الرئيسية / صوت الوطن / لا يوافقون ولا ينافقون ولكنهم يغادرون البلاد
لا يوافقون ولا ينافقون ولكنهم يغادرون البلاد

لا يوافقون ولا ينافقون ولكنهم يغادرون البلاد

عن هجرة الكفاءات وفشل السياسات… يبحثون عن حياة كريمة حرمهم منها من لا كفاءة لهم

بقلم سمير جراي

عاد موضوع هجرة الكفاءات أو كما يسمّى “هجرة الأدمغة” ليطفو على سطح الأحداث مجددا، وتمثل ظاهرة هجرة الكفاءات والخبرات تحديات اجتماعية وسياسية واقتصادية في دولة مثل تونس وتكتسب أهمية قصوى بسبب تزايد عدد المهاجرين من أصحاب الكفاءات العلمية والتقنية لما لها من آثار سلبية على التنمية المجتمعية والاقتصادية.

نقلت وكالة تونس أفريقيا للأنباء الأسبوع الماضي عن عميد المهندسين التونسيين كمال سحنون قوله إنّ 39 ألف مهندس من بين 90 ألفا مسجلين في عمادة المهندسين قد غادروا تونس، أي ما يعني قرابة نصف المهندسين المسجلين في البلاد.
أكثر من ثمانية آلاف مهندس يتخرجون سنويا من الجامعات التونسية ويبلغ معدل المغادرين يوميا حوالي 20 مهندسا، يبدو الرقم مفزعا بلا شك، كما أنه يفسّر فشل السياسات التنموية والاقتصادية والاستراتيجية في تونس، بل إنّ الوضع وصل حدّ دقّ ناقوس الخطر في عدة قطاعات منها الهندسة والطب بسبب مغادرة البلاد لضعف الأجور فيها وعدم وجود ضمانات تجعل الشباب التونسي يثق في مستقبل مهني جيّد في بلاده، خاصة مع الفجوة التكنولوجية بين تونس وبقية أقطاب العالم المتطورة في هذه المجالات العلمية.
من أبرز الأسباب التي تبدو واقعية ومقنعة تجعل الشباب من الكفاءات الوطنية في الهندسة أو الطب أو غيرها يخيّرون بلدا أوروبيا أو كندا أو إحدى دول الخليج لاستكمال مشوارهم المهني والحياتي هي صعوبة ظروف العمل في الاختصاصات الهندسية والطبية والتكنولوجية في بلادنا، فتونس تعرف تأخرا كبيرا في التطوير والانتقال التكنولوجي، فضلا عن السبب الرئيسي وهو بلا شك المال، فالرواتب في تونس ما زالت ضعيفة ودون المأمول ولا تلبّي كل احتياجات شاب يطمح إلى حياة كريمة في بلاده، أمّا السبب الآخر فهو الطلب الكبير على المهندسين التونسيين في أوروبا وكندا والولايات المتحدة ودول الخليج، وكثيرا ما يركز الطلب الأوروبي والخليجي على الشرائح العمرية بين 25 و35 سنة.
وقد غادر 1300 طبيب تونس في السنة الماضية أغلبهم من الأطباء الشبان، فيما بلغ عدد الكفاءات الطبية المهاجرة خلال سنوات (2022-2023-2024) قرابة 4 آلاف. وبحسب عمادة الأطباء فإن عدد الأطباء الشبان الذين هاجروا في السنوات الأخيرة يقدر بنحو 80% من الأطباء المتخرّجين.
عميد المهندسين أطلق صيحة فزع محذرا من استمرار نزيف الهجرة وما سمّاها إهدار الإمكانيات البشرية والمادية للدولة، حيث تقدر تكاليف تكوين المهندسين سنويا في تونس بنحو 650 مليون دينار بحسب العمادة.

ما الحلول لوقف هذا النزيف؟

من سخرية القدر أنّ المسؤولين في تونس عوّدونا منذ سنوات أنهم لا يبحثون عن حلول تحمي حقوق المعنيين بهذه الأزمة أو تلك وتحمي في نفس الوقت مصالح الدولة ومستقبل أجيالها بل يسرعون إلى استنباط حلول غريبة وفاشلة ليست إلا تعبيرة عن حجم الفشل والتخلف الذي وصلت إليه سياسات البلاد الرسمية.
في محاولة لإيجاد حلول لهذه المعضلة أراد أعضاء مجلس نواب قيس سعيد في موفّى السنة الماضية تمرير قانون يفرض تعويضات مالية على المستفيدين من الهجرة أي المهاجر وبلد الهجرة، ويتضمن المقترح الذي أثار جدلا واسعا حينها “تسديد خريجي الجامعات في مجالات الطب والهندسة والتخصّصات التقنية العالية الذين يختارون العمل في الخارج خلال السنوات الخمس الأولى بعد التخرّج 50% من تكاليف دراستهم الجامعية”.

برلمان قيس سعيد وسياسة “كول ووكّل”

من خلال هذه المبادرة يريد أعضاء برلمان قيس سعيد أن يفرضوا سياسة “كول ووكّل” على الراغبين في الهجرة هربا من محاصرة شبح البطالة والفقر في تونس.
سياسة “كول ووكّل” ترجمها رئيس لجنة التربية والتكوين المهني والشباب والرياضة ببرلمان قيس سعيد، فخر الدين فضلون بقوله في حوار مع قناة “الحرة”: “إنّ مشروع القانون يعني أساسا الأطباء والمهندسين الذين تصل كلفة تعليمهم وتكوينهم بالمؤسسات التونسية إلى نحو 34 ألف دولار” والهدف منه “استرجاع ما يمكن استرجاعه من كلفة التكوين”. هكذا يريدونها! “استرجاع ما يمكن استرجاعه” أي لو ترجمناها بلغة عامية لأحد “القشارة” يقول: “انحّو منه لي انحّو”. هكذا تريد مؤسسات قيس سعيد سياسة الدولة والناس.
ألا يعلمون أنّ ليس ما ينتفع به المهاجر هو المال فقط، فهو ينقل إلى بلاده وعائلته وأقاربه وأصدقائه، المهارات والإمكانات الشخصية والخبرات واللغات والتقدم في طرق التفكير، لكن طبعا هذا لا يهمّ جهابذة التشريع عندنا.
لحسن الحظ أن هذه المبادرة فشلت وجرى سحبها بعد الرفض الواسع الذي لاقته من المجتمع التونسي أفرادا وأحزابا ومنظمات ونقابات.

مجانية التعليم لم تعد مجانية بما أنهم يريدون استخلاصها مستقبلا

وفي سنوات تعيش فيها تونس صعوبات اقتصادية واجتماعية وتتجاوز نسب البطالة 16%، قدّم المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية في دراسة أعدها في ماي 2024 تحت عنوان “هجرة مهنيّي الصحة رهانات المنظومة الصحية في تونس”، مقترحا بفرض تعويضات في شكل اقتطاعات من الرواتب أو ضرائب توظف على أجور المغادرين باتفاق مع بلد المهجَر، مع شرط الحدّ الأدنى لعدد سنوات العمل في تونس. ولئن كانت مقترحات المعهد أفضل ممّا اقترحه “النواب” إلا أنها ما زالت تضرب حق التونسيين في العمل والتنقل بحرية أينما شاؤوا كما أنها تضرب الحق الدستوري وهو مجانية التعليم بما أنهم يريدون استخلاصا أو تعويضا ماليا عن سنوات الدراسة في حال حصول المتخرج على عمل خارج البلاد.
وسياسيا لا يمكن اعتبار هذا التمشي والسياسة التي تعتمدها الدولة في معالجة الملفات من هذا النوع إلا تهرّبا منها وتنصلا من مسؤولياتها في توفير بيئة سليمة للعيش الكريم لكل التونسيين وللمتخرّجين، كما أنه يجب النظر للمسألة من زاوية سياسية بالأساس وتأثير الأزمة السياسية على كل مستويات الحياة في تونس فوجب وضع نهاية للاستفراد بالحكم والقمع المسلط على السياسيين والشابات والشبان التونسيين والانطلاق في صياغة برامج اقتصادية قادرة على تحقيق التنمية وخلق فرص العمل والرفع من الأجور والحد من غلاء الأسعار وإيجاد آفاق أرحب للعيش الكريم والمترفه في تونس. من ذلك يجب استحداث القوانين وتطويرها واعتماد الشفافية في المعاملات الرسمية والتوظيف، بالإضافة إلى تمويل مراكز أبحاث خاصة وتشجيع التميّز والأفكار الجديدة وإعطاء المنح للاختراعات والأعمال الرائدة، وحماية البراءات، كما يمكن تمويل دراسات وإتباع سياسات لتكافؤ التعليم مع فرص العمل، وتأسيس مراكز معلومات تعنى بالمهن يمكنها أن تساعد الطالب في تحديد مساره الدراسي والمهني، وتمويل تدريبات وتقديم قروض ميسّرة للطلبة في الشّعب والقطاعات التي يكثر عليها الطلب، لزيادة عدد الكفاءات، وتحقيق الاكتفاء في السوق المحلية ولن تعود حينها الهجرة تمثل أيّ هاجس في مجتمعنا، وبالطبع خلق فرص عمل تليق بطموحات شباب تونس المحب لبلاده والراغب لاستثمار طاقاته وكفاءاته فيها وهذا ما أثبتته عدة تجارب رأيناها على مرّ السنين.
يبقى التساؤل هنا متى تتغير السياسات الاقتصادية والتنموية التي تضرب في العمق المجتمع التونسي وتدفع به إلى أزمات وراء الأزمات، ولا يجد شبابنا سوى العيش دون الحد الأدنى المادي، وبشغل -إن وجد- لا يحقق طموحاته وأهدافه وأحلامه، أو الهجرة “حرقةً” لمن ضاقت بهم السبل أو هجرة كفاءات درست وكابدت من أجل حياة كريمة حرمهم منها من لا كفاءة لهم.

إلى الأعلى
×