الرئيسية / صوت الوطن / أن تشعل النار في نفسك وتحترق، فلا بدّ أنّ الأمر جلل
أن تشعل النار في نفسك وتحترق، فلا بدّ أنّ الأمر جلل

أن تشعل النار في نفسك وتحترق، فلا بدّ أنّ الأمر جلل

تونسيون يحرقون أنفسهم… كيف نفهم الظاهرة وما علاقتها بالأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في بلادنا؟

متابعة وحوار: سمير جراي

في أسبوع واحد فقط سجلت تونس أربع محاولات انتحار حرقا، مواطنون، شبابا ومن فئات عمرية مختلفة وفي أكثر من جهة لم يجدوا للتعبير عن احتجاجهم غير حرق أجسادهم بعد الشعور بالحيف والظلم وانسداد الأفق أمامهم.

في مدينتي سوسة وتونس أقدم شابّان على إحراق نفسيهما في محاولة انتحار، يومي الخميس والجمعة الماضيين، أضرم شاب عشريني في سوسة الخميس الماضي النار في جسمه أمام أحد مراكز الشرطة بحيّ الرياض ونقل إلى مستشفى سهلول في حالة حرجة، وأشعل كهل أصيل ولاية سليانة النار في جسده أمام مستشفى صالح عزيز بباب سعدون، يوم الجمعة الماضي، قبل أن تتدخل الحماية المدنية وتنقله إلى مستشفى الحروق ببن عروس.
ويوم 18 ديسمبر الماضي توفّي رجل في العقد الثالث من عمره وهو أب لأسرة، في ولاية تطاوين بعد أن أحرق نفسه، ولم يعرف عن الرجل أيّ أمراض نفسية أو تغيّر في السلوكيات.
ومنذ أيام حاولت امرأة في القيروان حرق نفسها وأقدمت تلميذة على إشعال النار في نفسها في أحد معاهد مدينة سبيطلة.
وعوضا عن البحث عن حلول جذرية لهذه الظاهرة الخطيرة في مجتمعنا ذهب بعض مساندي نظام قيس سعيد إلى التهجم على هؤلاء المحتجين الذين لم يبق لهم إلا أجسامهم ليحرقوها احتجاجا على أوضاع معيّنة يعانوها.
ومن المضحكات المبكيات أن البعض من أنصار “المسار” يحاول إقناع التونسيات والتونسيين أنّ هذه الحوادث وراءها أجندات سياسية تهدف إلى ضرب نظام قيس سعيد وإثارة الشغب والاحتجاجات!

الأستاذة رجاء بن سلامة

الأستاذة رجاء بن سلامة

رجاء بن سلامة: الانتحار حرقا لا يمكن أن يكون مؤامرة مخطّطا لها

بخصوص هذا الجدل الحاصل تقول الأستاذة بجامعة التونسية والباحثة رجاء بن سلامة لـ”صوت الشعب”: “الانتحار حرقا لا يمكن أن يكون مؤامرة مخطّطا لها، إنّه ناتج عن نوبة اكتئابيّة حادّة تسمّى “raptus mélancolique”، أمّا تكرّر هذا الانتحار في ظرف وجيز فيفسّر بالتّماهي وانتقال العدوى، ويفسّر أيضا بمرجعيّة البوعزيزي وبالأزمة الاقتصاديّة الخانقة”.
وبسؤالنا عن مدى ارتباط الظاهرة بالظروف السياسية والاجتماعية والعدل والمساواة – الاجتماعية – في كل دولة؟ قالت بن سلامة: “يكفي أن نترك الأرقام تتكلم عن نسبة الفقر والتضخم والبطالة وعدد المؤسسات المفلسة في تونس إضافة إلى غياب الاستثمار، فضلا عن الخطاب السياسي السلبي القائم على التهديد والاتهام”.
من المستساغ أن نفهم سعي النظام إلى إلصاق تهم التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي لكل معارض لا يتفق معه في الرأي وهذه طبيعة الأنظمة الاستبدادية، ولكن كيف يمكن لنا أن نفهم محاولات بعضهم تشويه حتى من أحرق نفسه كمدا وقهرا واعتبار أن مواطنا عاديا وفي كامل مداركه العقلية أحرق نفسه بغاية التآمر على النظام! أيّ سقوط أخلاقي وصل إليه بعضهم من الشامتين والحاقدين على أبناء الشعب؟
تواتر محاولات الانتحار حرقا أثار جدلا واسعا وسط دعوات إلى ضرورة البحث في الأسباب وطرق معالجتها، وقد أظهر تقرير الشهر الماضي للمرصد الاجتماعي التابع للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، أنّ 40% من حالات الانتحار التي تم تسجيلها في الربع الأخير من السنة الماضية كانت من الشباب، ويوثّق التقرير تسجيل 22 بين حالة ومحاولة انتحار، وكانت 17 من الحلات من الرجال و5 حالات من النساء، وانتهت 14 محاولة بوفاة المنتحر وجرى إنقاذ البقية.
التقرير كشف أنّ الظاهرة سجّلت حصيلة ثقيلة، فقد بلغت 75 حالة انتحار ومحاولة انتحار خلال السداسي الأوّل من 2024. وضحايا الانتحار في تونس ليسوا فقط من الشباب، بل كان نصفهم من المسنّين كما جرى تسجيل حالة انتحار لطفل.

الدكتور محمد نجيب بوطالب

الدكتور محمد نجيب بوطالب

الدكتور محمد نجيب بوطالب: عندما ينتشر السلوك الانتحاري بشكل متكرر فإنه يصبح أمرا يدعو إلى الانتباه والتساؤل

وعن تزايد ظاهرة الاحتجاج بحرق النفس (الانتحار) بشكل عام يقول الأستاذ الدكتور محمد نجيب بوطالب أستاذ علم الاجتماع في الجامعة التونسية (جامعتي قابس وتطاوين) لـ”صوت الشعب”: “ظاهرة الانتحار بشكل عام منتشرة في جميع المجتمعات وقد درسها علماء الاجتماع منذ عصور، لكن عندما ينتشر هذا السلوك الانتحاري بشكل ملحوظ ومتكرر فإنه يصبح أمرا يدعو إلى الانتباه والتساؤل عن الأسباب وعن مدى خطورته، فعالم الاجتماع الفرنسي دايفيد إميل دوركايم (David Émile Durkheim‏) ومنذ القرن العشرين بحث أنواع الانتحار وهي عديدة ومتنوعة ولكن ما نتحدث عنه اليوم يختلف عنها، فاليوم نلاحظ الانتحار الذي يعتبر مرضا نفسيا اجتماعيا، سمّاه دوركايم “l’anomie sociale”، وهو اختلال المعايير الاجتماعية، فعندما يصل الإنسان إلى حدّ من الاضطراب بين قدراته ورغباته وأفكاره وحين يصل الأمر إلى حدّ أقصى من الانسداد يجد نفسه في مفترق طرق فيختار أحيانا الطريق التدميري ويحتجّ بطريقة أو بأخرى والانتحار في نهاية الأمر هو احتجاج وهذا الأمر انتشر خاصة بعد حادثة البوعزيزي في تونس وبلدان عربية أخرى، وهي ظاهرة لها بعض مبرراتها لكنها تبقى من الناحية الاجتماعية والنفسية غير مبررة باعتبارها سلوكا طائشا ومبالغ فيه، فللاحتجاج عدّة أشكال أخرى لا تؤدي إلى تدمير النفس”.
بحسب الأرقام فإنّ الشباب هم من يمثلون الفئة الأكثر عرضة للانتحار، وهو ما يعكس الأزمة النفسية والاجتماعية التي لا شك في أنها تتطلب اهتماما عاجلا ويجب معالجتها.
يقول الأستاذ بوطالب: “ظهرت في تونس حالات عديدة في الفترة الأخيرة من الاحتجاج عن طريق حرق الذات وهو أسوأ أنواع الانتحار والاحتجاج”. ويؤكد: “من ناحية سوسيولوجية هو سلوك مضطرب نتيجة في التوتر اللامعياري الذي يصل إلى عدم القدرة على اختيار الحلول والمواقف لينتهي بطريقة مؤلمة وهو دليل على الفشل الفردي والمجتمعي، فهذه الحالات تتكرر دون دراسة ودون أن تخصص لها الدولة مراكز ومختصين لبحثها على الرغم من وجود آلاف الباحثين والخبراء في علم الاجتماع وعلم النفس في تونس، إلا أنهم يحالون على البطالة أو إلى أعمال في غير اختصاصهم وهو دليل على فشل الدولة والمجتمع في التعاطي مع مثل هذه الأزمات الاجتماعية الشائكة”.
تراجع الأمل وفقدان الثقة في المستقبل والحياة الكريمة، فضلا عن غياب القناعة بوجود حلول جدية لمشاكل الشباب تنتشلهم من الفقر والبطالة والتهميش تعدّ أبرز الأسباب التي تؤدي إلى الإحباط التام الذي ينجرّ عنيه الاحتجاج عبر الانتحار حرقا.
هذا اليأس لا شك أنه مرتبط بالأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يعانيها التونسيون ومرتبط خاصة بخطاب السلطة السياسية الباعث على القلق والحيرة والذي لا يدفع إلى الأمل في غد أفضل، ولا يعرض حلولا عاجلة لما آلت إليه الأوضاع على جميع المستويات.
وعن كيفية معالجة الظاهرة وبحثها يقول بوطالب: “على الدولة ومؤسساتها التربوية والجامعية أن تهتمّ بهذا الجانب وحيثما يوجد الشباب يجب أن يتمّ البحث واكتشاف أسباب هذه المشاكل وتعالجها وتبحث في الأسباب الحقيقية التي تدفع إلى مثل هذه السلوكيات، ولا بدّ من تنظيم استشارات علمية واجتماعية ونفسية للغوص في الظاهرة وتقديم الحلول”.

إلى الأعلى
×