الرئيسية / صوت الوطن / المتلازمة التونسية Le syndrome tunisien
المتلازمة التونسية Le syndrome tunisien

المتلازمة التونسية Le syndrome tunisien

بقلم جيلاني الهمامي

من “متلازمة الإضراب عن الطعام”…

يبدو أنه كتب على تونس المرور من متلازمة إلى أخرى. ففي عهد النظام “الدستوري” السّابق، وخاصّة في فصله “التجمّعي” في عهد بن علي كان اللجوء إلى الإضراب عن الطعام واحدا من الأشكال الأكثر شيوعا بين المناضلين السياسيين والمعارضين للنظام ونشطاء الحراك الشبابي والاجتماعي. فقد اضطر العديد من السياسيّين والنّقابيّين ونشطاء الحركة الطلابية وغيرهم إلى الدخول في إضراب جوع إمّا احتجاجا على ظلم لحقهم أو للمطالبة بحقّ سياسي أو مدني أو مادي أو مهني مهضوم الخ…
كان اللجوء إلى الإضراب عن الطعام أكثر الأشكال المتاحة في ظل انغلاق الأوضاع العامة وغياب أبسط مجالات التعبير إذ يصعب على السلطة وأعين البوليس التفطّن إليه قبل وقوعه أو منعه لأنّه ينبع من قرار فردي لا يمكن التحكّم فيه. وكان هذا الأسلوب يلقى الدّعم السّريع والتفاف الكثير من المساندين والمتعاطفين من أطياف عديدة رغم ما يفرّق بينها من اختلافات وخلافات وخصومات. كما كان يخلق صدى إعلاميا سرعان ما ينتشر ويتوسّع في الدّاخل وفي الخارج. ومن أشهر إضرابات الجوع ذاك الإضراب الجماعي الذي شنّه في أكتوبر 2005 عدد من النشطاء السياسيّين بمناسبة انعقاد “قمّة المعلومات” في تونس والذي استقطب اهتمام الرأي العام في الداخل وفي الخارج ومارس ضغطا قويّا على نظام بن علي وقام بدور كبير في التحسيس لما كانت تعانيه الحركة الديمقراطية في ظل هذا النظام الدّكتاتوري. ومن الإضرابات الشهيرة أيضا إضرابا الصّحفي توفيق بن بريك (2000) والمحامية-الحقوقيّة راضية النصراوي (2002 و2003).
لقد راج هذا التقليد النضالي في أوساط الحركة الديمقراطية التونسية وأصبح الشكل البديل عن أشكال النضال الأخرى التي ما عادت الأوضاع تسمح بها بالنظر إلى حالة الانغلاق السياسي التي تعيشه البلاد وتغوّل البوليس وأدوات القمع الأخرى الموجّهة إلى كلّ تحرّك جماعي وعمومي. ومع مرور الوقت تحوّل الإضراب عن الطّعام من شكل دفاعي يجنح إليه النشطاء والمناضلون في غياب أيّة إمكانية أخرى للاحتجاج إلى شكل هجومي يُعتمد لإحراج النّظام وحشره في الزّاوية وإجباره إمّا على اقتراف حماقة تعرّيه أكثر داخليا وخارجيا وإمّا القيام بتنازلات والقبول ببعض مطالب إضراب الجوع. لقد أصبح نظام بن علي في حالة دفاعية نسبيا نتيجة حملات التضامن الدولية التي تثيرها إضرابات الجوع مع مناضلي حقوق الإنسان والمعارضين بشكل عام.
لقد وجد المناضلون السياسيون والحقوقيون في “الإضراب عن الطعام” وسيلة لفك القيد الذي فرضه النظام على الحركة السياسية وفعاليات النشاط حتى وإن كانت هذه الوسيلة تعتمد على التضحية بـ”الجسد”، ما يمكن اعتباره أغلى ما يملك المضرب عن الطعام. لذلك فإن هذا الشكل النضالي يجسّد درجة الشجاعة والتّضحية والإيثار التي تحلّى بها الكثير ممّن لجأ إليه للدفاع عن حقوقه أو للاحتجاج عمّا لحقه من تعسّف وظلم أو للتّضامن مع مظلومين أو مضطهدين آخرين. ويمكن القول إنّ “سلاح الجسد” في معركة الحريات في تونس في عهد بن علي قد خلق منظومة كاملة حول “المضرب عن الطعام” لتأمين الرعاية الطبية وتنظيم حملة التضامن وإدارة المعركة الإعلامية في الداخل والخارج. وفي هذا المضمار نذكر النجاح الذي لقيه إضراب الصحفي توفيق بن بريك خاصّة والانتصار الكبير الذي حققه على الأصعدة المذكورة رغم تفاوت الإمكانيات مقارنة بالنظام “النوفمبري” وقتها.
لكل هذه الحقائق وغيرها صحّ القول إن النضال السياسي في تونس زمن الدكتاتورية له مميزاته التي أطلق عليها اسم “المتلازمة التونسية” le syndrome tunisien.

إلى “متلازمة إضرام النار في الجسد”

يعتبر محمد البوعزيزي أبرز رمز في تونس بل في العالم، خلال العقود الأخيرة على الأقلّ، ارتبط اسمه بتقليد إضرام النار في الجسد للاحتجاج على الانتهاكات حتى وإن كان قد سبقه غيره إلى ذلك. ومعلوم أنّ إضرام البوعزيزي النار في جسده هو الشكل الذي اختاره احتجاجا على منعه من ممارسة نشاطه كبائع متجوّل لكسب لقمة العيش. وبالنظر للتطورات التي أعقبت تلك “الحادثة” فإنّ ما أقدم عليه البوعزيزي أصبح رمزا تاريخيا لانطلاق مرحلة سياسية واجتماعية في تونس. ذلك أنه أشعل فتيل الغضب الشعبي في ولاية سيدي بوزيد ومن هناك في باقي الجهات ليؤدي في الأخير إلى ما يعرف بانتفاضة أو ثورة 17 ديسمبر – 14 جانفي التي أطاحت بنظام بن علي وأجبرت هذا الأخير على الفرار إلى السعودية وهو ما أعطى كل تلك الأبعاد الخاصة والرمزية لاحتراق البوعزيزي.
لقد شكلت هذه الحركة نموذجا جديدا أولا للاحتجاج وللتعبير عن الغضب وثانيا للاستعداد للتضحية رفضا للظّلم والمهانة، محوره مرة أخرى “سلاح الجسد”. ومثله مثل الإضراب عن الطعام الذي ميّز العشريات السابقة فإنه يمثل ردة فعل عنيفة، وإن كانت تعبّر في حالة الاحتراق، عن اليأس الشديد والإحباط الذي يستبدّ بعدد كبير من الشبان على وجه الخصوص. فعلى الرغم من توفر ظروف التعبير والاحتجاج بحرية بعد 14 جانفي 2011 فقد تواصلت هذه العمليات وأقدم عدد مهمّ من الأشخاص على إضرام النار في أجسادهم. وتندرج كل الحالات تقريبا في الاحتجاجات التي عرفتها البلاد على ظروف العيش البائسة التي كان الكثير يأمل في تحسينها بعد الثورة.
إن الانتقال من شكل “إضراب الجوع” إلى شكل “إضرام النار في الجسد” يعكس إحساسا أشدّ بالإحباط وفقدان الأمل بل فقدان الرغبة في العيش. ومأتى ذلك انسداد الآفاق في وجه جماهير واسعة من الشبان وحتى من الكهول الذين كانوا يعوّلون على الثورة في انتشالهم من حالة الفقر والبؤس ولكنهم صدموا بتواصل التهميش و”الحقرة”. وقد ترسّخت القناعة على نطاق واسع أنّ وعود قيس سعيد تماما كما كانت وعود حكومات النهضة وحلفائها في مختلف المراحل لا تعدو أن تكون أوهاما وخداعا وكذبا. هذا ما عزز الشعور بخيبة الأمل واليأس وأفقد الكثير الأمل في الخلاص من واقع الفقر والبطالة والبؤس ونسف لديهم التعويل على النضال الجماعي من أجل تغيير أوضاعهم. أكثر من ذلك فقد حلّت لديهمّ محلّ البحث عن حلول للخلاص الفرديّ، الرغبة في الانتحار ووضع حد للحياة. وتلك هي المفارقة الكبرى.
لقد تصاعد في المدة الأخيرة نسق الإقدام على إضرام النار في الجسد بشكل مشهديّ spectaculaire، دراماتيكي، يعدّ له مسبقا ويجري في الساحات العامة أو أمام مراكز السلطة لا في الخفاء أو في الزّوايا المظلمة، ويصوّر، حتى باتت ظاهرة مفزعة ومخيفة. وقد حصدت هذه العمليات ثلة من الشبان إناثا وذكورا وحتى بعض الكهول من مختلف الجهات. وصار من الجائز القول حيال تكاثر هذه الحالات إن تونس تقدّم للعالم مرة أخرى “وصفة” جديدة في الاحتجاج بما يسمح بتسميتها بـ”متلازمة إضرام النار في الجسد” كمتغيّر من “المتلازمة التونسية” une nouvelle variante du syndrome tunisien. ومن البديهيّ أنّ هذه الوصفة ليست الأسلم وإن عبّرت عن وجه من أوجه الاحتجاج على الظلم والقهر ولكنّه يبقى وجها سلبيّا علاوة على طابعه الفردي. إنّ هذه الوصفة تدعونا جميعا، معشر الثوريين والديمقراطيين التقدميين، إلى الاستنفار الشّديد وتطوير أشكال الوعي والتنظيم والنضال الجماعي الذي يبقى الطريق الوحيد والأسلم للتغيير الجذري حتى تتوفّر لكافة أفراد المجتمع الظروف التي تجعلهم يعيشون في طمأنينة مفعمين بالأمل وحبّ الحياة فلا يفكّر منهم أحد في إيلام ذاته أو القضاء عليها جوعا أو احتراقا. إنّ الخلاص الحقيقي جماعيّ أو لا يكون.
إنّنا نعيش في نظام قائم على الاستغلال والقمع. وهو نظام وحشي “حبيب الظلام عدوّ الحياة” وبقدر ما نسرّع بإسقاطه، نسرّع بالتقليل من عدد ضحاياه ومن بشاعة ما ينتج من آلام وأوجاع.

إلى الأعلى
×