترسيم منذ تسع سنوات… هذا وقد منعتهم السلط الأمنية من التنقل إلى قصر قرطاج يوم 9 جانفي وأغلقت الطريق أمامهم في منطقة الشرايع من معتمدية سبيطلة من ولاية القصرين الواقعة في الوسط التونسي.
كما أطلقت العاملات الفلاحيات احتجاجات في الجهات على خلفية تواصل معانتهن ومآسيهنّ، إذ نُظّمت وقفة احتجاجية ثمّ مسيرة في الغرض في معتمدية جبنيانة من ولاية صفاقس الواقعة بالجنوب التونسي يوم الجمعة 17 جانفي بحضور رمزي لعاملات بالقطاع من مدينتي سيدي بوزيد والقيروان.
عاشت البلاد خلال شهر جانفي أيضا على وقع تحركات شبابية من أجل المطالبة بالحق في التشغيل إذ نظمت التنسيقية الوطنية لخرجي الجامعات لمن طالت بطالتهم يوم الخميس 16 جانفي تحرّكا وطنيا بساحة القصبة وطالبوا بإدماجهم في الوظيفة العمومية، ثم نظمت تحركات جهوية في عدد من الولايات من بينها سيدي بوزيد والقصرين وقفصة وقابس وذلك يوم 23 من الشهر الجاري. ويستعدّ الدكاترة إلى تنظيم وقفة وطنية يوم الخميس 30 جانفي بساحة القصبة على الساعة العاشرة صباحا وذلك تأكيدا على مطالبهم المشروعة وعلى ضرورة إيجاد حلّ جذري وإنهاء العمل بعقود الاستغلال.
هذه عيّنة من التحركات التي شهدتها بلادنا طيلة شهر جانفي فما هي آفاق هذه التحركات وماهي مآلاتها؟
الآفاق والمآلات
تعجّ البلاد بالتحركات التي بدأت تتوسّع رقعتها الجغرافية وتتنوع القطاعات المعنية بها ونعتقد أنه في القريب العاجل ستلتحق قطاعات واسعة من الوظيفة العمومية والقطاع الخاص بعد صرف القسط الأخير من الزيادة في الأجور بعنوان جانفي 2025 إذ لا تزال قطاعات واسعة تنتظر الالتزام بتنفيذ اتفاق 6 فيفري 2021 وقد يكون ذلك العنوان النضالي للموظفين في المرحلة القادمة.
الثابت أنّ هذه التحركات ستتواصل، فحكومة سعيّد عاجزة تمام العجز عن إيجاد الحلول لكل هذه القطاعات ولا حلول لها إلا تجاهل هذه المطالب المشروعة وليس في وسعها إلا التضليل والتسويف أحيانا والترهيب والتضييق أحيانا أخرى، فهذه التحركات المرتبطة بالتشغيل الهشّ عرّت رياء منظومة الشعبوية حول الدور الاجتماعي للدولة والاهتمام بالشباب والانتصار للفقراء والعاملات بالقطاع الفلاحي، فبمرور الوقت يتضح أن حكومة القصبة وساكن قرطاج لا بدائل لهم، بل إنّ منظومة الحكم الحالية متشبثة بالخيارات القديمة وليس في وسعها إلا مواصلة التبعية والخضوع للإملاءات الخارجية. فقانون المالية لسنة 2025 خلا من الانتدابات وحتى العدد المخصص لذلك فالنصيب الأكبر منه للأسلاك الأمنية والنزر القليل منه للصحة والتعليم العالي والتربية… وحتى عملية الإدماج التي فرضها النواب بتضحياتهم ونضالاتهم، فالأكيد أنها ستكون على حساب الجزء القليل المخصص للاستثمار. إن ميزانية 2025 واضحة المعالم والأركان، فكيف لميزانية تضمّنت وأقرّت التخفيض في كتلة الأجور أن تستوعب كل المطالبين بالشغل؟ إن الميزانية تشكو عجزا في الأصل ومداخيلها المقدرة بـ50.028 مليار دينار منها 45.249 مليار دينار مداخيل جبائية وإتاوات على الشعب المفقر، ومزيد الانتداب يعني فرض أداءات جديدة واللجوء إلى ميزانية تكميلية.
إن صلف الأنظمة المستبدة والعاجزة يواجَه بالنضال والتضحيات والعمل على مزيد التنظم. إن التهميش الذي انتفضت عليه الجماهير عشية الثورة التونسية مازال قائما، كما بات عجز منظومة الشعبوية واضحا وهو ما يفسّر تنامي الاحتجاجات، ففئات واسعة من الشعب ولعلّ شبابها بدأت تنزاح الغشاوة من على عينه وأضحى يبصر الأفق بوضوح ودون أوهام، وما عادت تنطلي عليه الحيل والمسكنات وبدأ يهبّ شيئا فشيئا دفاعا عن حقوقه الأساسية. إن هذا الوعي بدأ يتشكل تدريجيا وقد يتطوّر بسرعة وقد يظل بطيئا، ولكن في النهاية يظل تشديد وتيرة النضال والإيمان بأن القضايا العادلة مصيرها الانتصار حقيقة، ونحن نعتقد أن النظام الشعبوي الذي يسلك نفس خيارات أسلافه سيلقى حتما نفس المصير.