تأجيج للصراعات للحفاظ على المصالح ومواصلة استنزاف ثروات الشعوب الأفريقية
بقلم سمير جراي
تعيش جمهورية الكونغو الديمقراطية أزمة خطيرة قد تتصاعد إلى حرب كونغولية ثالثة شاملة بل وربّما قد تجرّ معها الدول المجاورة والمنطقة إلى حرب أفريقية كبرى ثانية كالتي حدثت بين سنوات (1998-2003) وتصارعت فيها كل من جمهورية الكونغو الديمقراطية وأنغولا وزيمبابوي وناميبيا وتشاد وأنغولا والسودان من جهة، ضد رواندا وبوروندي وأوغندا من جهة أخرى.
ويتجه الوضع إلى مزيد التوتر، إثر المعارك الضارية الدائرة شرقي البلاد على الحدود مع دولة رواندا، منذ نهاية شهر جانفي، بين قوات الجيش الكونغولي وقوات المتمردين من تحالف نهر الكونغو (ARC)، ومن أبرز قواته المقاتلة حركة “إم 23” وهي الجناح المسلح لإثنية (عرق، قبيلة) التوتسي (أصلها رواندي) بالكونغو الديمقراطية.
سيطر متمردو حركة “23 مارس” المعروفة اختصارا باسم (M23) على مدينة “جوما” الاستراتيجية في شرق الكونغو الديمقراطية، وهي عاصمة مقاطعة “شمال كيفو” وتحتوي على ثروات هائلة تُقدر قيمتها بتريليونات الدولارات، وأغلبها ثروات معدنية مازال جلها غير مستغل وهو ما يسيل لعاب الدول الغربية التي اعتادت نهب ثروات الشعوب الأفريقية.
حقيقة الأحداث وأهمية المنطقة؟
وبالعودة إلى أصل هذه الحرب ولفهم حقيقة ما يحدث، تُعتبر الأحداث الحالية مجرد حلقة في سلسلة الصراعات بين البلدين لكنها تشكل أهمية قصوى بالنسبة لنظام العلاقات الدولية القائم، خاصة مع تراجع النفوذ الفرنسي في السنتين الأخيرتين في القارة السمراء وفقدان باريس لأهم قواعدها العسكرية وحلفائها، مقابل التقدم الروسي في الدول الأفريقية عسكريا وتشكيل الفيلق الأفريقي في محاولة لوضع خارطة جيوسياسية جديدة خاصة في دول الساحل وجنوب الصحراء، وكذلك مساعي الصين الاقتصادية الرامية إلى السيطرة على اقتصادات عدة دول أفريقية وتعزيز استثماراتها، وبلا شك أطماع الولايات المتحدة الأمريكية ومن ورائها بقية الدول الإمبريالية الاستعمارية التي لا تتوانى في تأجيج أيّ صراعات مسلحة ودفع وكلائها لتوريط الشعوب في حروب لا تنتهي ليتسنى لها لعب دور الوساطات وفرض شروطها في تقسيم ثروات شعوبنا خدمة لكبريات شركاتها وقوى رأس المال المتحكمة في بيع الأسلحة وصناعة القرارات في تلك الدول.
ما هي حركة “إم 23″؟
قلنا إن الأحداث الحالية هي حلقة في سلسلة الصراعات بين البلدين، فحركة “إم 23” تأسست سنة 2012، وهي منبثقة عن حركة مسلحة أخرى تحمل اسم “المؤتمر الوطني للدفاع عن الشعب” وتحمل مطالب الدفاع عن الإثنيات في منطقة كيفو الشمالية وخصوصا قبائل التوتسي، ويصفها قادتها بأنها حركة سياسية عسكرية، ويقولون إن إنشاءها جاء نتيجة لإخفاقات الحكومة الكونغولية، والمتمثلة أساسا في رفض تنفيذ اتفاقية السلام سنة 2009.
وتعتبر الحركة أن “التوتسي الكونغوليين” وغيرهم من الإثنيات في كيفو الشمالية يتعرّضون للتمييز والتهميش من طرف حكومة كينشاسا (عاصمة الكونغو).
و”إم 23″ هي في الحقيقة جناح مسلح لإثنية التوتسي في الكونغو، إذ يتقدمها قادة من هذه الإثنية، وهم مقربون من الجيش الرواندي، وتعود جذورها إلى التمرد المسلح الذي اندلع عام 1996 ضد الرئيس الراحل موبوتو سيسي سيكو بدعم من رواندا، ثم عام 1998 ضد حكم جوزيف كابيلا، واستمر حتى عام 2003، ثم تجدد بين عامي 2006 و2009. وبعد تأسيسها عام 2012 عقب الانفصال عن الجيش الكونغولي، خاضت “إم 23” حربا ضد الجيش الكونغولي، وأصبحت أكثر الحركات المسلحة نشاطا في الإقليم، وتمكنت من تحقيق عدة انتصارات إلا أنها سرعان ما تقهقرت وانتهى التمرد الذي استمر 18 شهرا نهاية عام 2012.
وفي سنة 2021 عادت بعض المناوشات بين الحركة وحكومة الكونغو وفشلت الوساطة التي أدارها الاتحاد الإفريقي بسبب رفض الكونغو الاعتراف والحوار مع “إم 23” إذ تعتبرها مجموعة إرهابيين تدعمهم رواندا وارتفعت على إثر ذلك وتيرة المعارك الدائرة بين الطرفين في الأيام الأخيرة من 2024 وبداية 2025.
وبتقدمها ميدانيا أدت المعارك إلى نزوح نحو ربع مليون شخص حتى النصف الأول من شهر جانفي، وتسببت في معاناة إنسانية كبيرة في المناطق الشرقية.
المسؤولون السياسيون في الكونغو الديمقراطية يقولون إن القوات المسلحة الرواندية هي التي شنّت الحرب على شرق البلاد، وهو ما يعدّ انتهاكا للسيادة وإعلان حرب عليها، وحذر رئيس جنوب إفريقيا سيريل رامافوزا نظيره الرواندي بول كاغامي، من أن عدم وقف هجوم المتمردين سيكون له عواقب.
دور رئيس رواندا بول كاغامي
ولكن لماذا يلقي الجميع بدءا بالحكومة الكونغولية ودولة جنوب أفريقيا وروسيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة مسؤولية قيادة هذه الحرب ودعم المتمردين على رواندا والرئيس بول كاغامي؟
لا يخفى أنّ بول كاغامي وهو من إثنية التوتسي نشأ في أسرة من التوتسي تعاقبت على عرش هذه القبيلة في فترات ما قبل الاستعمار البلجيكي، ونزح مع أسرته صغيرا إلى أوغندا فرارا من القمع الذي استهدف التوتسي قبيل نيل البلاد استقلالها، وهناك تربّى ودرس إلى أن تخرج وحظي بدعم زعيم جيش المقاومة الوطنية الأوغندي يوري موسيفيني وانخرط معه في الحرب وكان ضمن عدد من الشبان التوتسي الروانديين الذين شكلوا نواة جيش موسيفيني.
وبثقة من موسيفيني الذي وصل إلى الحكم، ونظرا لصداقته معه عُيّن كاغامي رئيسا للاستخبارات العسكرية الأوغندية، ووجه أنظاره نحو وطنه رواندا، فأسس مع عدد من التوتسي الروانديين المنفيين الجبهة الوطنية الرواندية، لخوض حرب ضد النظام في رواندا.
ولمّا انطلقت المفاوضات بين الجبهة ونظام هابياريمانا (أغلبه من الهوتو الذين أبادوا التوتسي) بدأ التحريض ضد التوتسي وضد المتعاطفين معهم من الهوتو، وبحلول سنة 1994 بلغت موجة التحريض أشدها وقُتل هابياريمانا إثر تحطم طائرته في كيغالي لتدخل البلاد في موجة قتل ومجازر جديدة وأودت الإبادة الجماعية في حق التوتسي في رواندا بحياة ما يقرب من مليون إنسان وفي غضون 100 يوم.
واتّهم كاغامي لاحقا بتدبير عمليات الاغتيال، ولوحق قضائيا في فرنسا وإسبانيا إلا أنّ المجازر سرَّعت بهجوم جبهة كاغامي التي تمكنت من الوصول إلى كيغالي بدعم من أوغندا ودول أفريقية أخرى، وهزمت الجيش الرواندي، وسنة 2000، اُنتخب كاغامي رئيسا لرواندا، وفاز العام الماضي بولاية رابعة للرئاسة بنسبة 99% من الأصوات.
تاريخ كاغامي يجعله الداعم الرئيسي حركة “إم 23” لمساندة “التوتسي” وأيضا للحفاظ على مصادر الأموال التي تتأتى من سيطرة الحركات التي يدعمها على مناجم وقطاعات حيوية شرق الكونغو.
حقيقة الدور الغربي ومساعيه إلى إنهاء الصراع
الرأي الأغلبي عند الشعب في الكونغو الديمقراطية يعتبر أنّ الغرب ينافق ولا يفعل ما يكفي لردع رواندا عن دعم حركة “إم 23” والأغلبية يعتبرون الرئيس الرواندي حليفا للغرب.
ويعد شرق الكونغو الديمقراطية محورا رئيسيا للمصالح الغربية، بسبب ثرواته المعدنية الوفيرة والمهمّة للصناعات الغربية، مثل الإلكترونيات، والمركبات الكهربائية، وتتوسع الأنشطة الغربية في المنطقة وتستغل الموارد، وانتشر الفساد في شركاتها، ويتهم الكونغوليون فرنسا بدعم رواندا. أمّا بلجيكا، فقد كان تورطها في الكونغو الديمقراطية متعدد الأوجه لارتباطه بالاستعمار، وأثرت السياسة البلجيكية على مرّ سنوات ما بعد الاستقلال عبر الإجراءات العسكرية والتأثير السياسي في تشكيل مسار الدولة المستقلة. كما حافظت بلجيكا على مصالح اقتصادية كبيرة في الكونغو الديمقراطية، وخاصة في التعدين وتسيطر شركاتها على القطاع.
ويوجه الكنغوليون أيضا الاتهامات إلى الولايات المتحدة بالتقاعس والتواطؤ والتنافس على المصالح الاقتصادية ونهب ثرواتهم في الشرق.
لا يمكن للتدخل الغربي في الصراع في الكونغو أن يكون بريئا ولا في صالح الكونغوليين ولا الروانديين رغم أن فرنسا تتحرك بشكل قوي لأن نجاحها يُعدّ عودة للقارة وتكريسا لنفوذها الاقتصادي والثقافي.
وتسعى التدخلات الغربية عموما إلى تأجيج الحرب والصراعات العرقية في المنطقة وعبر تصدير الأسلحة وحتى إرسال المرتزقة فقد أعلنت “قوات الدفاع الرواندية” أن أكثر من 280 مرتزقا رومانيا، يقاتلون مع القوات المسلحة لجمهورية الكونغو الديمقراطية استسلموا لحركة “إم 23” بعد سيطرتها على مدينة غوما.
ورغم المواقف العلنية للغرب الداعمة لضرورة وقف القتال إلا أنّ ما يحدث على أرض الواقع يدلّل على تورط عدة دول غربية ما انفكت تأجج الصراعات والحروب في أفريقيا بهدف المحافظة على مصالحها ومواصلة استنزاف ثروات الشعوب المسحوقة هناك بفعل الحروب والفقر.