الرئيسية / عربي / غزة: حول انتصار المقاومة الباسلة والشعب الصامد (الجزء الأوّل)
غزة: حول انتصار المقاومة الباسلة والشعب الصامد (الجزء الأوّل)

غزة: حول انتصار المقاومة الباسلة والشعب الصامد (الجزء الأوّل)

بقلم عمار عمروسية

“الاستعمار… هو عنف هائج لا يمكن أن يخضع إلا لعنف أقوى”
فرانز فانون

سويعات قليلة بعد العملية البطولية لطوفان الأقصى 7 أكتوبر2023 تحرّكت آلة البطش والدّمار الصهيونية لتنفيذ أفظع عدوان همجي في التاريخ الحديث للبشرية.
فجيش الاحتلال النازي ثابر طوال 471 يوما على محاولة تدمير جميع مظاهر الحياة بالقطاع الصغير جغرافيا، مساحته 364 كم2، والمحاصر جوّا وبرّ وبحرا منذ 16 سنة.
فدولة الكيان وضعت كلّ إمكاناتها الحربية والبشريّة بهدف الانتقام والثأر من المقاومة وشعبها دون أدنى ضوابط قيمية وقانونية.
فحرب الكيان في أدقّ تفاصيلها كانت بمثابة فصول مروّعة ليوميات صريحة من مجازر وحشية يكاد يحصل إجماع عالمي على اندراجها ضمن بوتقة الجرائم ضدّ الإنسانية التي جمعت بين مضامين حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والتّهجير القسري تحت غطاء حماية سياسية وقانونية وديبلوماسية للولايات المتحدة الأمريكية وأغلب الدول الغربية.
لقد أمعن الكيان النازي في مراكمة فظاعاته ضدّ الأطفال والنساء والشيوخ وحوّل القطاع إلى فضاء طارد للأحياء والحياة تحت مزاعم تحقيق النّصر المطلق وأبدى قادته صلفا كبيرا حكم على جميع جولات المفاوضات بالفشل.
فحكومة “نتانياهو” قادت عدوانها وفق منطق أحادي قائم على مقولة “ما لا يؤخذ بالقوّة يؤخذ بمزيد القوّة” مع السعي الدؤوب لتوسيع مجالات الحرب وفتح جبهات جديدة، الأمر الذي جعل الكثيرين من داعمي تلك الحرب القذرة يعتبرون استمرارها كلّ ذاك الوقت بمثابة العبث الذي يصبّ من جهة في الخانة الشخصية لبقاء “نتنياهو” في دفّة السلطة بعيدا عن أروقة المحاكم بتهم الفساد والرشاوي ومن جهة أخرى في استمرار تحالفه السياسي مع أحزاب الصهيونية الدينية اليمينية المتطرفة.
لقد أدار قادة الكيان وجوههم عن صرخات شعوب العالم المُنادية بوقف العدوان وداسوا على جميع أحكام الهيئات القضائية الدولية وعبثوا بكلّ مسارات التهدئة ووقف الإجرام ممّا أشاع على نطاق واسع بأن لا نهاية للمذابح وبأن لا أمل يرجى من مفاوضات العبث وشراء الوقت لتمكين قوى العدوان وداعميه من مساحات إضافية لمزيد إثقال كلفة الخسائر.
وسط قتامة المشاهد المأساوية لـ”هولوكوست” القطاع والتطورات الحادّة والفجئية بالمنطقة وضمن تحوّلات دولية من أهمّها حتميّة عودة “دونالد ترامب” يوم 20 جانفي إلى “البيت الأبيض” بعد فَوزه الكاسح على “بايدن” لمعت بارقة الأمل في وقف تلك المجازر البشعة وهو ما حقّقته اتفاقية وقف القتال التي دخلت حيّز التّنفيذ صبيحة يوم 19 جانفي.
وإسهاما منّا في تعميق الجدل الدائر وسط الرأي العام عربيا وعالميا حول طبيعة هذه الصفقة وتحديد الموقف السليم والموضوعي من مضامينها بعيدا عن الأحكام الاعتباطية الموغلة في العداء للمقاومة الفلسطينية ومحور الإسناد عموما.

إضاءة على الاتفاق

انطلقت منذ أسابيع المفاوضات غير المباشرة بين وفد “حركة حماس” بتفويض مطلق من كلّ الفصائل المسلحة الفلسطينية وفريق الكيان الصهيوني برعاية كلّ من الثلاثي قطر ومصر وأمريكا.
وبعد مسار معقدّ من المباحثات تخلّلتها أنباء متضاربة طورا تدفع إلى التشاؤم وحينا آخر نحو الانفراج واقتراب ساعة الهدوء بما يعني على الأقلّ وقف الأعمال العدوانية والشروع في تبادل الأسرى.
ومن المهمّ الملاحظة أنّ مؤشرات كثيرة كانت تدفع إلى تغليب المآل الأخير الذي تمّ الإعلان عنه يوم 15 جانفي وأعقبه نشر البنود الكاملة تقريبا لوثيقة الاتفاق التي جاء فيها:

  • وقف كلّ الأعمال القتالية.
  • دخول وقف إطلاق النّار يوم الأحد 19 جانفي على ساعة الثامنة والنصف ويتمّ عشية نفس اليوم بداية تبادل الأسرى ضمن جدول زمني محدّد ومفتاح تبادل مضبوط وأسماء متفق حولها.
  • انسحاب متدّرج لقوّات الاحتلال ينتهي بالخروج التّام من أراضي غزّة مع الإبقاء على شريط عازل لا يتحاوز عرضه 700 متر.
  • فتح المعابر الجاهزة لدخول شاحنات المواد الإغاثية لكلّ المناطق على أن لا يقل عدد تلك الشاحنات عن 600 كلّ يوم.
  • خروج كلّ المصابين والمرضى الذين هم في حاجة للتداوي بالخارج.
  • حقّ التّنقل الحرّ في جميع الاتجاهات داخل القطاع.
  • الانسحاب التدريجي من معبري “نتساريم” و”فيلادلفيا”.
  • الشروع في اليوم 14 من دخول الهدنة في مفاوضات المرحلة الثانية ومتطلباتها وعلى الأخصّ تثبيت الوقف النهائي للحرب وضبط آليات وكل ترتيبات إعادة الإعمار.

لقد اكتفينا باستحضار أهمّ بنود الاتفاق أولاّ لأن النصّ الكامل أضحى متداولا وثانيا لكثرة تفاصيله وتعقيداته المرتبطة بمواقيت مختلفة ضمن 3 مراحل منفتحة على بعضها ومتداخلة لتوفير أكثر ما يمكن من الضمانات للمقاومة التي تعلم جيّدا الطبيعة الغادرة للعدوّ.

حول أسباب نجاح جولة المفاوضات

لقد تابعت كلّ شعوب العالم طوال الـ15 شهرا الماضية ليس فقط همجية الكيان المارق وعقيدته العسكرية القائمة على التقتيل والتدمير وإنّما نماذج عديدة من سقوطه السياسي والقيمي الذي حكم بالفشل الذريع على كلّ جولات التفاوض وعلى الأخصّ في شهري ماي وسبتمبر الماضيين.
ومن المفارقات العجيبة أنّ ما تمّ رفضه سابقا هو تقريبا ما وقع التصديق عليه يوم 15من الشهر الجاري!!
ومعلوم أنّ لا شيء تغيّر في دفّة مقاليد الحكم بالكيان فرأس الحكومة هو نفسه وتحالفه الحزبي هو ذاته.
أكثر من ذلك فأوهام القضاء على المقاومة وشعبها وضم القطاع وبناء المستوطنات ما زالت المضامين الأنسب للخطاب السياسي الرّسمي لقادة الكيان النازي حتّى سويعات قليلة من إعلان هذه الهدنة.
لقد تطرّقنا لهذه المسألة اعتبارا لأنّ أسباب القبول متواجدة خارج هذا السياق فهي في عناصرها الأساسية كما يلي:

أ. صمود المقاومة المسلّحة

لقد قدّمت المقاومة الفلسطينية طوال 471 يوما نموذجا جديدا للبشرية جمعاء في طرق وأساليب مقارعة قوى الهيمنة والبطش.
فحركة التحرر الوطني الفلسطيني منذ عمليّة طوفان الأقصى فجر 7 أكتوبر 2023 وضعت فعالياتها في مستوى شديد الارتفاع من جميع الزوايا التنظيمية والأمنية وبطبيعة الحال العسكرية وهو ما سمح لها منذ البداية تأمين توجيه ضربة موجعة لأسس دعائم العقيدة الحربية والسياسية وحتّى المجتمعية لكيان الاحتلال.
فالمقاومة افتتحت معركتها من موقع التفوّق الشامل أمنيا واستخباريا وأدخلت “دولة” الكيان في حالة صدمة كبيرة وعدم توازن ترك تداعياته على مجريات المعركة حتّى نهاياتها.
فالمقاومة طوال أشهر العدوان وحتّى في أحلك الظروف وأصعبها بالنّظر لاختلال موازين القوى وخسارة عدد من القيادات الكبيرة مثل الشهداء “إسماعيل هنية” و”صالح العاروري” و”يحي السنوار” حافظت على صلابة بنيانها التنظيمي وبالأخصّ مركز القيادة والسيطرة وتمكنّت بسرعة عجيبة من أقلمة أنشطتها مع الظروف الميدانية المستجدّة.
فالمقاومة نجحت في توظيف جغرافيا القطاع مستفيدة من معرفتها الدقيقة بأرضها حتّى بعد تغيير ملامحها بالتجريف والتّدمير الواسع للبناءات.
فالأرض والركام قاتلا مع المقاومين وشبكة الأنفاق احتضنتهم وحمت مستودعات ذخيرتهم العسكرية ومن الممكن أيضا حفظت حياة الكثير من الأسرى الصهاينة.
لقد نجحت الفصائل المسلّحة وفي طليعتها “كتائب القسام” في تجديد قدراتها البشرية والتسليحية وأمكن لها منازلة العدوّ طوال هذه المدّة وفرضت على جيش “الحروب الخاطفة” الدخول في معركة استنزاف شاقة غير مألوفة لديه ممّا أفقد أقوى جيش بالمنطقة الكثير من مفاعيل تفوّقه التقني والعسكري وحكم على جلّ خططه بالعقم والفشل.
فالجيش “الذي لا يقهر” كُسرت شوكته وفقد تحت ضربات المقاومة صرح سمعته الذي شيّده من وهن الجيوش العربية التي أنهكها في كلّ حروبها الفساد والزبونية والتسيير البيروقراطي زيادة عن خواء العقائد العسكرية.
لقد ألحقت المقاومة الفلسطينية خسائر بشرية وماديّة ضخمة بالجيش الصهيوني وتمكنّت بأداء بطولي من الحدّ من تداعيات اختلال موازين القوى واتجهت بإرادتها القوية وصواب خططها الميدانية إلى الاستفادة القصوى من هذه المنازلة غير المتكافئة.

ب. صمود الحاضنة الشعبية

وضع الجيش النازي منذ اللحظة الأولى لعدوانه على “غزة” كلّ الغزاويين هدفا لأنشطته الإجرامية، فالجميع مثلما قال وزير الحرب المقال “غالنت” “هم ليسوا بشرا إنهم حيوانات” مضيفا بأنّه “لن يدخل إليهم لا ماء ولا أكل ولا دواء…”.
ومثلما أسلف أعلاه فجميع الجرائم ارتُكبت ضدّ المدنيين. فالحرب لم تكن مثلما يزعمون على “القسام” والسلاح وإنّما كانت على الشعب برمّته وخصوصا الأطفال لأنهم المستقبل والنساء لأنهن مصدر الحياة والتجدّد.
أدار جيش الاحتلال كلّ أعماله وفق مقتضيات التغيّير الديموغرافي المنسجم مع أهداف التطهير العرقي وحرب الإبادة.
فالجميع في غزّة وفق تصريح “سموتريتش” أحد كبار الوزراء المجرمين “إرهابيون ومخربون”.
فكلّ التقديرات تؤكد بأنّ عدد ضحايا آلة القتل قد يتجاوز 10 % من مجموع سكّان القطاع، وهي نسبة تحيل بصفة مباشرة إلى ثبوت جريمة الإبادة الجماعية.
فالحاضنة الشعبية للمقاومة دفعت فاتورة شديدة الارتفاع وعانت من ويلات تئنّ تحتها الجبال غير أنّها -أي الحاضنة- ظلت من جهة وفيّة لمقاومتها وملتصقة بها ومن جهة أخرى ثابتة على أرضها ورافضة لأيّ نوع من أنواع التهجير.

غزة: حول انتصار المقاومة الباسلة والشعب الصامد (الجزء الثاني)

إلى الأعلى
×