الرئيسية / صوت الشباب / المطالبة بالتشغيل، شعار متجدّد في ظل سلطات متعاقبة متمسّكة بعدم الإيفاء به
المطالبة بالتشغيل، شعار متجدّد في ظل سلطات متعاقبة متمسّكة بعدم الإيفاء به

المطالبة بالتشغيل، شعار متجدّد في ظل سلطات متعاقبة متمسّكة بعدم الإيفاء به

تحرّكات أصحاب الشهائد العليا المعطّلين عن العمل الأخيرة نموذجا

بقلم منتصر سالم

تصاعدت المطالبة بالحق في التشغيل من طرف أصحاب الشهائد العليا المعطلين عن العمل بشكل ملحوظ منذ شهر ديسمبر 2024 إلى حدود شهر فيفري الجاري، وذلك في ظل منظومة تعليمية لا تحقق إدماجا واضحا لخرجي التعليم العالي والبحث العلمي وهي ذات المنظومة التي سبقت سنوات ما قبل ثورة 17 ديسمبر 2010 – 14 جانفي 2011 التي كان من بين شعاراتها الأساسية “الشغل” وهو ما لم يتحقق لحدّ اليوم، بل إنّ تراكم دفعات الخرّجين من سنة إلى أخرى وفي مختلف الاختصاصات فاقم من هول الكارثة حتى باتت تعدو وكأنها بلا حلّ.

المعطلون عن العمل: عزم لا يلين في فرض حقهم المشروع في الشغل

وللمطالبة بـهذا الحق يخوض أصحاب الشهائد العليا المعطلون عن العمل سلسلة من التحركات الاحتجاجية المختلفة جهويا ووطنيا للمطالبة بالانتداب لخريجي مختلف الاختصاصات الذين طالت بطالتهم وكذلك للخرّيجين الجدد ويساندهم الاتحاد العام لطلبة تونس في هذا الملف الحارق الذي يهمّ في نفس الوقت الطلبة الحاليين والخرّيجين المعطلين.
ففي 13 جانفي الماضي نظّم أصحاب الشهائد المعطلين عن العمل وقفة أمام وزارة التربية للمطالبة بالانتداب نظرا للشغورات المسجلة في هذا القطاع بالذات والذي لم يعد يحتمل اللجوء إلى الحلول الهشة مثل إسناد النيابات أو تقليص عدد الفصول داخل كل مؤسسة بالترفيع في عدد التلاميذ في الفصل الواحد، لما لذلك من مضارّ أكيدة على العملية التعليمية برمّتها. وتلا تلك الوقفة بتاريخ 16 جانفي 2025 تحرك احتجاجي وطني في ساحة القصبة لأصحاب الشهائد العليا الذين طالت بطالتهم للمطالبة بالتشغيل، وقد حضر هذا التحرّك عدد هام من المعنيين تكبّدوا عناء السفر من مختلف جهات البلاد.
واستؤنفت التحركات في مستهلّ فيفري بوقفة احتجاجية في الثالث منه لمجموعة من المعطلين عن العمل بالتنسيق مع الاتحاد العام لطلبة تونس بساحة القصبة حيث تمّ تطويق المحتجين بمكان تجمّعهم ومنعهم من الخروج في أيّ اتجاه، بل وتعنيف البعض منهم. وهو ما يمثل انتهاكا لحقهم في التجمع السلمي، لتتحوّل مجموعة منهم إثر انتهاء التحرك إلى المسرح البلدي بالعاصمة للتنديد بالانتهاكات البوليسية التي طالت التحرك علاوة على التعريف بالملف، وتجدّدت الحركة بتاريخ 6 فيفري بساحة القصبة. وقد قوبلت جميع هذه التحركات إن على مستوى العاصمة أو في بعض الجهات بالمماطلة والتسويف.

في باب أسباب استفحال الظاهرة

“الشغل حق دستوري”، “لا للتشغيل الهش”، المناولة شكل من أشكال العبودية”… لا تظنوا أنّ رافعي هذه الشعارات هم من المعطلين عن العمل أو المكتوين بنار البطالة، بل إنها أصبحت توشح الخطاب الرسمي لأعلى هرم السلطة عندما يتوجه إلى أعوان التنفيذ. لكن أين نحن منها في الواقع المعيش؟ لا شيء تحقق ولا شيء في الأفق يُبشّر أنها ستتحقق. فالمنظومة الحالية مصرّة على السير على خطى سابقاتها في مجالات عديدة وفي هذا المجال بالذات، المتأتّي من المنوال التنموي المتّبع بالأمس واليوم. فكيف لمن يطبّق نفس السياسات أن ينتظر نتائج مختلفة، ومختلفة جوهريا حتى يتسنّى التغلب على إرث الماضي البعيد منه والقريب ومواجهة ما يطرحه الحاضر من تحديات.
ففي غياب مخططات واضحة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي للمنظومات المتعاقبة والتي تبيّن أنها لا تخدم سوى مصالح طبقية لأقلية تُراكم الثروة في قطب على حساب أغلبية كادحة تراكم الفقر والبطالة والتهميش في القطب المقابل. فالتبعية الاقتصادية لتونس على مرّ السنوات للدوائر المالية العالمية وتواصل سياسات الارتهان فرضت على المنظومة التقيّد بإملاءات مجحفة ليس أقلّها غلق باب الانتداب في القطاع العمومي، ممّا عقّد وضعية الخرّجين بصفة خاصة وأوضاع الشباب بصفة أعمّ الذي يجد الأبواب موصدة أمامه، فيلتجئ للحلول الفردية والكثير منها مدمّر له.
كما يمثل فشل منظومة التعليم العالي والبحث العلمي “إمد” والتي سُوّق لها عند إنشائها على أنها الحلّ السحري لقضية التشغيل بصفة خاصة إذ هي تفرّع الاختصاصات وتنوّعها طبقا لحاجيات سق الشغل التونسية والعالمية، لكن سرعان ما اتضح أنها ليست أفضل من سابقتها، بل أسوأ منها بكثير في مجال التشغيلية بالخصوص. وإذا ما سارعت بلدان أخرى باستخلاص الدرس من تطبيقها لبضع سنوات وتخلّت عنها مستنبطة ما يلائمها من منظومات، فإنّ مسؤولينا رغم إقرارهم بفشلها يصرّون على التمسّك بها، رغم ما سبّبته وتسبّبه من كمّ من الإحباط لعدم تجانس تفريعاتها المختلفة مع متطلبات سوق الشغل المحلية أولا وبالذات. بل إنها ساعدت فقط البلدان النهابة على استنزاف مقدّراتنا البشرية بفتح الباب أمام خيرة خرّيجينا لتنعم بكفاءاتهم وهم الذين موّل الشعب التونسي بعرقه دراستهم طوال مسارهم التكويني.
وهكذا تتحوّل الجامعة التونسية، كما المدرسة، من فضاء لنشر المعرفة العلم ولتطوير البحث العلمي وتمكين الشباب من المهارات الضرورية التي تخوّل له المساهمة في بناء ذاته ووطنه، أي من فضاء يبلور فيه هذا الشباب ملامح مستقبله ومستقبل بلاده إلى فضاء لتلقينه بعض المعارف لن تسعفه من السقوط في الإحباط والتهميش وفقدان الثقة في الذات وفي المستقبل.

لكن هل يعني ذلك التسليم بالأمر الواقع والقبول به؟

ما لا يُفتكّ بالنضال يُفتكّ بمزيد النضال

إن المؤشرات المتوفرة حول قادم برامج السلطة القائمة وليس أقلها ما جاء في قانون المالية لسنة 2025 تؤكد استمرارها في نفس سياسات التقشف والارتهان ومواصلة جعل خرجي القطاعات جيوشا من المعطلين عن العمل، وهو ما سيؤدّي حتما إلى تأجيج هذه التحركات التي وجب تنظيمها لإكسابها مزيدا من الفاعلية والنجاعة، ولإبعادها عن حالة التشرذم والتشتت التي هي عليه اليوم. إنّ المعطّلين من حاملي الشهادات كانوا سباقين في الاهتداء إلى ضرورة التنظم في سنوات الجمر، وكان أن شيّدوا صرحا عظيما، “اتحاد أصحاب الشهادات المعطلين عن العمل”، الذي لملم شتاتهم وجعل منهم قوّة قارعت الدكتاتورية وهزمتها في أكثر من مناسبة، وجعلتهم غداة الثورة يواجهون استحقاقات التشغيل بشكل أيسر. إن حالة التشتت التي تعيشها الحركة اليوم، والروح القطاعية السائدة داخلها وتضارب المطالب تضعف الحركة وتسهّل اختراقها من قبل السلطة وأعوانها، والحال أنّ عددهم اليوم في تزايد وأنّ لديهم بين أيديهم إرث نضالي لا يتوفر لغيرهم من القطاعات.
كما أن الشعارات التي قامت الثورة على جزء منها مازالت ذات راهنية كبيرة، فلا “شغل حرية كرامة وطنية” فقد من بريقه ولا أيضا “التشغيل استحقاق يا عصابة السراق”. فمن المهمّ الإشارة إلى ترابط شعارات الثورة وحينيّتها في هذه المرحلة كمطالب متواصلة داخل المسار الثوري التونسي الذي يستوجب استنهاضه ضدّ الثورة المضادة التي تحاول غلق قوس الثورة نهائيا والعودة إلى مربع ما قبل الثورة، وهذا لن يكون إلا بمزيد النضال.

إلى الأعلى
×