الرئيسية / صوت العالم / ألمانيا تربط مع تاريخها النازي
ألمانيا تربط مع تاريخها النازي

ألمانيا تربط مع تاريخها النازي

بقلم جيلاني الهمامي

مساء يوم 23 فيفري الماضي كان الشعب الألماني وعموم شعوب العالم على موعد مع نبأ صعود اليمين واليمين المتطرّف في ألمانيا. كان ذلك متوقّعا منذ مدّة وبالتّحديد منذ أعلن المستشار الألماني السّابق شولتز إجراء انتخابات سابقة لأوانها في ألمانيا جرّاء فقدان حكومته ثقة البرلمان البوندستاغ.

الأزمة الاقتصاديّة وأزمة التّحالف الحاكم

كان من المفروض أن تجري الانتخابات التّشريعيّة في ألمانيا في شهر سبتمبر القادم لكنّ انفجار الائتلاف الحاكم بقيادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي SPD (وحزب الخضرGrüne والحزب الديمقراطي الحر FDP) عجّل بسقوط الحكومة التي فقدت الأغلبيّة في البرلمان الألماني ممّا أجبر رئيس الائتلاف، المستشار الألماني شولتز، على الدعوة لانتخابات سابقة لأوانها. كانت تلك هي الأسباب المباشرة ولكنّ تلك التطوّرات نفسها كانت ناجمة عن أسباب أعمق. انطلق مسار تفكّك تحالف الحكم من قرار المستشار الألماني بإقالة وزير الماليّة الذي أدّى إلى انسحاب حزب، الحزب الديمقراطيّ الحرّ FDP من الائتلاف ولم يبق في الحكومة سوى الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب الخضر. فأصبحت بالتالي حكومة فاقدة للأغلبية البرلمانيّة وكان لا بدّ من إجراء انتخابات مبكّرة. ولم تكن إقالة وزير الماليّة عمليّة اعتباطيّة بقدر ما كانت القطرة التي أفاضت الكأس.
تعيش ألمانيا منذ أكثر من سنتين، على وقع انكماش اقتصاديّ تمحور حول ثلاثة مظاهر كبرى هي تراجع الصّادرات وركود النموّ وانخفاض الاستثمار والاستثمارات الأجنبيّة المباشرة. فالمثال الاقتصادي الألماني المعروف والقائم على انخفاض كلفة الطّاقة وتنافسيّة صناعيّة عالية ورواج كبير للموادّ المصنّعة الألمانيّة في الأسواق العالميّة، يمرّ طوال الفترة ما بعد الكوفيد بتراجع واضح بما جعل البعض يتحدّث عن “نهاية نموذج”. فقطاع صناعة السيّارات الذي يشكّل عماد الصادرات الصناعيّة الألمانيّة يختنق أمام صعود المنافسة الصّينيّة وخاصّة في مجال صناعة السيارات الكهربائيّة الأمر الذي ترجمته قرارات شركة فولكسفاغن القاضية بغلق عدّة مركّبات صناعيّة والتخفيض بـ10% من مصاريف الأجور التي ستظلّ مجمّدة طيلة السّنتين القادمتين بسبب ارتفاع تكلفة الطّاقة وبالتّالي تكلفة الإنتاج وعدم القدرة على تحمّل المنافسة في السّوق العالميّة. لكن وإلى جانب ذلك فإنّ الاقتصاد الألماني بات يعاني من مشاكل أخرى هيكليّة تتجلّى في تدهور البنية الأساسيّة وتراجع الرّقمنة وتقلّص قوّة العمل نتيجة شيخوخة المجتمع الألماني وارتفاع الضرائب وفرار الرّساميل الألمانيّة إلى الخارج بحثا عن فرص استثمار أفضل في الوقت الذي يشهد الإنفاق على الصناعات الحربيّة والاستثمارات في مجال الأمن والدفاع زيادات باتت تثقل كاهل الاقتصاد الألماني.
على خلفيّة هذا المشهد العام شبّت أواخر العام الماضي خلافات داخل الائتلاف الحاكم حول الاستمرار في تقديم مساعدات لأوكرانيا باستعمال مخصّصات النفقات الاجتماعيّة. علما وأنّ المقدرة الشرائيّة للعمّال وعموم الفئات الشعبيّة شهدت تدهورا لأنّ قيمة الأجور الصّافية تراجعت مقابل تحسين مردوديّة رأس المال الذي اتّبعته الحكومات الألمانيّة منذ أكثر من 15 سنة (منذ عهد انجيلا ميركل) كوسيلة لانتشال الاقتصاد من التخلّف أمام الاقتصاديّات الأوروبيّة الأخرى. وقد شكّلت هذه الاختيارات مبعثا على انتشار حالة من الغضب العام في الأوساط الشعبيّة والكادحة الألمانيّة. ومهما حاولت كلّ الأحزاب من داخل التحالف الحاكم بقيادة الحزب الاشتراكيّ الديمقراطيّ ومن خارجه وخاصّة الأحزاب المحافظة واليمينيّة المتطرّفة تفسير الأزمة بموضوع الهجرة والأجانب فإنّ هذه المغالطة لم تمنع الناخبين الألمان من معاقبة التحالف الإصلاحي اللّّيبرالي الحاكم.

الإصلاحية تُعبّد الطريق لعودة النّازيّة

كأنّما التاريخ يعيد نفسه في ألمانيا. فما يجري اليوم على درجة عالية من الشبه بما حصل في بداية ثلاثينات القرن الماضي. لقد رزحت ألمانيا في السّنوات الأخيرة من “جمهوريّة فايمار” (1918-1933) تحت تأثير أزمة اقتصاديّة واجتماعيّة حادة. لقد بدت الحكومة ضعيفة وغير قادرة على إنقاذ البلاد ورأت القوى السياسية المعارضة (بما في ذلك الحزب الاشتراكي القومي الألماني، حزب هتلر) ضرورة رحيل حكومة الاشتراكيين الديمقراطيين الفاشلين. لذلك يقول جورج ديمتروف في تحليله لأسباب صعود الفاشية للحكم في ألمانيا: “لقد استطاعت الفاشيّة الوصول إلى الحكم قبل كل شيء لأن الطبقة العاملة نتيجة لسياسة التّعاون الطبقيّ مع البرجوازية التي كان يمارسها زعماء الاشتراكية الديمقراطية قد انقسمت وجُرّدت من السّلاح من الوجهة السّياسية ومن الوجهة التنظيميّة تجاه عدوان البرجوازيّة”(1). واليوم يتجدّد المشهد في ملامحه العامة، مع مراعاة الاختلاف في التفاصيل المرتبطة بالواقع والتاريخ، ومرّة أخرى يمهّد الحزب الاشتراكي الديمقراطيّ الألماني بقيادة شولتز الطّريق لصعود اليمين المحافظ والنّازيّين للحكم تماما كما مهّدت حكومات الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحكومات الوسط Zentrum الطّريق لصعود هتلر للحكم في جانفي 1933.
إنّ المتمعّن في مسارات صعود “الحزب القومي الاشتراكي لعمّال ألمانيا” أو اختصارا “الحزب النازيّ” من جهة وحزب “البديل من أجل ألمانيا” Alternative fur Deutschland AfD من جهة ثانية، يلاحظ قِصَر المدّة بين نشأة كلّ من الحزبين ووصوله للحكم. فالحزب النازيّ الذي تأسّس في جانفي 1920 وعقد أول مؤتمراته يوم 21 أوت 1927 وحصل على عدد ضئيل من النوّاب في البرلمان في أوّل انتخابات شارك فيها سنة 1924 أمكن له أن يصبح الحزب الأوّل في ألمانيا في انتخابات جويلية 1932 بـ 37.3% من الأصوات و230 نائب. وعلى نفس الصورة تقريبا يتكرّر المشهد مع “البديل من أجل ألمانيا” الذي تأسّس في فيفري 2013 وتحصّل في ثاني انتخابات عامة يشارك فيها سنة 2017 على 12.6% من الأصوات و94 مقعدا في البوندستاغ ويأتي في الانتخابات الأخيرة يوم 23 فيفري الماضي في المرتبة الثانية بـ 20.8% من الأصوات و152 مقعدا وهو الحزب الأوّل في ألمانيا الشرقيّة سابقا.

ألمانيا تحجز مقعدا في “النادي الفاشي العالمي الجديد”

يأتي صعود اليمين المتطرّف في ألمانيا ليعزّز ظاهرة ما فتئت تتأكّد وتنتشر وهي اجتياح الحركات اليمينيّة المتطرّفة الشّوفينيّة الفاشستيّة لعدد كبير من بلدان العالم وخاصّة أوروبا. مساحات واسعة جدّا من العالم أصبحت اليوم تحت سيطرة اللّون الرّماديّ للتيّار الفاشي، الأرجنتين والولايات المتّحدة الأمريكية والهند والأغلبية السّاحقة من بلدان الاتّحاد الأوروبيّ. ومع عودة ترامب إلى البيت الأبيض تنحو تيّارات اليمين المتطرّف في العالم نحو تشكيل تكتّل يمينيّ عالميّ لتنسيق السّياسات وإعادة صياغة منظومة العلاقات الدوليّة. ونجد في سلوك إدارة ترامب مؤشّرات كثيرة تؤّكد هذا الاتّجاه. لعلّ آخرها تدخّل نائب الرّئيس الأمريكي جاي دي فانس ووزير “الدوج” DOGE الملياردير إيلون ماسك لتأييد حزب “البديل من أجل ألمانيا” النازيّ. ويبدو أنّ هذا التّأييد قد فعل مفعوله في مساعدة النازيّين الجدد على كسب الانتخابات.
وبصرف النّظر عمّا إذا سيكون حزب “البديل من أجل ألمانيا” ضمن الائتلاف اليمينيّ المحافظ الحاكم في المدّة القادمة فإنّ جانبا كبيرا من سياساته وشعاراته ستلقى طريقها إلى التّجسيم في خيارات الحكومة الجديدة. بطبيعة الحال سيكون ملفّ الهجرة هو المجال الذي ستتسارع فيه الإجراءات. فالمناخ الأوروبي عامة وفي ألمانيا تحديدا ملائم لذلك. فقد تمّ خلال السّنة الماضية، حسب تصريحات ألمانيّة رسمية، ترحيل 20.084 شخصا إلى بلدانهم الأصلية أو إلى بلدان أخرى في الاتّحاد الأوروبي. وقبيل الانتخابات بأيّام قليلة تمّ ترحيل عدد آخر من الأفغانيّين والعراقيّين والتّونسيّين الذين وصلوا إلى مطار النفيضة يوم 20 فيفري الماضي. عمليّات التّرحيل التي شرعت فيها ألمانيا وإيطاليا وفرنسا تستبق الآجال التي حدّدها التّشريع الخاصّ بالتّسريع في ترحيل الأجانب الذي تمّ وضعه في العام الماضي وتقرّر أن يدخل حيّز التّنفيذ العام القادم 2026 ولكن حكومات اليمين لم تعُدْ مستعدّة لمزيد الانتظار. ومعلوم أنّ العمليّات الجارية في أوروبا هي نفسها التي شرع فيها ترامب فور دخوله البيت الأبيض.
إنّ ما يميّز أنظمة الحكم اليمينيّة الجديدة أيضا هو الهرولة نحو التسليح. فقد فرض حلف شمال الأطلسي في جويلية الماضي على جميع أعضائه (32 دولة) تخصيص 2% من الناتج المحلي الإجمالي لكل دولة للإنفاق العسكري. ومن المنتظر أن تبحث قمّة الناتو شهر جوان القادم في لاهاي (هولندا) الترفيع في هذه النسبة إلى 3%. وقد حثّ ترامب منذ أيام دول أوروبا على ترفيع هذه النسبة إلى 5%. وكانت الولايات المتحدة الأمريكية خصّصت 28.791 تريليون دولار للدفاع السنة الماضية 2024 وهو ما يمثل 66% من إجمالي نفقات الناتو العسكرية. وتلقى هذه الدعوات تأييدا وحماسا لدى الحكومات الأوروبية الحاليّة. ذلك ما أعلنه وزيرا الدفاع الفرنسي والألماني وكذلك مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي التي قالت “الرئيس ترامب محق في قوله إننا لا ننفق بما فيه الكفاية، حان وقت الاستثمار”. وينبغي أن يكون الإنسان أبله حتّى يذهب في اعتقاده أن كواسر الرأسمالية الامبريالية ينفقون الأموال الطّائلة على الأسلحة لتكديسها وليس استعدادا للحرب. وهو ما أكّدته كلّ التجارب التّاريخيّة السّابقة.
خلاصة القول إنّ صعود اليمين المتطرف كإفراز للأزمة الحادة التي تعيشها الرأسمالية العالمية سيقود العالم لا فقط إلى أزمة أشدّ وأقوى وإنما أيضا إلى انتشار مشاعر الكراهية والحقد الشوفيني وإلى اشتعال الحروب هنا وهناك بما يهدد بتحوّلها إلى حرب كونيّة تهدّد حقا البشرية والطبيعة على حدّ السّواء في ظل انتشار أسلحة التّدمير الشامل. وهو ما يجعل العمال والكادحين والنساء والشباب والمثقفين والمبدعين التقدّميّين في مختلف أنحاء العالم أمام المهمّة الملحّة المتمثّلة في التّعبئة ضدّ الموجة الفاشية الجديدة وضدّ النظام الرّأسمالي الذي يولّدها في ظل أزمته الرّاهنة مثلما ولّدها في السّابق وكلّفت الإنسانيّة حربا وحشيّة لا سابق لها في التّاريخ. لم تخطئ المناضلة الشيوعية الألمانية روزا لكسمبورج التي اغتيلت سنة 1919 والتي سمّاها لينين “صقر الماركسية المحلّق” حين أطلقت صرختها: “الاشتراكية أو البربرية”. إنّنا مرّة أخرى في لحظة تاريخية على درجة من الخطورة تكسب صرخة “روزا لكسمبورج” راهنيّة قصوى.

هوامش:

(1) الفاشية والطبقة العاملة، جورج ديمتروف ص 22، دار ابن خلدون

إلى الأعلى
×