بقلم عادل ثابت
عادة ما تلجأ الحكومات الرّجعيّة والقوى اليمينيّة، سواء في غرب المتوسّط أو جنوبه، إلى نفس الأكاذيب ونفس المغالطات لاعتماد قوانين أكثر فأكثر زجريّة حيال المهاجرين ولتبرير سياساتها العنصريّة تجاههم. لقد أصبح المهاجرون الذين تركوا أرضهم وذويهم، اضطرارا لا اختيارا، للتوقّي من الفقر والقمع والحروب والجفاف وغيره من الآفات المدمّرة للبشر والطبيعة التي لم يتسبّبوا فيها، أصبحوا في نظر تلك الحكومات “مجرمين” و”خطرا” يهدّد “هويّة” بلدانها وأعرافها وتقاليدها ويرمي إلى تغيير تركيبتها الديموغرافية.
ولئن كانت سياسات الهجرة في الضفّتين مترابطة وجوهرها واحد، فإنّ العنف المسلّط على المهاجرين يبلغ درجات قصوى جنوب المتوسط وفي بلادنا بالذّات، حيث تعدّدت، مع الاستبداد الشّعبوي، انتهاكات حقوقهم وكرامتهم وراجت بشأنهم الخطابات العنصرية المقيتة وأصبح الناشطون في الحقل الإنساني والمدافعون عن حقوق المهاجرين أنفسهم “مجرمين” يُرمى بهم في السجون وتقع محاكمتهم بسبب دفاعهم عن كرامة الإنسان.
قيس سعيّد عنوان التّبعيّة واليمين المتطرّف في بلادنا
رغم كثرة كلام قيس سعيّد عن السّيادة الوطنية واتّهامه كلّ من يعارضه بالخيانة والتآمر والتخابر مع الخارج، فإن الواقع ما انفكّ يبيّن أنّ خطابه هذا كاذب وأنّ المنظومة الشّعبويّة التي أقامها هي حلقة التبعيّة الحقيقيّة في بلادنا. وتمثّل سياسة هذه المنظومة في مجال الهجرة القائمة على تنفيذ أجندة الاتّحاد الأوروبي واليمين المتطرف هناك أحد أوجه تلك التبعية التي تحوّلت بموجبها تونس إلى حارس حدود أوروبا مقابل حفنة من “اليوروات” والمساعدات المهينة التي لا تسمن ولا تغني من جوع. وهو ما أكّدته مذكّرة التّفاهم حول “الشراكة الاستراتيجيّة والشّاملة” الممضاة بين تونس والاتّحاد الأوروبي في 16 جويلية 2023 والتي يشكّل التزام تونس بمنع اللاجئين وغيرهم من المهاجرين من الوصول إلى أوروبا أحد أركانها. وقد تُرجم ذلك في أرض الواقع بارتفاع كبير في عدد المجتازين الذين تمّ إيقافهم على السّواحل التّونسيّة خلال السّنتين الأخيرتين إذ بلغ عددهم 114810، منهم 80% من جنوب الصحراء و20% من تونس، حسب إحصائيات المنتدى التونسي للحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة(*). وهذا العدد هو دون الأرقام الحقيقية خصوصا أنّ السّلطات التّونسيّة أوقفت نشر المعطيات التفصيليّة في جوان 2024. ومن البديهي أنّ “إنجازات” قيس سعيّد في مجال مكافحة الهجرة ما فتئت تصبّ الماء في طاحونة اليمين الفاشي في أوروبا وتساهم في تعزيز مكانته مثلما حصل خلال الانتخابات الأوروبية الأخيرة في جوان 2024، وقد كان ذلك جليّا في إيطاليا بالخصوص حيث ركزت رئيسة الحكومة الفاشية الجديدة ميلوني حملتها على ما “حقّقته من نجاح” في محاربة الهجرة. وفي جويلية الفارط لم تتردّد ميلوني في الإشادة “بالتعاون المثمر” مع قيس سعيّد الذي أدّى إلى تراجع عدد المهاجرين الذين عبروا إلى إيطاليا عبر البحر انطلاقا من تونس إلى 10.247 خلال السداسي الأول من 2024، أي بانخفاض بنسبة 71.24 % مقارنة بنفس الفترة من سنة 2023.
كلّ هذه الأرقام يدفع ثمنها باهظا المهاجرات والمهاجرون قبل وأثناء محاولة عبور المتوسط في تونس، كيف ذلك؟
المهاجرات والمهاجرون في تونس: بشر بدون حقوق تسلب إنسانيتهم
أن تكون مهاجرا أو لاجئا لا يجعل منك مجرما تُصادَر أبسط حقوقك، هكذا يكون الأمر في دولة الحق والقانون. لكنّ الوضع مخالف تماما في بلادنا تحت نظام قيس سعيد أين تحوّل امتهان كرامة المهاجرين والعنف المسلّط عليهم إلى منظومة رسمية تصادر أدنى حقوقهم وتتعاطى مع ظاهرة الهجرة بطريقة أمنية فالتة عن كلّ رقابة أو مساءلة. فالبوليس التونسي يعامل المهاجرين معاملة لا إنسانيّة لا تستثني حتّى الأطفال والنّساء الحوامل، ويعتدي عليهم بالضرب والإهانة ويسرق نقودهم وأمتعتهم (الهواتف الجوّالة…)، كما يتعرّض المهاجرون إلى حملات الإيقاف والإبعاد القسري خارج أيّ إطار قانونيّ ليتمّ إلقاؤهم في الصّحراء القاحلة دون ماء أو غذاء قرب الحدود الجزائرية والليبية، ناهيك عن سوء التغذية والاكتظاظ الشديد في مراكز الإيقاف. هذا الأمر معلوم من الجميع والمشاهد المتكرّرة لجثث المهاجرين الذين لقوا حتفهم جوعا وعطشا في الصحراء، على غرار صورة تلك الأمّ “فاتي دوسّو” ذات الثلاثين ربيعا وطفلتها ماري البالغة 6 سنوات من العمر اللتين ماتتا من العطش وعُثر على جثتيهما جنبا إلى جنب على الحدود الليبية التونسية في جويلية 2023، وهو ما سيبقى وصمة عار في تاريخ بلادنا.
ولم تقف الجرائم التي يتعرّض لها المهاجرون عند هذا الحدّ، بل وصلت حدّ الاتجار بالبشر على مستوى الحدود التونسية الليبية وهو ما كشف عنه تقرير تحت عنوان “الاتجار بالبشر من قبل الدولة: طرد وبيع المهاجرين من تونس إلى ليبيا”(**) نشره فريق من الباحثين في 29 جانفي الفارط بناء على شهادات 30 من المهاجرين من جنوب الصّحراء تمّ إبعادهم من تونس إلى ليبيا بين جوان 2023 ونوفمبر 2024. وقد بيّن التّقرير بناء على تلك الشهادات واقع “بيع البشر في الحدود من قبل الأجهزة الأمنيّة والعسكريّة التّونسيّة وكذلك التّرابط بين الهياكل الأساسية التي تقف وراء عمليّات الطرد وبين ماكينة الخطف في السّجون الليبيّة” وهو ما يعني أنّ طبيعة الانتهاكات الجارية ترتقي إلى جرائم دولة. ويرصد التقرير 5 مراحل للسلسلة اللوجستية المعتمدة: “1) اعتقال المهاجرين؛ 2) نقلهم إلى الحدود التونسيّة الليبيّة؛ 3) دور معسكرات الاعتقال التي تديرها هيئات عسكرية تونسية؛ 4) النقل القسري وبيع المهاجرين للقوّات المسلّحة والمليشيات الليبيّة؛ 5) احتجاز المهاجرين في السّجون الليبيّة حتى دفع فدية وإطلاق سراحهم”. ورغم خطورة تلك الاستنتاجات والاتّهامات المباشرة للدّولة التونسية فإنّ قيس سعيد وسلطاته ما زالا يلازمان الصّمت حيال ما ورد في التّقرير بعد مضيّ أكثر من شهر على نشره.
إنّ ما ورد أعلاه يؤكّد أن شبكات التمعّش من مأساة الهجرة مرتبطة بأكثر من خيط بالأنظمة الحاكمة في منطقتنا وسياساتها ويفنّد نظرية المؤامرة التي يروّج لها قيس سعيّد وأتباعه في علاقة بالهجرة.
الخطاب العنصري والتحريض على المهاجرات والمهاجرين جنوب الصحراء
في الوقت الذي تحاصَر فيه الكلمة الحرّة تحت وطأة المرسوم 54 سيء الصّيت ويلاحَق المعارضون والناشطون والصحفيون والمواطنون بسبب مواقفهم وآرائهم، رفعت المنظومة الشعبوية كلّ القيود عن الخطابات العنصرية تجاه المهاجرين السود رغم كونها لا تدخل في خانة حريّة التعبير بل توصف بالجريمة في القوانين التونسية والمواثيق الدولية.
وقد كان الخطاب العنصري الذي ألقاه قيس سعيّد في 21 فيفري 2023 بمثابة التبنّي الرسمي والغطاء الذي رفع كل القيود عن الخطابات العنصريّة وحملات التّحريض على المهاجرين والمهاجرات. فبعد اتّهامهم بالتسبّب في انتشار عدد من الأمراض، وهو ما فنّده أهل الاختصاص والإطار الصحّي، والدعوة إلى حرمانهم من العلاج، ها هي النائبة فاطمة مسدّي، إحدى غلاة الخطاب العنصري من أنصار المنظومة الشعبوية، تستهدف الأمومة والأطفال المهاجرين إذ لم تتورّع مؤخّرا عن دعوة السلطات إلى اعتماد “حلّ جذري لإيقاف نزيف الولادات في صفوف الأمّهات المهاجرات غير النظاميات” مضيفة أنه “ربّما بعد 20 عاماً نجد نائبًا في مجلس نوّاب الشعب من أفريقيا جنوب الصّحراء”.
إنّ هذا الخطاب هو ذاته الذي يروّج له غلاة العنصريين والفاشيين في البلدان الغربية ومناطق أخرى في العالم، هدفه الحقيقي نشر التّفرقة والكراهيّة بين الشّعوب، وهو ما يستوجب من قوى التقدّم والحريّة في بلادنا أن تخرج من سلبيّتها وأن تخوض معركة فكريّة وسياسيّة واسعة ضدّ هذا التيّار العنصريّ وأن تنتصر لقضيّة المهاجرين دون ارتباك أو تردّد.
التّضامن مع المهاجرات والمهاجرين: واجب إنساني وليس جريمة
بالتّوازي مع تشجيع الموجة العنصريّة في بلادنا، تعمد السّلطة إلى تجريم التّضامن مع المهاجرين، إذ يجري إيقاف وتتبّع العديد من النشطاء ضدّ العنصريّة وفي مجال مساعدة وإغاثة المهاجرين على غرار سعدية مصباح (جمعية “منامتي”) ومصطفى الجمّالي وعبد الرزّاق الكريمي (“المجلس التونسي للاجئين”) وشريفة الرّياحي وإيمان الورداني ومحمد جوعو وعياض بوسالمي ومحمد إقبال (جمعية “تونس أرض اللّجوء”)… وحين تفشل السلطات في تتبّعهم بناء على شبهات ماليّة واتّهامات بتمويلات أجنبيّة لتأليب الرّأي العامّ عليهم تعمد إلى تلفيق تهم جديدة ضدّهم بعنوان “تعمّد إعانة أجنبيّ بصفة مباشرة أو غير مباشرة” و”تسهيل جوَلانِه وإقامته بالبلاد التونسية بصفة غير شرعية” أو “إيواء أشخاص دخلوا إلى التراب التونسي خلسة وتخصيص أماكن لإيوائهم”…
هؤلاء أيضا يستوجب علينا دعمهم ورفض تجريمهم تماما مثلما نقوم به مع عموم المساجين السياسيين ومساجين الرأي.
مراجع:
(*) انظر الرابط التالي:
https://ftdes.net/ar/statistiques-les-migrants-interceptes-sur-les-cotes-tunisiennes/
(**) التقرير بالفرنسية:
Traite d’Etat : expulsion et vente de migrants de la Tunisie vers la Libye (https://statetrafficking.net/StateTrafficking_FR_21012025_light.pdf)