الرئيسية / الافتتاحية / مهزلة المحاكمة “عن بعد”: النظام يغرق في الانتهاكات وتتزايد فضائحه
مهزلة المحاكمة “عن بعد”: النظام يغرق في الانتهاكات وتتزايد فضائحه

مهزلة المحاكمة “عن بعد”: النظام يغرق في الانتهاكات وتتزايد فضائحه

انطلقت يوم الثلاثاء 4 مارس الجلسة الأولى لمحاكمة ما بات يسمّى “قضية التآمر على أمن الدّولة” التي مرّ أكثر من سنتين على انطلاق اعتقال “المتهمين” الأوائل فيها. ولئن انتظر متتبعو الشأن العام في بلادنا موعد هذه المحاكمة لمعرفة “الوقائع الخطيرة” التي دفعت إلى هذه الاعتقالات، فإن قرار سلطة الانقلاب إجراء هذه المحاكمة “عن بعد” بذرائع أمنية واهية، كما جاء في مذكرة رئيسة المحكمة الابتدائية بالعاصمة، جاء ليؤكّد الطابع الكيدي والملفّق لهذه القضية ويفضح مسبقا طابها السّياسي. إن إجراء المحاكمة عن بعد يعني إجرائيا عدم إحضار “المتهمين” من سجنهم وإحالتهم فرادى بالتواصل معهم إلكترونيا بما يعني التحكم في مداخلاتهم ودفاعهم عن أنفسهم، وضرب ركن أساسي من أركان المحاكمة العادلة. وهو ما رفضه المعتقلون ومحاموهم رفضا مطلقا. ففي يوم 4 مارس لم يشارك “عن بعد” من بين الثمانية المعتقلين سوى معتقل واحد وهو مواطن لا علاقة له بالنشاط السياسي والمدني وإنما حشر حشرا في هذه القضية، كما حضر السيد الفرجاني بحالة سراح في قضية الحال (موقوف على ذمة قضية أخرى). وبالمقابل رفض البقية، عصام الشابي وغازي الشواشي وجوهر بن مبارك وعبد الحميد الجلاصي ورضا بلحاج وخيام التركي من جهة ورجل الأعمال كمال اللطيف الذي لا تربطه بهم رابطة من جهة أخرى الحضور “عن بعد” متمسّكين بحقّهم في الحضور المباشر إلى جانب محامييهم وأمام الإعلام والرّأي العام للدفاع عن أنفسهم بعد كل حملات التضليل التي قامت بها سلطة الانقلاب وأبواقها العفنة من أجل تشويههم ومغالطة الرّأي العام.
لقد حضر المحامون في جلسة الثلاثاء بكثافة، كما حضرت العائلات ووسائل الإعلام وممثّلو المنظمات والجمعيات الحقوقية كما حضر ممثلو عديد الأحزاب وعدد من الملاحظين الأجانب والدبلوماسيون وجمهور عريض من متتبعي الشّأن العام. وخلافا لما خطّطت له سلطة الانقلاب فقد انقلب السّحر على السّاحر. فما جرى في هذه الجلسة الأولى كان كافيا لوحده لفضح “المستور”. لن نتوقف عند ظروف المحاكمة السيئة جدّا من حيث ضيق القاعة وغياب المكروفونات وعدم تخصيص أماكن للإعلاميين وغير ذلك ممّا حول الجلسة إلى فوضى، “الناس فوق بعضهم” ولا أحد يرى أحدا ولا أحد يسمع أحدا. ولكن الأهم من كل ذلك هو ما جاء على لسان المحامين الذين ركّزوا على الجانب الشكلي الإجرائي الذي يمثّل الشرط الأول للمحاكمة العادلة رافضين بالتالي الخوض في الأصل. لقد بيّن لسان الدفاع بشكل لا لبس فيه، أثار تصفيق الحضور أكثر من مرّة، أنّ تغييب المعتقلين لا هو الانتهاك الأوّل ولا هو الانتهاك الأخير لحق الدفاع في هذه القضية وإنما هو حلقة من سلسلة كاملة من الانتهاكات بدأت باعتقال منوّبيهم تعسّفيّا وتركهم أكثر من عامين رهن الاعتقال دون بحث أو تحقيق أو مكافحة أو مواجهة مع شهود الإدانة المزعومين.
ومن مهازل الدّهر أن حاكم التحقيق الذي رآه المعتقلون مرة واحدة ليأذن، وفقا للتعليمات، بإيداعهم في السجن فرّ من البلاد وهو موضوع بطاقة جلب كما أنّ مهندس هذه القضية وقضايا أخرى المقرّب من وزيرة العدل هو الآن رهن الاعتقال بمعية المسؤول الأول عن الشرطة العدلية بتهم فساد. زد على ذلك أنّ تركيبة المحكمة الجالسة يوم الثلاثاء ليست شرعية لأن بعض أعضائها لم يتمّ تعيينهم حسب القانون بل تمّ تعيينهم بمقتضى مذكرات عمل صادرة عن وزارة العدل عوض أن يتمّ ذلك عن طريق المجلس الأعلى للقضاء وقد وقع حلّه أو عن طريق المجلس المؤقت الذي عُيّن مكانه ولكن في الأثناء تم تفكيكه للسيطرة على “الوظيفة القضائية”. يضاف إلى كل هذا بالطبع ملفات فارغة لا وقائع ولا أدلة ولا أفعالا تثبت ارتكاب المتهمين في هذه القضية أيّ جرم يستحق العقاب عدا كونهم يعارضون كلّ من موقعه الفكري والسياسي سلطة الانقلاب. وأخيرا وليس آخرا فمن أجل نشر الغموض وتهويل الأمور قصد المغالطة عمدت سلطة الانقلاب إلى توسيع قائمة المتهمين في هذه القضية لتشمل 42 شخصا لا علاقة لبعضهم ببعض، منهم من كان في الحكم سابقا ومنهم من كان من أعضاد قيس سعيد وأصبح من المغضوب عليهم، ومنهم من صرّح بـ/ أو عبّر عن/ موقف لا يروق للحاكم بأمره. لقد وضع الجميع في نفس “الشكارة” وكوّن بهم ملف “تآمر على أمن الدولة” للتخلص منهم جميعا.
وهكذا وكما قال المحامون إذا عرف السّبب بطل العجب. إنّ قرار إجراء المحاكمة عن بعد ليس له من هدف سوى طمس كل الفضائح التي علقت بهذه القضية المهزلة ولكنّ هذا الإجراء ساهم على نحو لم يتوقعه الحاكم بأمره في كشف تلك الفضائح ومعها كشف الوجه البشع للاستبداد. لقد احتلت أولى جلسات المحاكمة المهزلة مكانا بارزا في كافة وسائل الإعلام العالمية التي تحدثت عن كل الانتهاكات ولم تتردد في وصف نظام سعيّد بالاستبدادي القمعي الذي لا يحترم أدنى شروط المحاكمة العادلة جريا وراء تصفية معارضيه. إنّ ما عمدت إليه سلطة الانقلاب لم يحصل حتى في أخطر القضايا التي عرفتها بلادنا في عهدي بورقيبة وبن علي والتي كان بعضها يتعلق بجماعات مسلحة. فرغم أنّ الجميع كان يدرك الطابع السياسي والشكلي لمحاكمات “أمن الدولة” إلّا أنّ الجلسات كانت حضورية وتخصص لها فضاءات واسعة ويسمح ولو شكليا للمعتقلين بالدفاع عن أنفسهم. وبعبارة أخرى فإننا وإن لم نخرج من عالم المهازل منذ العهد البورقيبي فإننا أصبحنا في وضع “مهزلة تنسّيك في لُخْرى”. إنّ محاكمة 4 مارس هي مهزلة جديدة لكن على درجة قصوى من ضحالة الإخراج وعنوان آخر من عناوين فشل منظومة الاستبداد. إنّ رفض الموقوفين والمحامين المشاركة في هذه المهزلة والمطالبة بمحاكمة تتوفر فيها شروط المحاكمة العادلة وفي مقدمتها إحضار “المتهمين” كان الضربة الموجعة لمسار العبث والاستبداد الذي يتوهّم البعض إمكانية “مقرطته” كما راج مؤخرا بمناسبة إطلاق سراح سهام بن سدرين الرئيسة السابقة لهيئة الحقيقة والكرامة والإعلامي محمد بوغلاب. لكن ها هي الوقائع تسفّه هذه التخمينات وهو ما يعزز قناعتنا بأن الدكتاتورية لا تستمر إلا بالقمع والقهر وأن النّضال وحده هو أقصر الطرق لإسقاطها. فلنشمّر على ساعد النّضال الواعي والمنظّم ولتكن مناهضة المحاكمات الجائرة وتلفيق القضايا وتوظيف القضاء المدجّن واستعمال ترسانة القوانين الفاشية والاعتقالات التعسفية والمطالبة بإطلاق سراح معتقلي الرّأي وتوفير شروط المحاكمة العادلة لكلّ متّهم خطوة في اتجاه مراكمة القوى للتخلّص من الاستبداد. ولنواصل التعبئة في انتظار 11 أفريل القادم الذي ستلتئم فيه الجلسة الثانية للمحاكمة المهزلة.

إلى الأعلى
×