الرئيسية / عربي / الأمن القومي العربي والقوى المتداخلة، الدور التركي
الأمن القومي العربي والقوى المتداخلة، الدور التركي

الأمن القومي العربي والقوى المتداخلة، الدور التركي

بقلم ألفة بعزاوي

بعد تعرّضنا في العدد 63 من “صوت الشعب” إلى الدور الإيراني، نتطرّق في هذا العدد إلى الدور التركي على مستوى الأمن القومي العربي، حيث شهد العقدان الأخيران تزايدا ملحوظا للدور التركي في منطقة الشرق الأوسط وتدخلها في العديد من الملفات بالإقليم.

لقد كان التركيز الكلي للسياسة الخارجية التركية في أواخر القرن الماضي على الغرب وأساسا الولايات المتحدة التي دفعت بقوة لحصول تركيا على العضوية في حلف الناتو سنة 1952، بعد رفض عدد من الدول الأعضاء طلبها للانضمام مرتين متتاليتين، وذلك لحاجة الولايات المتحدة لها في سياسة سد المنافذ التي اعتمدتها ضد الاتحاد السوفييتي طيلة الحرب الباردة والدور الهام الذي أسند لتركيا في هذا الصدد انطلاقا من موقعها الجغرافي. هذا الدور الذي لعبته تركيا في حماية المصالح الغربية وفر لها دعما عسكريا واقتصاديا خاصة من الولايات المتحدة ولكنها في المقابل ظلّت طرفا هامشيا وضئيل الوزن والتأثير صلب حلف الناتو والمعسكر الغربي عموما.
مع بداية القرن الحالي شهدت السياسة الخارجية التركية تغييرا كبيرا بتركيزها على منطقة الشرق الأوسط التي عرفت آنذاك مستجدات كبرى وتعقيدا للأوضاع التي اتسمت أساسا بحالة من الفراغ والتفتّت خاصة بعد الاحتلال الأمريكي للعراق وسقوط نظام صدام حسين في 2003 مما مثل فرصة لتركيا للولوج للمنطقة ولعب أدوار محورية مستثمرة نقاط قوتها المتمثلة في موقعها الجغرافي ونمو اقتصادها الذي بات يحتل مكانة هامة بين اقتصادات العالم.
ولا يعني انفتاح تركيا على المنطقة وبروزها كطرف فاعل يتزايد تأثيره فيها يوما بعد يوم أنها قد أدارت ظهرها للغرب ولأمريكا تحديدا، أو أنها تسعى وراء “الوحدة مع الدول الإسلامية” كما حاول الترويج له حزب العدالة والتنمية الذي صعد للحكم منذ 2002 والذي رافق صعوده هذا التوجه الجديد للسياسة الخارجية التركية. فالهدف الرئيسي كما سنوضح لاحقا هو السعي المستمر لتوسيع ساحات الفعل والتأثير والنفوذ بما يتلاءم والتغيرات التي عرفتها البيئة الاستراتيجية لتركيا منذ نهاية الحرب الباردة.
كما أن الولايات المتحدة التي دخلت بكل ثقلها للمنطقة منذ حرب الخليج ومن ثمة ما أسمته ب “الحرب على الإرهاب” في المرحلة التي عقبت أحداث 11 سبتمبر 2001 والبداية الفعلية لتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد ظلت في حاجة إلى هذا الحليف الاستراتيجي كأحد المفاتيح لها في المنطقة وكشريك يمكن الاعتماد عليه للعب أدوار لصالحها ويمكن أن يوفر ثقلا موازيا للدور الإيراني وكابحا لتمدد نفوذه في المنطقة، الأمر الذي تعتبره أمريكا تهديدا لمصالها ومصالح الكيان الصهيوني. وقد حرص كلا الطرفين على الحفاظ على هذه الشراكة الاستراتيجية وتوسيع مساحة الالتقاء وتذليل الخلافات الجزئية بينهما في عدد من القضايا. فالولايات المتحدة كانت تعول على الدور التركي في عدة مهام منها وضع حد للنفوذ الإيراني، الحفاظ على وحدة العراق باستخدام الفزاعة الكردية، توفير قناة للتفاوض بين سوريا ودولة الكيان المحتل ولعب دور الوسيط مع إيران لاحقا وغيرها من الأدوار. أما تركيا فقد عملت على الحفاظ على الدعم الاقتصادي والعسكري للولايات المتحدة بما يخول لها التحول إلى قوة قادرة على التوسع في المنطقة. كما تعول تركيا على الدعم السياسي الأمريكي في علاقة بملف الأكراد خاصة مع تنامي النزعة القومية الكردية وتفاقم التهديدات على حدودها مع كل من سوريا وإيران إضافة إلى التهديد الداخلي من قبل حزب العمال الكردستاني.
استندت تركيا على موقعها وتاريخها وعلى نمو اقتصادها وعلى إمكانياتها العسكرية الهامة وبدأت بالتحرك في جميع الاتجاهات لتوسيع نفوذها ورعاية مصالحها، فطورت علاقاتها الاقتصادية مع سوريا وتم توقيع اتفاقية التجارة الحرة في 2004 واتفاق فتح الحدود بين البلدين في 2007 لتصبح سوريا بذلك بوابة تركيا لدول الخليج ومصر. وباتت تركيا تسيطر اقتصاديا على منطقة الحكم الذاتي الكردي شمال العراق وامتدت منه إلى بقية مناطق البلاد. كما طورت علاقاتها الاقتصادية مع إيران ومن ذلك إبرام الاتفاق الثلاثي التركي-الإيراني-البرازيلي لتبادل الوقود النووي الإيراني على الأراضي التركية في 2010 إضافة إلى الاتفاقات في مجالات الطاقة والتجارة. وكانت تركيا أيضا تطور باستمرار علاقاتها الاقتصادية والتجارية والسياسية مع دول الخليج ومصر والبلدان العربية في شمال إفريقيا.
بالموازاة مع تعزيز نفوذها الاقتصادي، عملت تركيا على توسيع نفوذها السياسي. وقد اعتمدت في فترة أولى تمتد حتى 2011 على ما أسمته بسياسة الصفر مشاكل مع دول الجوار والتركيز على لعب دور الوساطة في عدد من القضايا الحارقة بالمنطقة. من ذلك دور الوساطة في المفاوضات غير المباشرة بين سوريا ودولة الاحتلال الصهيوني حتى نهاية عام 2007، والمسارعة باحتواء الأزمة بين بغداد ودمشق في 2009 والتنسيق مع مصر في علاقة بالملف الفلسطيني وغيرها من التدخلات. وكمحصلة، تمكنت تركيا من نسج شبكة من العلاقات والنفوذ في المنطقة وإبرام عديد الاتفاقيات السياسية والاقتصادية بها.
مع انطلاق موجة ثورات الربيع العربي سنة 2011، بان بالكاشف الوجه التوسعي لتركيا في المنطقة وسقط قناع “الديبلوماسية الناعمة” الذي ارتدته طيلة العقد السابق لتعزيز نفوذها إذ رأت في هذه اللحظة التاريخية وفي موازين القوى الراجحة لكفة حركات الإسلام السياسي في عدد من البلدان فرصة استراتيجية لدعم وصول الإسلاميين لمواقع الحكم بما يعزز نفوذها في هذه البلدان ويجعلها حاضنة لأي حوار معهم من قبل الغرب وخاصة الأمريكي الذي سيسعى إلى ألا تمس هذه التغييرات بمصالحه. فدعمت جماعات الإخوان المسلمين في تونس ومصر كما دعمتهم في كل من ليبيا وسوريا واليمن حتى بعد تحول هذه الانتفاضات إلى حروب أهلية تورطت فيها تركيا بشكل كبير من خلال تسليح المعارضة الإسلامية لبشار الأسد في سوريا وتسليح الإسلاميين في ليبيا والتدخل العسكري في البلدين بأشكال مختلفة. الأمر الذي أدى إلى توتر علاقاتها بعدد من الدول منها مصر والإمارات فيما يخص الملف الليبي وإيران التي كانت تدعم نظام بشار الأسد كما ساءت علاقتها بالعراق مع تواصل العمليات العسكرية في شمال البلد، في المقابل عززت شراكتها العسكرية والسياسية مع قطر.
إن هذه الأهداف التوسعية لتركيا تجلت بوضوح في تورطها في أغلب الصراعات بالمنطقة بأشكال عسكرية مباشرة وغير مباشرة طيلة الفترة الممتدة من سنه 2011 إلى حدود 2020 وأبرزت رغبة أردوغان وحزب العدالة والتنمية عموما في إحياء أحلام الدولة العثمانية والتسويق للنموذج الإسلامي الليبرالي الذي اعتمدته كقوة جذب جديدة قادرة على أن تكون بديلا للعب أدوار هامة في التوازنات الإقليمية في ظل تواصل التصادم بين إيران وإسرائيل واحتداد الانقسام في المنطقة إلى معسكري الممانعة والعمالة.
غير أن فشل الإسلاميين في الوصول للحكم أو في الحفاظ عليه كما هو الحال في تونس ومصر دفع بالدبلوماسية التركية إلى إعادة النظر في تكتيكاتها التي قد تخدم بشكل أفضل استراتيجيتها التوسعية. حيث خففت من عملياتها العسكرية في العراق، وانفتحت على إيران وروسيا للتفاوض فيما يخص الملف السوري، كما انفتحت على النظام المصري للتنسيق الأمني فيما يخص الملف الليبي.

في الأثناء، مثل اتساع الأدوار الإقليمية لتركيا وتزايد نفوذها بالإضافة إلى تطورها الاقتصادي والعسكري والسياسي إلى تزايد تأثيرها داخل حلف الناتو، فهي لم تعد مهمشة داخل هذا الحلف بل صار لها وزن يسمح لها بالدفاع عن مصالحها ومواقفها من عدد من القضايا من ذلك التباين بينها وبين الولايات المتحدة فيما يخص الملف السوري وتنفيذ عمليات ميدانية في سوريا رغم التحفظات الأمريكية وكذلك تطوير العلاقات الاقتصادية وشراء أنظمة دفاع جوي من روسيا.
وقبيل عملية 7 أكتوبر دعا أردوغان إلى التطبيع مع دولة الكيان المحتل، ولم تتجاوز مواقف تركيا بعد عملية طوفان الأقصى وطيلة فترة حرب الإبادة التي شنها الكيان الصهيوني على غزة مستوى التصعيد الكلامي الناقد سياسيا لإسرائيل والمساند للقضية الفلسطينية والداعم للمقاومة باعتبارها حقا أصيلا للشعب الفلسطيني في حين حافظت على العلاقات الاستراتيجية والاقتصادية مع الكيان المحتل.
من المتوقع أن تمثل سوريا أحد الساحات الرئيسية للصراع الإقليمي بين مختلف القوى المتداخلة في المنطقة مستقبلا. وهو ما جعل سوريا استثناء في انتهاج تركيا سياسة مغادرة مراكز التوتر وحافظت على تواجدها هناك من خلال دعم وتمويل قوات الجيش الوطني السوري. ومع أنه لم يمط اللثام بعد عن الدور الذي لعبته تركيا في إسقاط نظام بشار الأسد وفي صفقات الأيام الأخيرة، فانه من الواضح أن تركيا ستسعى للحفاظ على نفوذها في هذا البلد موظفة ملف اللاجئين السوريين وملف الأكراد ومتعللة بالدور القيادي الذي تود الاضطلاع به فيما يتعلق بإعادة إعمار سوريا كمطية للتحول إلى مركز إقليمي للتجارة والنقل والطاقة وكخطوة على درب مشروعها التوسعي أو ما بات يعرف بالعثمانية الجديدة.
لقد تحولت تركيا إلى لاعب أساسي ووكيل للمصالح الأمريكية والغربية عموما في منطقة الشرق الأوسط التي تعيش على وقع تطورات وتحولات كبرى ما زالت موازين القوى فيها راجحة لفائدة القوى الرجعية والعميلة، ممّا يجعل الدور التركي وتوسع نفوذه تهديدا لمصالح شعوب المنطقة وقواها التقدمية والوطنية التي لا تزال تتلمس الطريق نحو التحرر والانعتاق.

إلى الأعلى
×