بقلم عمر حفيّظ
إلى العائدين إلى جنوب لبنان
إلى العائدين إلى غزّة.
عائدون خارج الوقت، عائدون بتاريخ جديد يشطب أوهام الجرّافات ويهوذا، عائدون إلى أعشاش الطّيور التي لم يُجفلها صرير المجنزرات وصوت المدافع فظلّت تحضن بيضها في شقوق المآذن والكنائس وتنتظر ربيعا آخر يأتي من رحم الأرض. عائدون يمشون على ما تبقّى من القلب صوب حنين لا نهائيّ، يمشون على تراب عمّدته الدّماء وزغاريد النّصر وأسماء الشّهداء.
هاهنا حجر، هاهنا شجر، ها هنا قمر…
عائدون بجراح غائرة في الذّاكرة، يحملون أشياءهم على ظهورهم: “بيتي تهدّم، ابني استشهد، وزوجي، واثنين من أهلي، وأنا عايدة أشمّ هواء غزّة“. هكذا قالت امرأة من غزّة، وهي تحمل فوق ظهرها ما بقي من ثياب الغائبين وعطورهم، وتسير حافية على تراب قُدّت منه أجساد السّائرين الأحياء والسّاهرين الشّهداء على قمر في أعالي الجليل والكرمل ونابلس.
عائدون يحملون أشياءهم على ظهورهم ويسيرون صوب الفجر في زرقته النّديّة: “احنا فداء المقاومة، وفداء السّيد، نازلين ع بيوتنا، ما بخوّفنا المحتلّ، ما بخوّفنا الصّهيونيّ المحتلّ“. هكذا قالت امرأة من الجنوب، وهي تلامس الرّيح بيديها كأنّها تحتضن الغائبين وتتّجه نحو الجنوب ممعنة في الإنصات إلى نداء النّهر والتّلال.
هكذا هم… دائما… مذ استنبت “العالم المتحضّر” هذه الشّوكة الصّهيونيّة في خاصرة الإنسانيّة، مذ شرع “العالم المتحضّر” في بناء حضارته بإبادة الهنود الحمر. يُذكر أنّ Christophe Colomb أرسل يحثّ الأوروبيّين على احتلال الأرض التي اكتشفها صدفة، وجاء في إحدى رسائله “هؤلاء السّكان يجب أن يكونوا خدما جيّدين وأتباعا مخلصين للكنيسة“.
هل يتكرّر التّاريخ؟؟؟
عائدون ليصونوا منابع مائهم وحدائقَهم ونباتاتهم المنزليّة من صدأ رصاص لم يُصب إلاّ الزّائل العارض، وليلجموا كولمب الجديد عن الكذب “سنقضي، سنمحو، سنزيل، سننزع، سنفكّك…“.
ظلّت “سينه” وهمًا، وظلّ هو واقفا في عراء التّاريخ أمام صمود أولئك المقدودين من الأشجار النّابتة هناك، ومن حجارة السّفوح والهضاب والجبال.
أنتم نجوم تضيء ليلنا العربيّ الجاثم على زمن نقاومه بما فينا من قوّة وعزم، زمن لم نختره، وإنّما أرغمنا عليه تجّار الدّين، والحكّام المستبدّون، وباعة الرّوبافيكا السّياسيّة الذين يميلون مع الرّيح حيثما ما مالت.
“أنت يا نفس أحدى صفات المكان” قال درويش. كذا هم… لا يرون لأنفسهم معنى خارج المكان، بل ليس لهم من صفات إلاّ ما يمنحهم المكان. المكان هو الصّفة، والمكان هو المكانة: الجنوب/الجنوبيّون وغزّة/الغزّيّون أو الغزّاويّون.
لم يعد الجنوب مكانا، وغزّة لم تعد مكانا، وإنّهما هما صفات: صفات المطر، صفات الشّجر، صفات العاشق، صفات الأرض…
في جنوب لبنان المطلّ على فلسطين المحتلّة نبت جيش أنطوان لحد(*) سنة 1978، جيش جرّار، ونبتت حواجز الموت والقتل على الهويّة، ونبتت عيون الجواسيس تراقب المقاومين وترسل أخبارهم… نبت كلّ شيء ينذر بالموت والفناء. لكنّ طوفان تحرير الجنوب اقتلع كلّ شيء.
فما الّذي بقي؟
بقي الجنوب موغلا في الصّمود وفكّ القيود. بقي الجنوب شاهدا عليهم يمضغون هزائمهم المتكرّرة في هذا الزّمن الأمريكيّ–العربيّ الوحشيّ. بقي الجنوبيّون يعاندون الموت ويغنّون كلّ فجر للغائبين:
الجنوبيّ، يا سيّدي، يشتهي أن يكون الذي لم يكنه
يشتهي أن يُلاقيَ اثنتين:
الحقيقة والأوجه الغائبة (أمل دنقل)
بقي الجنوبيّون يزرعون النّجوم في ظلماء العرب ويحرسون أشجارا كانت تقاوم وهي تحتضن النّار وتخبّئها كلّما حامت طائرات التّصوير والاستطلاع. في الجنوب كلّ شيء يُقاتل حتّى الحجارة الصّماء تقاتل.
ما الذي أخذه الأوغاد والقتلة؟ وما الذي بقي، إذن؟
بقيت غزّة بساحلها يضفر جدائلها ويهدهدها، بقي الكنعانيّون، ليتذكّر آدم صلصاله، بقي حيّ الشّجاعيّة، وحيّ التّفاح، وحيّ النّصر، وحيّ الزّيتون، وحيّ الرّمال، وحيّ الشّيخ رضوان، وحيّ الهوى، وحيّ الشّيخ عجلين، ومخيّم جباليا، ومخيّم النّصيرات، ومخيّم الشّاطئ…
بعد أن قامت القيامة، وامتدّت جسور الإمداد، إمداد الموت من الأرض إلى السّماء ومن السّماء إلى الأرض، من “الغرب–المتحضّر” إلى الشّرق، بقي الواقفون على جبال الكرامة، والذّاهبون إلى أقاصي الحقّ، بقي الموغلون في إذلال العدوّ، الصّامدون وحدهم في صحراء العرب وليلهم الأبديّ المخزي. بقي المحدّقون في شمس الحريّة، بقي العاشقون شايَ المريميّة، وبرتقال يافا وحيفا، بقي المولعون برائحة الأرض وميناء عكّا وحقول الحنطة والحبق والنّعناع. بقي الباقون الصّامدون، بقي أحفاد من صلبهم الأنقليز على نبات الصبّار وهجّرهم تحت أزيز الرّصاص ولكنّهم عادوا تحرسهم أقمار بعيدة، بقي من ربَّى الأيائل وخبّأ رسائل عشقه في أشجار البلّوط، بقي من غنّى درويش بصوتهم:
كنّا هنا قبل الزّمان، وههنا نبقى فتخضرّ الحقول
كم جيش جديد سوف يحتلّ الزّمان
يأتون كي يتحاربوا فينا. هم الأمراء والشّهداء نحن
يأتون يبنون القلاع على القلاع، ويذهبون، ونحن نحن
لكنّ هذا الوحش يسرق جلدنا وينام فيه فوق خيش فراشنا
ويعضّنا ويصيح من وجع إلى عيون الأقحوان
يا أرض لم أسألك: هل رحل المكان من المكان؟
أيّها الوافدون على نومنا العربيّ، سيروا حيثما شئتم. ولا تنتظرونا. فنحن مولعون بتمجيد الموتى والخرافات. لا تلتفوا إلينا فأنتم الذّاهبون إلى الفجر. وأنتم الموعودون بالمعنى. أمّا نحن، فواقفون على قارعة التّيه ننتظر أن تأتي ريح تحرّك مراكبنا التي مزّق أشرعتها تجّار الدّين والمستبدّون والانتهازيّون وساسة الصّدفة ورأس المال المتوحّش.
ــــ
(*) انتهى نادلا في مطعم صغير في تل أبيب.