افتتاحية “صوت الشعب”، العدد 244، بتاريخ 16 مارس 2006
بمناسبة الذكرى التاسعة والستين لإعلان “الاستقلال” نعيد نشر افتتاحية العدد 244 من “صوت الشعب” التي خطّها الراحل الطاهر الهمّامي منذ 19 سنة بمناسبة مرور نصف قرن على إمضاء بروتوكول 20 مارس 1956.
وإن ننشر اليوم مجدّدا هذا النص لأنه مازال يحافظ على راهنيته في أهمّ المجالات، فإننا أيضا نحيّي من خلاله ذكرى الرفيق الطاهر الهمامي أحد هامات الحزب وأقلامه التي لا تنضب.
في 20 مارس 2006 يمرّ نصف قرن على اتفاقيات 1956 التي بموجبها دخلت تونس تحت طائلة الاستعمار الجديد، بعد اضطرار الاستعمار إلى تبديل خطته أمام نهوض الحركات الوطنية وتعاظم كفاح الشعوب من أجل نيل الاستقلال والحرية.
وكان الشعب التونسي، وهو يقدّم التضحيات، ينتظر اليوم الذي فيه تعود إليه بلاده، ويزول الاحتلال الأجنبي ومعه نظام العمالة والتخلف البياتي، كي يمارس سيادته ويحقق التقدم ويحيا حياة العزة والكرامة.
خمسون سنة تمرّ إذن على الحدث الذي لو كان “استقلالا تاما” كما يزعمون لما أمكن للنظام الدستوري أن يفرغ الحركة الوطنية من مضمونها ويفرض حكمه الدكتاتوري على رقاب التونسيين طيلة هذه المدة، وأن يجعل من تونس ملكا خاصا بينه وبين أسياده وحماته الاستعماريين الأمريكان والأوربيين.
خمسون سنة والبلاد تراوح مكانها! ورصيدها من القيم المعنوية يتبخر، والإقلاع معزوفة يعزفها للتسويق الداخلي والخارجي كل طاقم حكومي جديد، سواء في عهد “المجاهد الأكبر” أو في عهد “صانع التغيير”.
إنّ تقدّم البلدان يقاس بما حققته في مضمار بناء اقتصادها الوطني المستقل والمستجيب لحاجات شعبها، مهما كانت الظروف، وبانتهاج السياسة الخارجية، المناهضة للاستعمار والعنصرية، والسياسة الداخلية المكرسة للديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والنهضة الثقافية، بما يبني مجتمعا معافى وإنسانا سويا. فلا جدوى من تنمية اقتصادية إذا لم تعد بالنفع على بناء الوطن وأبناء الوطن، ولا جدوى من التنمية أصلا إذا لم يكن صانعوها أحرارا في بلدهم، وكانت البطالة والتهميش والإهانة والمهانة هي خبزهم اليومي، ولا مصداقية لـ”استقرار” شبيه بصمت القبور، فرضته القوة الغاشمة، وجاء نتيجة الخوف والطمع.
خمسون سنة ومصير التونسي معلّق في قشة وقوته مرتهن بوشاية وسلامته الجسدية عرضة للانتهاك وآراؤه وأفكاره عرضة للمساءلة الأمنية، والانتظام خارج أطر الحزب الحاكم ورقابة البوليس مجلبة للعقاب، والسير في مسيرة سلمية، سواء كان موضوعها داخليا أو خارجيا، جريمة لا تغتفر، وبائع الجرائد لا يعرض الجريدة المعارضة مخافة أن يقطع رزقه، ولغة “المغضوب عليهم” تلاحق أصحاب الرأي المخالف ونشطاء الأحزاب والجمعيات غير القابلة بالتدجين، ثم يتحدّثون بعد ذلك بـ”إنجازات الاستقلال” ويعدّدون “أفضالهم” على الناس و”مزاياهم” على ضحاياهم.
خمسون سنة والنتيجة آفات بالجملة تنخر جسم المجتمع التونسي وتفتك بشبابه خاصة جراء التهميش والحرمان، والوقوع فريسة لثقافة الصعلكة والانحراف حيث بات السطو والنشل والخلع يتمّ تحت أنظار “الأمن” الذي يقف “عاجزا” إلا عن ملاحقة الأحرار ومراقبة حركاتهم وسكناتهم، وحيث امتدّ الإدمان إلى أوساط التلاميذ وصغار السن، وحيث عاد التسوّل ليذكّر بماضيه الحافل، وحيث ازدهرت الوشاية بعد أن أصبحت باب الرزق وضمانة الحفاظ على الشغل وتحقيق المكانة.
نصف قرن من الاستبداد والتنمية المعاقة أفضى إلى ذلك وإلى استشراء الفساد عبر نهب المال العام والاستيلاء على الملك العام والإثراء الفاحش والترف الوقح، والرشوة التي لا حول ولا قوة إلا بها في الصغيرة والكبيرة، ممّا ضاعف هشاشة البنية الاقتصادية وقلص حظوظ الاستثمار وخلق المشاريع المشغلة.
نصف قرن من المصادرة والمحاصرة وفتح الباب لثقافة الميوعة والكسل والسطحية بالتوازي مع ثقافة العرافة والخرافة وتعطيل الفكر والاجتهاد، ممّا سبّب تصحرا ثقافيا مريعا يعيشه المجتمع اليوم ويدفع ثمنه الشباب خاصة وهو يشجع على العزوف عن مصادرة التنوير والتحرير ويفقد المثل الأعلى الذي يعطي معنى لحياته ويحفزه على البذل والعطاء.
خمسون سنة من السلبية والأدوار المشينة إزاء قضايا الأمة العربية والصراع الذي يقابلها بالامبريالية والصهيونية اللتين وجدتا أخيرا في “العولمة” وفي “مكافحة الإرهاب” ما يخدم أهدافها، خصوصا بعد إذعان الأنظمة ومنها النظام التونسي، وعملها على دفن حلم الوحدة وعدم وقوفها الفعلي ضدّ احتلال فلسطين والعراق والضغوط المسلطة اليوم على سوريا ولبنان والسودان، بل ومشاركتها في التآمر على استقلال هذه البلدان واتجاهها نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني.
إنّ الشعب التونسي المخذول وهو يعاني من القمع والفاقة والتهجين بعد نصف قرن على “الاستقلال” لا يملك إلا أن ينهض لاسترداد حقوقه والثأر لشهدائه وكرامته وأن يجرؤ على رفض وضع القطيع الذي أرادوه له، وذلك بالالتفاف حول المشروع الذي تجسّده المعارضة الديمقراطية والوطنية في كفاحها من أجل تونس ناهضة وحرة وتقدمية، وكسر حاجز الخوف، ومضاهاة شعوب الأرض الحية شرقا وغربا.
إن الشعب التونسي لا يليق به اليوم أن يكون الاستثناء من بين الشعوب، فيسكت عن إهـدار المال العام والملك العام وتزييف الانتخابات وتعذيب الموقوفين ومنع التضامن مع الشعبين الفلسطيني والعراقي وسائر الشعوب الواقعة تحت نير الغزو أو المهددة به.
إنّ حزب العمال، وهو أحد فصائل هذه المعارضة الديمقراطية الوطنية، وحامل لواء التحرر السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي من التبعية والتخلف، يناضل في سبيل استقلال فعلي لتونس، وإعادة الاعتبار للذاكرة الوطنية ولقيم الحرية والكرامة والعدل والاجتهاد، والخلق والإبداع، ويعتبر طريق السكوت والاستقالة والتعالي، والخوف والطمع، والحسابات الصغيرة والقصيرة، طريقا مسدودة، ويعقد العزم، مع من يشاطره هذه الرؤية، على إقامة النظام الذي يرفع رأسه ورأس أبناء وبنات تونس وينهي نصف قرن من الاستغلال والإذلال والتبعية.
تسقط الدكتاتورية
عاش الشعب التونسي
عاشت الحركة الديمقراطية