لاحظ العديد من المتابعين للشأن الوطني تزايدا ملحوظا، في المدّة الأخيرة، للخطاب الفاشي الذي ينهل من كل مصادر الفكر الاستبدادي الذي لا يرى أيّة معالجة للمشاكل المتعدّدة التي يتخبّط فيها المجتمع ويفرزها النظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي القائم إلا بالوسائل القهرية والعنيفة التي لا يتفطن العديد من المنخرطين فيها أنها لن تحل المشكلات الأصلية بل ستعمقها وتوسّعها على حساب مصالح الطبقات والفئات الكادحة والشعبية المتضرّرة من الوضع الحالي. فقد تصاعد في الفترة الأخيرة منسوب الجريمة التي طالت أطفالا (حي ابن خلدون، القصرين…) أو كبارا، نساء ورجالا، بما فيه عمليات قتل شنيعة من الابن لأمّه أو لأحد أقاربه. وبالتوازي مع ارتفاع نسب الجريمة ازدادت حالات الانتحار حرقا أو بشرب الأدوية الفتاكة خاصة من قبل مراهقين/ات.
إن هذه الحالات التي تجد الطريق إلى النشر الواسع على شبكات التواصل الاجتماعي وما يرافقه من “تصرّف” في المعطيات يتلقّفه أنصار الخطاب الفاشي بمختلف درجات وعيهم وانخراطهم في المنظومة الشعبوية المتطرفة القائمة، إلى الترويج إلى “أنّ الدولة مطالبة باعتماد أقصى العقوبات حتّى يقع قطع دابر الإجرام الذي لا تفسير له سوى ابتعاد الناس عن القيم والأخلاق والدّين”… و”إن الجرائم القصوى تتطلب العقوبات القصوى أي حكم الإعدام” مع مطالبة قيس سعيد بالعودة إلى تفعيله دون أدنى خوض في الأسباب العميقة لاستفحال الظاهرة تهرّبا من تحميل منظومة الحكم المسؤوليّة. ويترافق هذا الخطاب مع استهداف الخطاب الحقوقي بالتهكم والتبخيس وحتى تحميله مسؤولية تصاعد الجريمة في المجتمع.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فمع انطلاق جلسات ما أصبح يعرف بقضية التّآمر على أمن الدّولة التي بيّنا أكثر من مرّة على صفحات هذه الجريدة طابعها الكيدي الذي يستهدف الحق في المعارضة وفي النشاط السياسي والمدني، تعالت بعض الأصوات حتّى من داخل برلمان الدّمى لتحرّض على القتل، قتل المعارضين واستئصالهم “كالورم الخبيث” لأنّه حسب هذه الأصوات لا مكان في البلاد إلّا لقيس سعيّد ونظامه أمّا ما تبقّى فهم، حسب عبارة الحاكم بأمره نفسه، من “الخونة” و”العملاء” و”المتآمرين” و”الفاسدين” الذين لا حق لهم في شيء بما فيه محاكمة تتوفّر فيها أدنى شروط المحاكمة العادلة. وتترافق هذه الدعوات إلى تجريم المعارضين والمنتقدين والتخلّص منهم مع موجة جديدة من الخطاب العنصري تجاه المهاجرين جنوب الصحراويين غير النظاميّين، خطاب فاشي يدعو إلى سحل “هؤلاء السود” إلى جانب “مراقبة نسلهم” مع استعراض بشع حتّى لمضامين ولادة لمواليد جدد قصد الإهانة والتجييش بالضرب على الوتر العنصري الموغل في التخلف وبثّ سموم وحشية تتوجّه إلى كل ما هو غرائزي ومتخلف في الوعي العام كان من نتائجها المباشرة هذه الأيام الاعتداء على خيام الجنوب صحراويين بحرقها وحرق محتوياتها والاعتداء على قاطنيها بالعنف والإهانة.
إن تنامي هذا الخطاب الاستبدادي، الفاشي هو إجابة الشّعبوية اليمينية المتطرّفة وأنصارها على الاستحقاقات السياسيّة والاجتماعية الحارقة. ففشل المنظومة الاقتصادي والاجتماعي واضح للعيان وما مؤشرات الجريمة إلا تعبيرا عن أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة، وما محاولات ربطها بتراجع القيم أو ضعف الخوف من الدولة سوى تفسير قاصر ومتهافت لا هدف منه سوى طمس ذلك الفشل وتبرير تفصّي الدولة من واجباتها الأساسية. كما أن نشر الخطاب والممارسات العنصرية علاوة على كونه لن يحلّ ظاهرة الهجرة غير النظامية فإنه يمثل وسيلة بشعة لإخفاء عدم تحمّل منظومة الحكم مسؤوليتها تجاه المهاجرين غير النظاميين الفارين من جحيم الفقر والبؤس والحروب في بلدانهم ومناطقهم وتركهم وجها لوجه مع المواطنين التونسيّين لخلق ذرائع لكل الممارسات الوحشية تجاه هؤلاء المهاجرين وطمس دور حارس الحدود الذي يلعبه نظام قيس سعيد لصالح أنظمة اليمين واليمين الفاشي في أوروبا مقابل حفنة من اليوروات على حساب أبسط القيم الإنسانية والقوانين الدولية التي تنظّم الهجرة غير النظامية.
أمّا خطاب سحل المعارضين وتصفيتهم فبالإضافة إلى كونه تعبيرا عن الطابع المعادي للحريات وللديمقراطية لنظام قيس سعيّد، فهو أيضا شاهد على عجز هذا النظام عن إدارة شأن البلاد والمجتمع بغير الطرق القسرية والفاشية خدمة لمصالح الأقليات البيروقراطية والريعية التي تتحكم في مصائر البلاد خدمة لمصالح الدول والشركات والمؤسسات المالية الأجنبية على حساب الشعب بأسره. إنّ كل التطورات التي تشهدها بلادنا في مختلف المجالات تبيّن بما لا يدع أيّ مجال للشكّ أنّ الأوضاع تتفاقم وأنّ التصعيد في خطاب منظومة الحكم وأنصارها بما فيه من دعوات للقتل والعنف لا يعبّر إلا عن تعمّق أزمة هذه المنظومة وعزلتها المتزايدة. وما من شكّ في ألا حل لهذا الوضع إلا في مسك الشعب مصيره بيده من خلال تنظيم النضال ضد منظومة الحكم واختياراتها الرجعية في أفق فرض اختيارات جديدة وطنية وديمقراطية وشعبية تمكن من النهوض بالوطن وبحياة الشعب ومعالجة أسباب الأمراض الاجتماعية المختلفة بما فيها الجريمة معالجة جذرية محورها النهوض بالإنسان التونسي كما تمكّن من اعتماد تشريعات إنسانية متحررة في التعاطي مع كل القضايا الطارئة بما فيها الهجرة غير النظامية. وهو ما يتطلب منّا بشكل مباشر اليوم التصدي لهذه الموجة الفاشية التي تغزو بلادنا كما تغزو العالم والدفاع بكل قوة عن قيم الحرية والديمقراطية والمساواة.
