يتأكّد من يوم لآخر عمق النفق المسدود الذي باتت تعيشه بلادنا بفعل السياسة الموغلة في الانتقام من الشعب على مختلف الأصعدة والمستويات. وضع باتت رقعة نقده تتوسع حتى في صفوف جمهور مساندي سعيّد وانقلابه مثل نواب مجلس الدمى الذين عبّر بعضهم علانية ومن مصدح المجلس ذاته أنّ حصيلة حكم سعيد لم تتجاوز إصلاح مسبح فيما تعرف أوضاع الشعب الهوان والبؤس ولم يقدم إليه قيس سعيد إلّا “تقبيل الأطفال”. والمجلس ذاته لم يتجاوز كونه مكتب ضبط للمصادقة على قروض يدعي الخطاب الرسمي أنه قطع معها لحساب التعويل على الذات.
إنّ أوضاع الشعب المعاشية تعرف تدهورا مريعا. وها هي أزمة قوارير الغاز في شتاء قارس تتظافر مع أزمة البنّ والسكر والأدوية… وها هي الأسعار تواصل صعودها الصاروخي لتحول حياة التونسيات والتونسيين إلى جحيم باتت القناعة واسعة أنه حقيقي وليس ادّعاء من المعارضة و”المصطادين في الماء العكر”. فميزانية 2025 ليست سوى هجوما جديدا على الشعب ومواصلة في نهج النّهب الضريبي والجبائيّ علاوة على إثقال كاهل البلاد وأجيالها القادمة بالدّيون وسدّ أبواب الانتداب في ظل التعطّل الواسع لماكينة الإنتاج بحكم الاحتكام إلى نفس خيارات التّبعيّة العضويّة للرّأسمال الاحتكاريّ العالمي والخضوع الذليل لإملاءاته، وهو ما بدأت بعض الفئات الاجتماعية تعيه وتخرج للاحتجاج عليه.
لقد كان شهر جانفي شهر عودة ملامح الاحتجاج الذي بدأه الأساتذة والمعلمون النواب الذين أعلنوا الإضراب العام المفتوح ممّا جعل السلطة تمضي على قرار انتدابهم على دفعتين. إن هذا الانتصار المعنوي حفّز بقية فئات المعطلين من حاملي الشهادات على التحرك في ساحة الحكومة أو في شارع الثورة وآخرهم الدكاترة المقصيّون عن العمل الذين يستعدّون لمزيد التحرك في حال عدم الاستجابة لمطالبهم وهو المرجّح طبعا. ولئن تفككت تحركات الاحتجاج على عدم توفر قوارير الغاز المنزلي بحكم التوريد من الجزائر، كما تمّ إلغاء أو تأجيل الإضرابات المبرمجة في قطاعات أخرى (المناجم، الصحة…) فإنّ قطاع التعليم الثانوي أعلن الإضراب العام القطاعي ليوم 26 فيفري علما وأنّ هذا القطاع ظل محرار الحركة النقابية التونسية.
تتزامن مؤشرات عودة الاحتجاج الاجتماعي مع تصاعد مظاهر القمع والترهيب التي تطال المجتمع المدني والسياسي سواء بإصدار أحكام سجنية ثقيلة في عدد من القضايا التي لا يعلم الرأي العام تفاصيلها بما يؤكّد طابعها المفتعل إن جزئيا أو كلّيا، أو افتعال قضايا جديدة لنشطاء وإعلاميين في وقت تصاعد فيه نقد القضاء الطيّع والمفكّك الذي قرّرت مثلا هيئة الدفاع عن الشهيدين مقاطعة جلساته لاقتناعها بعدم جدية التعاطي مع القضيتين ومنع الإعلام من حضورها بل تحويل القضية إلى مجرّد قضية حق عام عادية يراد التخلّص منها بسرعة هروبا من كشف الحقيقة بالكامل في جريمة دولة واضحة المعالم، بعدما كان أنصار الانقلاب يروّجون أنّ قيس سعيّد سيتعامل مع الملف بغير الأسلوب الذي تعاملت به منظومات الحكم السابقة.
إن هذه الأوضاع الداخلية الهشّة والمتأزمة التي ترهق بلادنا وشعبنا هي التي تسهّل وضع القوى الاستعمارية أنفها في الشأن المحلي، وهو ما عبّر عنه بكل صلف أحد أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي الذي هدّد قيس سعيد وتوعّده دون أن ينبس هذا الأخير ببنت شفة عكس تدخله السريع ضد معارضيه ومنتقديه التونسيين. وهو ذات السلوك في علاقة بتصريحات ترامب في حضرة مجرم الحرب نتنياهو حول تهجير فلسطينيي غزة إلى أماكن بديلة (مصر والأردن وإن لم يقبلا فالصومال والمغرب) وتحويلها أي غزة إلى “مستثمرة أمريكية” وهو ما أدانه لفيف واسع من حكام العالم بما في ذلك حكام أوروبيون ولم يصمت عن الأمر إلا الحكام العرب الذين تنعقد ألسنتهم حتى على التنديد حين يتعلق الأمر بوليّ نعمتهم الأكبر، حاكم البيت الأبيض، وهو حال حاكم بلادنا أيضا الذي أكدنا مرارا أنّ خطابه حول القضية الفلسطينية مجرد مغالطة وهو ما ظل يتأكد يوما بعد يوم. وقد راج في الأيام الأخيرة أنه رفض استقبال أسرى مبعدين وهو ما علمه الشعب التونسي من وسائل الإعلام الأجنبية أولا وليس من أفواه المسؤولين التونسيين.
إن قناعتنا عميقة بكون هذا النظام الدكتاتوري اللاوطني واللاشعبي ليس فقط عاجزا كليا عن توفير أدنى متطلبات العيش لغالبية المواطنات والمواطنين ولكنه عاجز أيضا عن حماية سيادة البلاد في ظل ما يعرفه الوضع الإقليمي والدولي من اضطرابات وتوترات وتحولات تلقي بظلالها على محيطنا القريب ومنه تونس. وبطبيعة الحال فإنّ عجزه مرتبط بطبيعته الرجعية فهو بعيد كل البعد عن مصالح العمال والكادحين والمفقرين والمعطلين عن العمل وغالبية الشباب والنساء والعاملين في القطاع الثقافي بل هو مرتبط كل الارتباط بمصالح الأقليات البيروقراطية في الدولة وحفنة الأثرياء في القطاعين المنظم والموازي وسادتهم الأجانب من شركات احتكارية ودول ومؤسسات مالية. إنّ شعبنا وقواه الوطنية والتقدمية مطالبة بالتعويل على ذاتها في الدفاع عن حريتها وحقوقها وكرامتها وسيادتها، فالأنظمة الاستبدادية لا تبني أوطانا حرة ومحصّنة بل تبني عروشا فاسدة وطائرات جاهزة للفرار حين يجدّ الجدّ تاركة شعوبها تتخبط في المشاكل والانقسامات وفريسة للأجنبي وعملائه.
