ما قصّة المجلس التونسي للاجئين؟
بقلم سمير جراي
قال المتحدث باسم مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان ثمين الخيطان خلال حديثه للصحفيين في جنيف (الثلاثاء 18 فيفري) إن عددا كبيرا من المدافعين عن حقوق الإنسان والمحامين والصحفيين والنشطاء والسياسيين في تونس يقبعون رهن الاحتجاز قبل المحاكمة، ويواجهون اتهامات “فضفاضة وغامضة، على ما يبدو نتيجة ممارستهم لحقوقهم وحرياتهم“. ونبه إلى أن ذلك “يثير مخاوف تتعلّق بانتهاك الحق في حرية التعبير، والمحاكمة العادلة والإجراءات القانونية الواجبة“.
وتحدث الخيطان عن قضية مدير المشاريع في المجلس التونسي للاجئين، عبد الرزاق الكريمي، الذي قال إنه يدخل أسبوعه الثالث من الإضراب عن الطعام في الاحتجاز. واعتقل في 3 ماي من العام الماضي مع رئيس هذه المنظمة غير الحكومية مصطفى الجمالي. وكلاهما متهمان بإيواء مهاجرين من جنوب الصحراء الكبرى بشكل غير قانوني.
ماهي قضية مصطفى الجمالي وعبد الرزاق الكريمي؟
يوم 6 ماي 2024 قال رئيس الجمهورية قيس سعيد إن الأموال تتدفق للجمعيات المعنية بالمهاجرين غير النظاميين بالمليارات متسائلا عن: “كيف يمكن لجمعية أن تنشر إعلان طلب عروض في إحدى الصحف اليومية للنزل لإيواء المهاجرين؟“
ويتبين لنا أن الجمعية التي تحدث عنها قيس سعيد هي “المجلس التونسي للاجئين” الذي نشر طلب العروض لإيواء عدد من طالبي اللجوء واللاجئين، من بينهم أطفال من فاقدي السند، ونتساءل هنا عن أي جرم قانوني ارتكبته الجمعية بإعلانها طلب العروض وهي تعمل وفقا للقوانين التونسية؟ فالمجلس التونسي لللاجئين هو جمعية غير حكومية تتلقى تمويلاتها من الأمم المتحدة، وتساعد وتعمل على تقديم الدعم لطالبي اللجوء واللاجئين في تونس وتتعاون مع السلطات التونسية في وضع الخطط و الاستراتيجيات لإدارة الصعوبات التي يواجهونها، ويعمل المجلس التونسي لللاجئين مع السلطات التونسية الرسمية والمفوضية السامية لشؤون اللاجئين وليس له عمل يذكر مع بقية منظمات المجتمع المدني.
المجلس التونسي لللاجئين أسسه مصطفى الجمالي (سنة 2016) وهو مسؤول أممي سابق تقلد منصب المدير الإقليمي الأسبق للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين، جرى إيقافه صحبة مدير المشاريع بالمجلس عبد الرزاق الكريمي بعد اقتحام عشرات من أعوان الشرطة مقر المجلس إثر حملة تشهير واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي في شهر ماي من العام الماضي.
لنفترض جدلا أن المجلس التونسي لللاجئين خرق القانون وهناك شبهات فساد مالي أو سوء تصرف في التمويلات التي يحصل عليها، أليست المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة قادرة على تحديد الخلل المالي في برامجها وهي التي تحرص في تمويلاتها على الدقة والحرفية والشفافية العالية وتعتمد في حساباتها المالية على خبراء محاسبين ومديري برامج وغير ذلك من الإجراءات؟ وإذا افترضنا أن المفوضية لم تتابع برامجها بالحرفية القانونية اللازمة، كيف يمكن اعتبار طلب العروض لإيواء لاجئين جرما وهو من صميم عمل المجلس ومن أهداف تمويل المفوضية لهذا المشروع؟
أولا، نشرت الجمعية مشروعها على موقعها الإلكتروني ومنه نفهم أن هذا المشروع يمتد على كامل سنة 2024 ويهدف إلى تهيئة ظروف استقبال مناسبة وبيئة حماية سليمة للأشخاص الخاضعين لولاية المفوضية وتمتيعهم بالفرص المواتية، والمساعدة في تلبية الاحتياجات الأساسية، ومن ضمنها ووفقا لمعايير وقوانين المفوضية السامية، تمويل توفير الملاجئ المؤقتة وغيرها من أماكن الإقامة إلى غير ذلك.. أوَليس طلب العروض للإيواء ينصب في صميم عمل المجلس والمفوضية؟
ثانيا، مهما قدم المجلس من فرص إقامة بالنزل أو غيرها للاجئين فهي ليست كافية أمام الأعداد الكبيرة للمهاجرين والأطفال من فاقدي السند من اللاجئين وقد انتقد المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في بيان له بتاريخ 14 ديسمبر 2019 النقص الكبير في الخدمات المقدمة مبينا أنه “في غياب إطار قانوني وطني للجوء يوضع طالبو اللجوء واللاجؤون في تونس تحت حماية المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين وهي التي تتكفل بدراسة مطالبهم“.
المجلس التونسي للاجئين مكلف رسميا من مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين
ويواصل بيان المنتدى: “قامت المفوضية مؤخرا بتكليف المجلس التونسي للاجئين، وهو جمعية تونسية ممولة كليا من طرف المفوضية، للعمل على حماية والتكفل بجميع طالبي اللجوء واللاجئين في تونس (الاقامة، توزيع توصيلات الأكل، التكفل بمصاريف العلاج، النفاذ الى المعلومات…).
ويؤكد المنتدى أنه لاحظ قصورا كبيرا في الخدمات المقدمة مثل ازدحام مراكز الإيواء في الجنوب التونسي وعدم كفاية البرامج بصفاقس وتونس: في تونس العاصمة ونظرا للوضع الطارئ وفي غياب أي مركز مهيأ لاستقبال اللاجئين، تم تخصيص نزل بالعاصمة لإيواء الأشخاص ذوي الوضعيات الأكثر هشاشة على أن لا تتجاوز فترة اقامتهم 14 يوما وهو ما يضطر عددا كبيرا من القاصرين وعائلات مرفوقة بأطفال صغار السن للنوم وقضاء الليل بالشوارع عند انقضاء المدة المحددة“.
يؤكد بيان المنتدى أن المجلس مكلف رسميا من قبل المفوضية وبتمويلها للعمل على حماية والتكفل بجميع طالبي اللجوء واللاجئين في تونس فلماذا يتساءل رئيس الدولة عن مصدر هذه الأموال وأين تصرف، ألم يوضح له أي من مستشاريه كل هذا؟
ولا يمكن أمام هذه القضية وبغض النظر عن إجراءاتها القضائية التقنية إلا أن نتساءل عن:
هل أن أموال المفوضية أصبحت ممنوعة ومحرمة في تونس فقط لأنها تصرف لدعم اللاجئين والمهاجرين غير النظاميين؟
كيف يحاكم الجمالي وزميله بتهمة “تكوين وفاق بهدف الإرشاد والتسهيل والمساعدة والتوسط بأي وسيلة في دخول شخص إلى التراب التونسي خلسة وإيوائه لأشخاص داخلين أو مغادرين للتراب التونسي خلسة وتخصيصه مكانا لإيوائهم أو لإخفائهم” (..)، طبق القانون عدد 40 لسنة 1975 والقانون عدد 7 لسنة 1968 وهو المكلف رسميا من المفوضية السامية للعمل على أوضاع اللاجئين؟ كما أنها قوانين بالية يمكن أيضا تطبيقها على مؤسسات الدولة ومنها وزارات تعاملت مع المجلس وعقدت معه شراكات في السابق (وزارة المرأة، وزارة الشؤون الاجتماعية..).
ألا يذكرنا هذا بما قامت به سلطات الاحتلال الصهيوني في حق وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونوروا)؟
الجمالي قدم أكثر من 40 سنة من عمره للدفاع على حقوق الإنسان و اللاجئين/ات في تونس
ولنفترض أن رئيس ومؤسس هذا المجلس مصطفى الجمالي قد تورط في فساد مالي في هذه التمويلات، لماذا يقضي 10 أشهر من الإيقاف دون محاكمة؟ ألا يمكن محاكمته في حالة سراح وهو الرجل الثمانيني الذي يعاني حالة صحية حرجة؟ هل يمثل الجمالي خطرا على أمن الدولة إذا كان في حالة سراح؟
وبالعودة إلى تاريخ مصطفى الجمالي توضح المبادرة المواطنية “ضد تجريم العمل المدني” أن مصطفى الجمالي قدم أكثر من 40 سنة من عمره للدفاع على حقوق الإنسان و اللاجئين/ات، وهو ابن رئيس الوزراء العراقي الأسبق محمد فاضل الجمالي، الذي لجأ إلى تونس بعد سقوط نظامه (1958)، وكان أحد الشخصيات المؤسسة للأمم المتحدة، ففي سنة 1954، مدَّ يد العون إلى الحبيب بورقيبة الذي كان آنذاك قائدا لحركة النضال من أجل استقلال تونس للمشاركة في الجمعية العامة للأمم المتحدة والمرافعة لصالح استقلال تونس ضد الاحتلال الفرنسي.
ونظرا لعدم امتلاكه صفة رسمية، مُنع بورڨيبة من دخول مبنى الأمم المتحدة ليتدخَّل محمد فاضل الجمالي ويخلع شارة التعريف الخاصة بأحد مرافقيه ومنحها له، مما مكَّنه من دخول المبنى كجزء من الوفد العراقي.
منح الجمالي الكلمة لبورقيبة، حيث قدَّمه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، مما أتاح له إلقاء خطاب تاريخي دفاعا عن استقلال تونس ما أثار غضب الوفد الفرنسي الذي غادر الجلسة احتجاجًا على هذا “التسلل غير المصرح به“.
وكان لهذا العمل التضامني أثرا يتجاوز الحدود، فعندما أُطيح بالنظام العراقي عام 1958، وحُكم على محمد فاضل الجمالي بالإعدام، تدخل بورقيبة لإنقاذه و منحه اللجوء وحماية الدولة التونسية، وعاش الجمالي لاجئا في تونس مع أسرته، ودرَّس في الجامعة التونسية حتى وفاته عام 1994.
وتقول المبادرة المواطنية “ضد تجريم العمل المدني“: مصطفى الجمالي هو قصة تضامن ولجوء ومقاومة، سار على درب أبيه مدافعا عن حقوق اللاجئين/ات ولم يقم إلا بعمل مشروع وقانوني، ومع ذلك، فإنه يجد نفسه محتجزا دون محاكمة.