الرئيسية / الافتتاحية / البلاد على صفيح ساخن
البلاد على صفيح ساخن

البلاد على صفيح ساخن

تواترات في المدة الأخيرة الأحداث الدالة على حجم التدهور الذي بلغته أوضاع الشعب. ففي ساعات معدودة جاءت الأخبار الأليمة من أم العرايس – ولاية قفصة – عن اصطدام حافلة الركاب الرابطة بين الرديف وصفاقس مع شاحنة ثقيلة لأحد الخواص ممّا أدى إلى وفاة ستة من الركاب وجرح عدد آخر وضعية بعضهم حرجة. في ذات الوقت جاء نبأ وفاة أخرى من سيدي بوزيد حيث أغمي على ثلاث طالبات توفّيت منهنّ اثنتان. ولم يكن الرأي العام الشعبي والطلابي قد استوعب الخبر ليأتي نبأ موت طالب في المبيت الجامعي “صبرة” برقادة بعد تعرّضه لأزمة صحية لم تتدخّل المصالح الإدارية لإنقاذه في الوقت المناسب. إن الخيط الناظم بين هذه الأحداث ليس فقط مسرحها الذي كان الجهات الأكثر فقرا وبؤسا، بل أيضا وأساسا مسؤولية الدولة في هذه الجرائم التي تعود إلى عدم وجود وحدات صحية استعجالية في المبيتات والأجزاء الجامعية، ومعاناة سكان الحوض المنجمي من تخلّف البنية الأساسية سواء المتعلقة بالطرقات في منطقة جبلية أو بالصحة إذ ارتبطت “كار الرديف صفاقس” في المخيال العام بتنقل الناس إلى مستشفيات صفاقس بحكم ضعف الخدمات الصحية في مجمل جهة قفصة التي تنتج ثروة هائلة (الفسفاط) ولا نصيب لأهلها منها سوى الأمراض والتلوث والموت.
إن مسؤولية الدولة لا غبار عليها وهي معضلة تعود لعقود كنتيجة حتمية للخيارات الاقتصادية والاجتماعية المتّبعة والتي لم تنتج إلا التفاوت الجهوي والطبقي وهو ما قاد الشعب التونسي إلى الثورة عليها سنة 2010-2011 وإسقاط نظام بن علي. لكنّ الحكومات المتعاقبة بمختلف مكوناتها “النهضوية” و”الليبرالية” أدارت ظهرها لمطالب الثورة واستمرّت في تكريس نفس الخيارات الرجعية. وبطبيعة الحال لم يَحُدْ قيس سعيد بعد انقلاب 25 جويلية 2021 عن هذه الاختيارات رغم شعاراته الشعبوية والثورجية. فقيس سعيد لا يفوّت فرصة في “خرجاته” الفرجوية على شاشات التلفزون للحديث عن “البؤساء والفقراء” وانتصاره إليهم. لكنّ ما يجري وما يجدّ في الواقع الملموس للناس نقيض ذلك. فكلّ مظاهر الفقر والبؤس تفاقمت خلال سنوات حكم سعيد والأرقام ومعاناة الناس اليومية أبلغ شاهد على ذلك. وإنّ ما استعرضناه ليس إلا عيّنة بسيطة من الواقع المرّ لمجتمعنا الذي تتفاقم فيها ظاهرة انتحار الأطفال وآخرهم بداية هذا الأسبوع تلميذة يافعة في السبيخة (القيروان) وقبلها بساعات تلميذة في سبيطلة (القصرين) أشعلت نفسها، وهذه الظاهرة تتصاعد بشكل لافت بما يعكس حجم الإحباط والمعاناة التي يقابلها البعض بـ”الانتحار الاحتجاج” الذي يمثّل إشعال النار في النفس أحد سماته البارزة في الفترات الأخيرة وهو ما يعتبر مؤشرا عالي الدلالة على حجم التدهور الذي طال حياة الشعب.
إن هذا التدهور يطال اليوم مجمل حياة التونسيات والتونسيين وها هي الأرقام الرسمية رغم كل المساحيق تشي بهذا التدهور من نسبة نموّ تدور دائما حول الصفر فاصل أو الواحد فاصل وتفاقم مديونية الدولة وانخرام الميزان التجاري وارتفاع نسبة التضخّم الخ… على أنّ حياة الناس وما فيها من بطالة وفقر وغلاء أسعار وفقدان المواد الأساسية وتدهور مريع للخدمات العامة والبيئة أبلغ في تعبيرها من تلك الأرقام… إنّ إجابة الدولة على مطالب الشعب لا تخرج عن ثنائية المغالطة الديماغوجية من جهة وعصا القمع من جهة أخرى. وها هي تونس عادت من جديد لتحتل مكانها “التقليدي” بعد “تنفيسة” ما بعد الثورة في نشرات الأخبار العالمية وتقارير وبلاغات المنظمات الحقوقية باعتبارها دولة استبداد وظلم. أما ردّ الشعب وإن كان مازال دون ما تقتضيه الأوضاع البائسة فإنّه في تطوّر حتى إن كان بطيئا، فتحت الرماد اللّهيب كما قال الشاعر. إن ردّ الفعل القادم من أم العرائس التي أعلنت نقاباتها الإضراب العام المحلي وخرج سكانها للاحتجاج وإعادة رفع مطالب انتفاضة الحوض المنجمي حول العدالة وحقوق الجهة لهو من مؤشرات الاستفاقة. وكذلك الأمر بالنسبة إلى هبّة الطلبة في سيدي بوزيد والقيروان وتفاعلهم مع دعوة قيادة الاتحاد العام لطلبة تونس إلى التحرك للاحتجاج والتعبير عن الغضب ورفع مطالب الطلاب. إن مثلث قفصة/سيدي بوزيد/ القيروان هو مثلث الفقر والتهميش وفي الآن ذاته هو مثلث الاحتجاج والانتفاض والثورة فلا خيار أمام شعبنا في كل الجهات سوى الخروج للنضال الواعي والمنظم دفاعا عن الحقوق الأساسية المتعلقة بالحق في حياة كريمة وهو ما لا يمكن أن تحققه الشعبوية مثلها مثل المنظومات السابقة التي لا تختلف عنها إلا في الخطاب المبرقش بالشعارات الفارغة التي تهدف إلى المغالطة لا غير لحماية مصالح نفس الأقليات المحلية والأجنبية التي دأبت على نهب تونس واستغلال شعبها. وهو ما يشتدّ اليوم ويتّخذ أبعادا غير مسبوقة بحكم الأزمة التي ترجّ النظام التونسي كما ترجّ النظام الرأسمالي العالمي الذي يبحث عن حلّها على حساب قوت العمال والكادحين والشعوب وحريتهم. إنّ خلاص شعبنا لن يكون إلا عبر خيارات اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية جديدة، خيارات وطنية، شعبية وديمقراطية تعبّر عنها مؤسسات نابعة من الإرادة الشعبية الحرة وهو ما لن يتمّ إلا على أنقاض النظام السياسي الاقتصادي الاجتماعي القائم الذي يؤبّد تخلف مجتمعنا ومعاناة شعبنا بمختلف طبقاته وفئاته الكادحة والشعبية. فإلى العمل الجاد، إلى التوعية والتنظيم والانخراط في النضال الشعبي وتمثّل مطالب الكادحين والفقراء وتحويلها إلى برامج عمل وتعبئة.

إلى الأعلى
×