بقلم علي البعزاوي
تعتبر صابة الزيتون استثنائية هذه السنة بالنظر لحجمها وكمية الزيوت التي ستوفرها والتي ستتيح إمكانية ترويج كميات كبيرة منها في السوق المحلية بالإضافة إلى التصدير للأسواق العالمية الذي سيوفر لتونس المزيد من العملة الصعبة ويساهم في تعديل الميزان التجاري الذي ظل على الدوام مختلا لصالح الواردات من جهة، وهي من جهة أخرى استثنائية لأن الفلاحين بعد سنة من العمل والجهد والترقب سوف لن يحققوا ما كانوا ينتظرونه من مداخيل نظرا لتدني أسعار البيع بالقياس مع السنة الفارطة. وسيكون الموسم ثقيلا عليهم كما لم يحصل من قبل.
الأسباب الحقيقية لتدني الأسعار
لئن وفرت السلطة القائمة الإمكانيات والموارد الضرورية وسخرت عديد الطاقات لإنعاش وتوسيع إحداث الشركات الأهلية رغم محدودية مردوديتها وعدم قدرتها على فتح آفاق عريضة لتطوير الاقتصاد الوطني المنهك بفعل التبعية والهشاشة الهيكلية فإنها – السلطة – لم تتعامل بالجدية المطلوبة مع أزمة الزيتون، هذه الأزمة المتأتية من تدنّي أسعار البيع ومن الخسائر المنتظرة للفلاحين الذين لن تتاح لهم إمكانية خلاص ديونهم وتغطية مصاريف الخدمات المختلفة من زبر وري وحرث وجمع الصابة…
السلطة القائمة ممثلة في ديوان الزيت ووزارة الفلاحة حاولت تبرير تدنّي سعر البيع بتراجع السعر على مستوى عالمي لكنه تبرير غير واقعي لأن الأسعار العالمية لزيت الزيتون تتراوح بين8 و10 دولارات للتر الواحد بينما يباع لتر الزيت في تونس بحوالي 4 دولارات. الأسباب الحقيقية مثلما أكدنا في مقال سابق تحت عنوان “أزمة الزيتون أزمة خيارات” (صدر بالعدد 54 من صوت الشعب بتاريخ 5 ديسمبر 2024) سياسية تتعلق بالخيارات الاقتصادية والمالية للسلطة القائمة التي يهمّها أولا وأساسا مصالح كبار الرأسماليين المحليين وكبرى الشركات والمؤسسات العالمية وليس الفلاحين الصغار والفقراء الذين يشكلون الأغلبية.
صغار وفقراء الفلاحين هم الأكثر تضررا
إنّ كبار الفلاحين سيتضررون بالتأكيد من تدني سعر الزيتون/الزيت ولن يحققوا الأرباح الطائلة التي راكموها في المواسم الفلاحية السابقة، لكن لن يلحقهم نفس الضرر الذي لحق بصغار وفقراء الفلاحين ولن يصيبهم الإفلاس وهم قادرون بالتأكيد على استيعاب صدمة تدنّي الأسعار. ويبقى المتضرر الأكبر صغار وفقراء الفلاحين، وهم الأغلبية، لأنهم غير قادرين على الصمود بفعل قدراتهم وإمكانياتهم المحدودة بالإضافة إلى غياب الدولة التي اكتفت ببعض الإجراءات الشكلية والمحدودة المتمثلة في السماح بخزن كميات من الزيت تصل إلى حدود 5 أطنان وتمكين الفلاحين من منح وقروض إلى حين بيع كميات الزيت المخزنة لدى ديوان الزيت. هذا إذا توفرت لهؤلاء القدرة على توفير كميات من الزيت لتخزينها لأنهم مضطرون في الحقيقة لبيع كل الصابة لخلاص ديونهم ولتغطية المصاريف المختلفة من معاليم كراء وماء وكهرباء وإعالة عائلاتهم إن استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
الأكيد أنّ صغار وفقراء الفلاحين سيطالهم الإفلاس والعجز وعدم القدرة على مواصلة نشاطهم الفلاحي بصورة عادية وربما يضطر بعضهم لبيع أملاكهم ليلتحقوا بصفوف العمال اليوميين أو البحث عن “حرقة” قد تصل بهم إلى الموت غرقا مثلما حصل لعديد المهاجرين الفارين من جحيم البطالة. إنه المصير المنتظر في ظل الرأسمالية التابعة والمتخلفة وما تخلقه من استقطاب بين أقلية تراكم الثروات الطائلة وأغلبية واسعة تراكم الفقر والبؤس.
اتحاد الفلاحة والصيد البحري الغائب الحاضر
لئن عبّر اتحاد الفلاحة والصيد البحري عن موقف رافض لتدني أسعار البيع وطالب السلطة بحلول لتجاوز الأزمة إلا أنه لم يتخذ قرارات وإجراءات لفرض الحلول المناسبة المنصفة لهذه الفئة العريضة من المجتمع. ولم يسعَ إلى تعبئة الفلاحين وتنظيم صفوفهم للنضال من أجل فرض الحلول المناسبة لأنه في الحقيقة منظمة تخدم حصريا مصالح كبار الفلاحين.
إنّ اتحاد الفلاحة والصيد البحري منظمة – رغم احتضانها كل فئات الفلاحين في تونس – تعبّر عن مصالح كبار الفلاحين دون سواهم لهذا لم تتخذ مواقف تصعيدية ولم تضغط بالأشكال النضالية المناسبة لفرض حلول منصفة لعموم الفلاحين في تونس وخاصة الفئة الأكثر تضررا من أزمة الأسعار.
من أجل تنظيم مستقل لصغار وفقراء الفلاحين
إن صغار وفقراء الفلاحين الذين يشكلون الأغلبية في القطاع بحاجة إلى منظمة تعبّر فعليا عن مصالحهم الطبقية وقادرة على توحيدهم وتعبئتهم من أجل تحقيق مطالبهم المادية والمعنوية. إن مصالحهم تتناقض في الغالب مع مصالح كبار الفلاحين فهم على عكس هؤلاء بحاجة إلى القروض الميسّرة وإلى البذور والأسمدة ومياه الريّ بأسعار في المتناول وإلى تدخل من الدولة لضبط أسعار بيع المحاصيل الزراعية بما يراعي تكاليف الإنتاج وتحقيق هامش من الربح يساعدهم على مواصلة النشاط وحتى توسيعه وتطويره لضمان مزيد المداخيل والأرباح.
صغار وفقراء الفلاحين بحاجة أيضا إلى التعاونيات التي توفر لهم المعدات الثقيلة (تركتور، آلة حصاد…) ومياه الريّ والبذور والأسمدة وغيرها بأسعار مناسبة. وهم بحاجة كلما اقتضت الظروف إلى تدخل الدولة لشراء محاصيلهم بأسعار تضمن لهم فائض قيمة ملائم حتى يوسعوا أرباحهم ويطوّروا مداخيلهم/رساميلهم ويستمروا في النشاط دون التفويت في ممتلكاتهم.
إن الدولة الحالية، دولة الاستعمار الجديد، دولة الكمبرادور، لا يمكن أن تلبّي مصالح الفئات الشعبية من عمال وشغيلة وفلاحين صغار وفقراء ومعطلين ومهمشين. وخياراتها الاقتصادية والاجتماعية تخدم حصريا مصالح الفئات الكمبرادورية المرتبطة عضويا بمصالح كبرى الشركات والمؤسسات والدول الاستعمارية وتتنكر في المقابل لمصالح صغار وفقراء الفلاحين كجزء من الفئات والطبقات الشعبية. هذه الفئة من الفلاحين هي التي يقع تحميلها تبعات أزمة الخيارات النيوليبرالية المتوحشة المعتمدة حاليا وتدفع الفاتورة التي قد تصل إلى التفريط في ضيعاتها الصغيرة لصالح كبار الفلاحين.
إن هذه الفئة بحاجة إلى القوى الثورية والتقدمية لتنظيمها في نواتات/تنسيقيات وتعبئتها حول مطالبها المباشرة وإقناعها بأهمية وضرورة تأسيس اتحاد لصغار وفقراء الفلاحين، المنظمة القادرة عمليا على تبنّي مطالبهم وتعبئتهم من أجل الدفاع عنها إلى جانب تحسيسهم بأن مصلحتهم الاستراتيجية تكمن في النضال إلى جانب الطبقة العاملة وعموم الشعب من أجل البديل الوطني الديمقراطي الشعبي القادر على الاستجابة لانتظاراتهم في العيش والكرامة. إنّ الدولة الديمقراطية الشعبية قادرة على حماية صغار وفقراء الفلاحين كجزء من الأغلبية الشعبية المتضرّرة من خيارات التبعية والاستغلال الحالية. وهي طريق خلاصهم من الفقر والتهميش وتحمل تبعات خيارات وسياسات ليسوا سببا فيها.