الرئيسية / صوت الوطن / رمضان، بأيّ حال عدت يا رمضان
رمضان، بأيّ حال عدت يا رمضان

رمضان، بأيّ حال عدت يا رمضان

بقلم علي البعزاوي

حلّ شهر رمضان ثقيلا هذه السنة بسبب التدهور الفظيع في القدرة الشرائية المتدهورة أصلا منذ سنوات. وتضيق السبل أمام المواطن المفقّر أكثر فأكثر فيُضطرّ إلى التداين والتخلي عن عديد السلع التي تُعتبر كمالية رغم أنها ضرورية في الحقيقة.

الاستهلاك خلال شهر رمضان يزيد بنسبة 30% بالقياس مع الأيام العادية وكلفته اليومية من دون اللحوم الحمراء والسمك تصل إلى 60 دينار بالنسبة إلى عائلة متوسطة الدخل من 4 أفراد وفق رئيس منظمة إرشاد المستهلك. بينما لم تزد رواتب التونسيات والتونسيين منذ سنوات بسبب تعطل المفاوضات الاجتماعية وانخراط السلطة القائمة في سياسات التقشف. والمواطن لم يعد قادرا كما جرت العادة على تخزين السلع الضرورية لمثل هذه المناسبات، أولا لضيق الحال وثانيا بسبب ندرتها وكلفتها العالية.
المشهد الطاغي في الأسواق هو ضعف حركة البيع والشراء من جهة وقضاء المواطن لوقت طويل في التجوال بحثا عن أسعار في المتناول. وهناك فئات من المواطنين تكتفي بالفرجة على ما ينشر من سلع وتنتظر من يساعدها على اقتناء ما أمكن منها لسدّ الرمق.
تشير أرقام المعهد الوطني للإحصاء إلى استقرار نسبة التضخم عند الاستهلاك خلال شهر جانفي 2025 في حدود 6 % مقابل 6.7 % خلال شهر سبتمبر 2024. ورغم هذا التراجع فإنّ نسق أسعار مجموعة المواد الغذائية تطوّر خلال شهر جانفي 2025 ليصل 7.1 %. ويعود ذلك إلى ارتفاع سعر لحم الخروف بنسبة 22.7 % وأسعار الخضر بنسبة 18 % وأسعار الفواكه الجافة بنسبة 15.1 % وأسعار الأسماك بنسبة 13.7 % وأسعار الدواجن بنسبة 11.2 %.
إنّ نسبة التضخم المقبولة والمعقولة وفق اتفاقية “ماستريتش” هي في حدود 2 بالمائة. والمفروض أن تلتزم الحكومات المنحازة لشعوبها بهذه النسبة لتجنب تدهور القدرة الشرائية للمواطن. أمّا نسبة 6 بالمائة التي تعتبرها الأوساط الرسمية التونسية مقبولة فهي مرتفعة جدا خاصة بالنسبة إلى معدلات الأجور المعتمدة في تونس والتي تعتبر ضعيفة للغاية ولا تغطي تكاليف المعيشة التي ما فتئت تتشعب وتتوسع ولم تعد تقتصر على المواد “الضرورية” والإيجار والماء والكهرباء والصحة والدراسة.نحن في عصر الانترنيت والتوتر والعنف والأمراض النفسية والفيروسات وشروط البقاء على قيد الحياة والتنفيس عن الضغوطات باتت مكلفة أكثر من أيّ وقت مضى. والتونسيات والتونسيون يعامَلون من طرف حكومتهم وكأنهم يعيشون في أوائل الخمسينات.
عديد التساؤلات تطرح نفسها إزاء هذا الوضع المعقد والمحيّر باعتبار استمراره لعقود من الزمن. ذلك أنّ التونسيات والتونسيين لم ينعموا منذ 1956 إلى اليوم بأسعار مريحة تناسب إمكانياتهم – والمقصود هنا الفئات المتوسطة وضعيفة الدخل والتي تمثل الأغلبية – ولم تتوفر لهم قدرة شرائية تمكنهم من الرفاه والعيش الكريم ولو في الحدود الدنيا. لكن أولى هذه التساؤلات يتعلق بأسباب هذه الحالة الاجتماعية المزرية والمتواصلة طيلة عقود.

حول أسباب تدهور القدرة الشرائية

يرى خبراء اقتصاديون أنه كلما ارتفع نسق الأسعار ترتفع نسب التضخم وتتدهور القدرة الشرائية للمواطن والقدرة التنافسية للشركات أيضا. وما يحدد مستوى الأسعار هو كلفة الإنتاج أوّلا والعرض والطلب ثانيا. فكثرة الطلب وندرة السلع تساهم في غلائها ونسبة التضخم المرتبطة بمستوى الأسعار العالمية ثالثا خاصة بالنسبة إلى اقتصاد مرتبط عضويا بالاقتصاد العالمي ويعوّل على توريد جزء مهمّ من حاجياته الأساسية مثل الاقتصاد التونسي ومستوى سعر صرف الدينار بالقياس مع العملات الأجنبية رابعا. علما وأنّ قيمة الدينار التونسي مرتبطة بقوة الاقتصاد المحلي ومستوى تطوره. وفي هذا السياق شهدت عملتنا تراجعا كبيرا بل تدهورا بالقياس مع العملات الأجنبية.
إنّ مسؤولية التضخم وارتفاع الأسعار تعود في جوهرها إلى الخيارات الاقتصادية التابعة التي تضع تونس في إطار التقسيم العالمي للعمل في موقع المورّد لحاجياته الأساسية من مواد غذائية وأدوية ومواد فلاحية ومعدات مختلفة وكل مستلزمات النشاط الصناعي وغيرها. وكلما ارتفع منسوب التعويل على التوريد من الخارج كلما كانت الأسعار مرتبطة بقوانين السوق العالمية وخاضعة لها. كما أنّ هذا الارتفاع مرتبط بالسياسات التي تعتمدها الدولة إزاء الأسعار إمّا بإطلاقها وجعلها رهينة العرض والطلب والكلفة من المصدّر أو بالتدخل عبر إجراءات حمائية لضبطها في مستويات محددة تمكّن المواطن من الإقبال عليها واقتناء ما يستحقه من سلع دون عناء (صندوق التعويض مثالا). وبقدر ما تضيق مجالات الإنتاج المحلي أو ما يطلق عليه بالاكتفاء الذاتي تتسع مجالات التوريد من الخارج وتغدو الأسعار غير متحكم فيها باعتبارها خاضعة بالأساس لقانون السوق. وهذا ما يحصل في تونس باعتبار المنوال الاقتصادي المعتمد طيلة عقود والذي يتسبب في حالة من عدم الاستقرار والفوضى والارتفاع المستمر للأسعار وتدهور القدرة الشرائية. وهنا يطرح التساؤل: هل المسألة قضاء وقدر ولا مناص منها أم أنه بالإمكان إيجاد حلول لهذه المعضلة المركبة؟ 

الحلول الممكنة والضرورية

إنّ التحكم في الأسعار والحفاظ على القدرة الشرائية لعموم المواطنين وتمكين المؤسسات الاقتصادية من حدّ أدنى من التنافسية والصمود من أجل البقاء مرتبط بالخيارات وبالسياسات المتبعة. وهناك حلول مباشرة وعاجلة (إصلاحات) وأخرى جذرية.
الأولى، أي الإصلاحات، تتمثل في تكثيف وتوسيع الإنتاج المحلّي في مختلف القطاعات من فلاحة وصناعة وقطاعات خدمية للحد من التوريد وتحقيق الاكتفاء الذاتي في الحدود الممكنة، أي إنتاج الثروة. وفي هذا الإطار ينبغي دعم منظومات الإنتاج المختلفة وتمكينها من أسباب التقدم والتطور. إلى جانب دعم المشاريع الصغرى والمتوسطة التي تمثّل حاليا عصب الاقتصاد التونسي من خلال توفير التمويل اللازم بنسب فائدة مقبولة والتسهيلات الإدارية واللوجستية والمرافقة حتى تساعد في تحقيق النمو الاقتصادي والاستقرار وامتصاص جزء من البطالة التي ارتفعت معدلاتها لتلامس 16.4 %.
ومن الحلول المباشرة أيضا إعادة النظر في السياسة الجبائية بإقرار ضريبة تصاعدية على الدخل /المرابيح وضبط الأسعار في مستويات محددة تتناسب مع المعدل العام للمداخيل والأجور مع مراجعة هذه الأخيرة مراجعة جدية وربطها بالأسعار، والحد من التضخم وعدم ترك الحبل على الغارب مثلما هو حاصل حاليا.
الثانية، ونعني الحلول الجذرية والتي يمكن اعتبارها حلولا نهائية ومستدامة فمرتبطة بمراجعة الخيارات العامة والسياسات والمنوال التنموي. وهذا يتطلب وضع حدّ لدولة الكمبرادور المنتصبة منذ عقود على رقاب الشعب التونسي والاستعاضة عنها بمنظومة / دولة جديدة وطنية وديمقراطية وشعبية تلبّي مصالح الأغلبية من خلال اقتصاد وطني منتج للثروة وموجّه لخدمة الحاجيات الأساسية الداخلية ومتطلبات التطور والنمو، اقتصاد متحرر من كلّ أشكال التبعية يعتمد على القطاعات الاستراتيجية من فلاحة وصناعة وبنية تحتية وخدمات أساسية. اقتصاد يوفر إمكانيات تشغيلية واسعة ويضمن أجورا تحقق الرفاه والعيش الكريم لعموم المواطنين في إطار عدالة اجتماعية ومساواة بين الفئات والجهات إلى جانب ما توفره الدولة من خدمات صحية وتربوية وثقافية راقية ومجانية وبيئة سليمة يطيب فيها العيش. وهذا ممكن لكنه رهين إرادة الشعب في التحرر من الاستبداد والاستغلال والتبعية وإرساء منظومة جديدة.
إنّ دولة الكمبرادور باتت عاجزة عن إيجاد الحلول المناسبة لعيش ورفاه مواطنيها وضمان قدرة شرائية مناسبة لعموم الفئات الشعبية لأنها وُجدت لخدمة مصالح طبقية محددة، مصالح أقلية من كبار الرأسماليين الأكثر ثراء في البلاد على حساب الأغلبية التي ما فتئت تزداد فقرا حيث تُعدّ تونس اليوم أربعة ملايين يعيشون تحت خط الفقر، كما وُجدت لخدمة مصالح كبرى الشركات والمؤسسات والدول الاستعمارية المهيمنة على تونس. وهذا من شأنه أن يعيق تقدم وازدهار المؤسسات الوطنية ويخضعها بلا رحمة لقوانين تنافس غير متكافئة ويضرب كل إمكانية للنهوض والتطور المستقل والعيش الكريم.
فإلى العمل الجاد من أجل البديل الديمقراطي الشعبي القادر على ضمان الاستقلال والرفاه والعيش الكريم.

إلى الأعلى
×