بعد قرابة عامين من إيقاف المتّهمين من نشطاء وسياسيين ورجال أعمال ومسؤولين سابقين في ما يعرف بـ”قضيّة التأمر على أمن الدولة” وهم جميعا من المعارضين للمنظومة الحاكمة الحالية، انعقدت يوم 4 مارس الجاري أولى الجلسات بالمحكمة الابتدائية بالعاصمة وسط حضور هام من المساندين والمحامين والصحافيين وديبلوماسيين بعد أن كثر الجدل حول كيفية انعقاد هذه الجلسة الأولى خاصة بعد القرار الذي نصّ بأن تكون “عن بعد” ودون حضور المتّهمين.
وكان القضاء “الوظيفي” كما تصفه سلطة الانقلاب قد اتّخذ قرارا منذ عمليات الإيقاف في حقّ المحالين على هذه التهمة بتاريخ 18 جوان 2023 بحضر النشر في هذا الملفّ الذي يعدّ ملفّ رأي عام وطني ودولي، وأصدر قرارات عامة بمنع النشر من جانب وسائل الإعلام وغابت منذ حينها توضيحات/تبريرات هذه المنظومة عن حقيقة التّهم الموجّه لهم، في المقابل تكفلّت بعض الصفحات الموالية للمنظومة بتوجيه التهم ونشر مقتطفات من “محاضر” نكّلت واستهدفت عبرها بكل من تمّت إحالته بمعنى التآمر على أمن الدولة ومقابل ذلك مثل مقدّمو برامج وصحافيين أمام فرق البحث بسبب استضافتهم لأعضاء من هيئة الدفاع وعائلات المتّهمين.
وقبيل انعقاد الجلسة الأولى، بثّت قناة تلفزية خاصة ما أسمته “تحقيقا صحفيا” خاص يتعلّق بخفايا ملفّ “التآمر على أمن الدولة”، وكان الجميع من المتابعين لهذا الملفّ ينتظرون مضمون هذه الحصة خاصة بعد التعتيم والرقابة المسبقة التي مورست ضدّ الصحافيين والمؤسسات الإعلامية، ليتفاجئ كل من تابع/شاهد هذا “التحقيق الصحفي” بأنّه مجرّد تقرير لخّص التسلسل الزمني لهذا الملفّ، بل كان مجرّد تقديم لينطلق عبره أحد المعلّقين بهذا البرنامج الذي كان قبل سلطة الانقلاب من الموالين بشراسة لمنافس قيس سعيد خلال الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية سنة 2019، ويكيل التهم بشكل مسعور ودون أيّة رقابة من مقدّمة البرنامج ويستظهر عبر الشاشة بأنّ بحوزته “جزء فقط من الملف” الذي يتضمّن الحقائق والخفايا التي تعهّد بها القضاء؟ حتّى تحوّلت ما سمّيت حصة تلفزية خاصة إلى المهزلة أو المحاكمة الإعلامية للمتّهمين وسط حضور صحافيين وصمتهم أمام الثلب والسباب الذي مارسه هذا المعلّق الذي يحوم حوله أكثر من استفهام.
ولم تكن هذه القناة التلفزية وحدها من فتحت منابرها لمعلّقين موالين لمنظومة الانقلاب لتوجيه مزيد من التهم أو الحديث عن معلومات وتفاصيل الملفّ عبر تعاطي غير المهني ومنافي لأخلاقيات المهنة الصحفية، فعوض ضرورة احترام قرينة البراءة لكل متّهم إلاّ أنّ ما تعيشه المؤسسات الإعلامية الخاصة والعمومية أصبح فعلا مثيرا للاستغراب والشفقة.
نقابة الصحافيين على الخطّ
في بيانها الصادر بتاريخ 4 مارس الجاري، عبّرت النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين أنّه لا يمكنها أن تسكت أمام التعاطي غير المهني بعدد من وسائل الإعلامية العمومية والخاصة وبالخصوص ما ورد في برنامج “روندفو 9” على قناة التاسعة ليوم الجمعة 28 فيفري الماضي الذي تناول الملف القضائي لقضية التآمر، والذي لم يحترم عددا من المبادئ الأخلاقية التي يقوم عليها العمل الصحفي معتبرة أنّ مضمون هذا البرنامج محاكمة إعلامية في اتجاه واحد والحال أنّ القضاء وحده مؤهل للحكم على المتهمين بإدانتهم أو إثبات براءتهم بعد استكمال كل الأطوار القضائية من الطور الابتدائي إلى الطور التعقيبي، وإلاّ أصبح الإعلام قضاء موازيا وتحوّلت القنوات الإذاعية والتلفزية إلى محاكم تنتصب كما تشاء ومتى تشاء.
وقد عبّرت النقابة بالمناسبة عن انشغالها من محاولات الانحراف بالتعاطي الإعلامي لموضوع شديد الحساسية قد يمسّ من قيم مهنة الصحافة ويضرب أسس الدولة المدنية والديمقراطية في حماية المحاكمة العادلة وقرينة البراءة، داعية القائمين على البرنامج المذكور والقناة التي تبثه إلى الاعتذار عن هذه السقطة المهنيّة الخطيرة، والكفّ عن تجيير القناة لخدمة أجندات سياسية صرفة لا علاقة لها بالمهنة الصحفية ونواميسها وهو ما تمّ تجريبه في أكثر من مناسبة على غرار تغطية القضايا المتعلقة بتنقيح القانون الانتخابي وقانون الجمعيات وقضية الأفارقة جنوب الصحراء.