تمرّ اليوم 69 سنة على “إعلان الاستقلال”. وقد جاء هذا الإعلان بعد 75 سنة من الاستعمار الفرنسيّ المباشر الذي تعرّضت فيها تونس لنهب ممنهج طال جميع خيراتها، كما تعرّض فيها شعبها لأبشع أنواع القهر والاستغلال ومحاولات التّجنيس وطمس الهويّة بهدف تحويل البلاد أرضا وشعبا إلى جزء من فرنسا. ولكنّ الشّعب التّونسيّ بمختلف طبقاته وفئاته، عدا قلّة قليلة من العملاء، قاوم وصمد وضحّى ونظّم شيئا فشيئا صفوفه وشكّل حركته الوطنيّة وفي النّهاية رفع السّلاح في وجه المستعمر. فما كان من هذا الأخير، وهو يتلقّى الضربات الموجعة في العديد من مناطق العالم وخاصّة في جنوب شرقيّ آسيا (هزيمة ديان بيان فو)، إلّا أن سارع بتقديم التّنازلات في أكثر من بلد ومنها تونس والمغرب في منطقتنا، خشية أن تتجذّر الحركات الوطنيّة ويفقد كلّ مصالحه. لقد مدّ المستعمر الفرنسي يده في تونس إلى الجناح الأكثر مهادنة في الحركة الوطنيّة، أي جناح بورقيبة، ليعقد معه اتّفاقيّة لئن تخلّى بموجبها عن الشّكل الاستعماريّ المباشر فإنّه حافظ بالمقابل على مصالحه الأساسيّة الاقتصاديّة والماليّة والسّياسيّة والثّقافيّة والجيو-استراتيجيّة عبر النّظام الجديد الذي ساعده على الانتصاب في تونس وعبر الفئات العميلة من البورجوازية الكبيرة المرتبطة به عضويّا. لقد استُبْدِل الاستعمار القديم باستعمار جديد لا في تونس فحسب بل في غالبيّة المستعمرات التّابعة لفرنسا وتمّ بموجب ذلك تعويض الأشكال المباشرة، المفضوحة، المستفزّة بأشكال أكثر خبثا ودهاء.
ومن البديهي أنّ الشعب التونسي كان ينتظر الكثير من هذا الاستقلال، استعادة سيادته على وطنه وثرواته لكي يقرّر مصيره بنفسه وينعم بحرّيته وينهض بوطنه ليحيا فيه حياة كريمة ويتخلّص نهائيّا من الجهل والفقر والبؤس والمرض والتخلّف. ولكن ما هي إلّا سنوات قليلة حتّى تبخّرت أحلام الشّعب التّونسيّ. لقد وجد هذا الأخير نفسه يرزح تحت استبداد جديد يقوم على حكم الفرد الواحد والحزب الواحد والرّأي الواحد، ويقمع حرّيّة التّعبير والتّنظيم والاحتجاج وينظّم المهازل الانتخابيّة التي تعيد إنتاج نفس النّظام الرّجعيّ والعميل. أمّا السّيادة على الثروات فقد انتقلت من المستعمر وإدارته إلى أقلّيّة محليّة متكوّنة من بيروقراطيّة دولة وكمبرادور مرتبطين عضويّا بالرّأسمال الأجنبيّ. لم تعد الهيمنة الأجنبيّة تقتصر كما كانت زمن الاستعمار المباشر على الامبرياليّ الفرنسيّ وحده بل اتّسعت لتصبح متعدّدة الأطراف أوروبيّة-أمريكيّة، دولا وشركات ومؤسّسات ماليّة، ومن البديهيّ أن تنجرّ عن هذه التّبعيّة الاقتصاديّة والماليّة تبعيّة سياسيّة ودبلوماسيّة للمعسكر الامبرياليّ الغربيّ. وبالمقابل فإنّ الفلّاحين لم يحصلوا على الأرض والعمّال والأجراء ظلّوا يتلقّون أجور بؤس. وحتّى الإصلاحات الجزئيّة التي قام بها النّظام في مجالات التّعليم والصحّة سرعان ما بانت حدودها. وبمرور الوقت نهض الشّعب التّونسيّ من جديد للنّضال. لقد كان لكلّ طبقة وفئة من الشّعب، من فلّاحين وعمّال وطلّاب وتلاميذ ومهمّشين جولة من المواجهة مع نظام بورقيبة الذي أغرق معظمها في الدّم (الإضراب العامّ جانفي 1978، انتفاضة الخبز 1984…) ممّا أدّى إلى استشهاد المئات واعتقال أعداد كبيرة من النّقابيّين والنّشطاء والمحتجّين.
ومن أزمة إلى أخرى تآكل نظام بورقيبة وأصبح مهدّدا بالانهيار وفي غياب حركة ثوريّة منظّمة وقادرة على أخذ زمام الأمور بيدها سارع شقّ من النّظام بقيادة الجنرال بن علي بإزاحة بورقيبة المريض والعاجز عن الحكم. لقد قام بن علي بانقلاب “طبّي” وزيّنه بشعارات ديمقراطيّة ولكنّه ما أن أعاد تنظيم أجهزة الدّولة القمعيّة حتى كشّر عن أنيابه فأضحت تونس ترزح من جديد تحت نير دكتاتوريّة بوليسيّة رهيبة امتدّت عصاها إلى كلّ القوى السّياسيّة والمدنيّة على اختلاف نزعاتها الفكريّة والسّياسيّة كما أنّها طالت النّقابات وكلّ الحركات الاحتجاجيّة والمثقفين والمبدعين والإعلاميّين والحقوقيّين والمواطنين العاديّين. لقد تحوّلت الدّولة مع بن علي إلى “دولة عائليّة” فاسدة تحكمها مصالح حفنة من العائلات المقرّبة منه كما تحكمها مصالح القوى الأجنبيّة الفرنسيّة والأوروبيّة خاصّة التي تغلغلت أكثر في تونس عبر خصخصة عدد من القطاعات الاستراتيجيّة وعقد اتّفاقيّات غير متكافئة (اتّفاقيّة الشّراكة مع الاتّحاد الأوروبيّ…) وإغراق البلاد بالقروض التّقييديّة ناهيك أنّ مديونيّة تونس العامّة تضاعفت في عهد بن علي حوالي سبع مرات (35 مليار دينار) مقارنة بعهد بورقيبة (5.5 مليار دينار). لقد كان “نصيب” الشّعب التّونسيّ من 23 سنة من حكم بن علي القمع الممنهج والاستغلال الفاحش والتّفقير وتفاقم الفوارق بين الطّبقات والجهات. وقد أدّى كلّ ذلك إلى تحرّكات جماهيرية عدّة وإلى انتفاضات هامّة ذات طابع جهوي أهمّها وأشهرها انتفاضة الحوض المنجميّ (2008) التي كانت بمثابة الاختبار (البروفة) الذي هيّأ إلى ثورة 2010-2011 التي أسقطت الدكتاتوريّة وكانت المسألة الوطنيّة واحدة من ثلاث قضايا حاضرة بقوة في الشّعار المركزيّ لهذه الثّورة: “شغل، حرّية، كرامة وطنيّة”.
لقد عوّل الشعب التّونسيّ بمختلف طبقاته وفئاته كثيرا على هذه الثّورة كي تضع حدّا لشقائه السّياسي وبؤسه الاجتماعيّ. ولكن جرت رياح الثّورة المضادّة بما لم تشتهيه سفينة الثّورة. لقد تمكّنت القوى الرّجعيّة المدعومة من الخارج من الالتفاف على الثّورة التي كانت تفتقد إلى شرط النّجاح الأساسيّ والحاسم وهو القيادة الثّوريّة المركزيّة المسلّحة ببرنامج والتي تحظى بدعم الشّعب، وحصرها في مجرّد تغيير شكل الحكم من دكتاتوريّ إلى ديمقراطيّ ليبراليّ دون تغيير لطبيعة الدّولة الطبقيّة التي ظلّت في خدمة نفس المصالح المحليّة والأجنبيّة كما كان الأمر في عهد بن علي. لقد واصلت الحكومات المتعاقبة بعد الثّورة بمختلف تركيباتها (حركة النّهضة، نداء تونس، تحيا تونس الخ…) في تكريس نفس السّياسات الاقتصاديّة التي ثار ضدّها الشّعب التّونسيّ ومن بينها سياسة التّعويل على الاقتراض الخارجيّ وتوريد المواد الأساسيّة من الأسواق الأجنبيّة وإهمال القطاعات المنتجة التّونسيّة. وفي نفس الوقت حافظت هذه الحكومات على الاتّفاقيات غير المتكافئة مع الدول الاستعماريّة ومنها اتّفاقيّة الشّراكة مع الاتّحاد الأوروبيّ وكادت تجرّ تونس إلى اتّفاقيّة أخطر (الأليكا) مع هذا الاتّحاد الاحتكاري. وقد أدّى كل ذلك إلى مزيد إغراق البلاد في التّبعيّة الماليّة والتّجاريّة والتكنولوجيّة ناهيك أنّ المديونيّة العامّة للدّولة بلغت ما بين 2010 و2021 أكثر من الضّعف مقارنة بعهد بن علي (حوالي 89 مليار دينار معظمها دين خارجيّ). كما أدّى إلى تعميق البطالة والفقر والبؤس في صفوف الشّعب علاوة على انتشار الفساد والمحسوبيّة. وكان من نتائج ذلك أن تفاقمت مظاهر التّبعية في المجالات السياسيّة/الدبلوماسيّة والأمنيّة والعسكريّة فالتحقت تونس في عهد الباجي قايد السّبسي بالحلف الأطلسي “حليفا رئيسيّا من خارج الحلف” كما أصبحت الاصطفافات الإقليميّة تنخر نظام الحكم من الدّاخل فالبعض (النداء) يصطف وراء الإمارات والسعوديّة والبعض الآخر (حركة النهّضة) وراء قطر وتركيا الخ… وقد فسح تعفّن الأوضاع في كافة المجالات لصعود الشعبوي قيس سعيّد في انتخابات 2019. وقد وجدت فيه الرّجعيّة المحليّة والأجنبيّة ضالّتها للالتفاف نهائيّا على الثّورة التّونسيّة وإعادة البلاد إلى مربّع الدكتاتوريّة خوفا من انفجار سياسيّ واجتماعيّ جديد يعصف بمصالح التّحالف الطّبقيّ الرّجعيّ.
لقد انقلب قيس سعيّد على شركائه في الحكم في 25 جويلية 2021 وانفرد بالسّلطة وألغى مكتسبات الثّورة الدّيمقراطيّة ووضع دستورا كتبه بنفسه ولنفسه يمكّنه من احتكار كلّ السّلطات وركّز، عبر مهازل انتخابيّة، مؤسّسات تمثيليّة صوريّة وفكّك القضاء وطوّعه لأوامره ولجّم الإعلام ووضع معارضيه ومنتقديه في السّجون وزرع الخوف في المجتمع. وقد اعتمد سعيّد خطابا شعبويّا لمغالطة الطّبقات والفئات الكادحة والشّعبيّة والتّظاهر بأنّه جاء لخدمتها ولوضع حدّ للفساد والفقر والبطالة. ومن بين الشّعارات التي رفعها “الدّفاع عن السّيادة الوطنيّة” و”التّعويل على الذّات”. ولكن بعد حوالي خمس سنوات ونصف من الحكم من بينها حوالي أربع سنوات حكم فيها بمفرده بات من الواضح أنّ البلاد تغرق أكثر فأكثر في أزمة اقتصاديّة وماليّة واجتماعيّة مدمّرة يرافقها عدم استقرار سياسي دائم (4 رؤساء حكومات في 3 سنوات ونصف). إنّ نسبة النّموّ ظلّت تدور حول صفر فاصل ومنظومات الإنتاج مفكّكة والادّخار كما الاستثمار يتراجع وقيمة الدّينار تنزل مقابل العملات الأجنبيّة والتّضخم، خاصة في المواد الغذائية الأساسية، لا يطاق والعديد من الموادّ الضروريّة تفقد في السّوق. أمّا المديونيّة فهي لا تتوقّف عن الارتفاع. لقد أصبح نشاط برلمان الدمى منذ قيامه يغلب عليه التّصديق على القروض. لقد بلغت نسبة التداين (الداخليّ والخارجيّ) مثلا من إجماليّ حجم ميزانيّة الدّولة ما بين 2023 و2025 حوالي 36 بالمائة وهي نسبة غير مسبوقة. أمّا حجم المديونية ما بين قروض خارجية وداخلية فمن المنتظر أن يبلغ نهاية هذا العام ما بين 140 و145 مليار دينار مقابل 89 مليار دينار قبل انقلاب 2021 كما سبق أن ذكرنا. وبالإضافة إلى ذلك فإن سعيّد الذي ظلّ كأسلافه مصطفّا وراء الامبرياليّة الأمريكيّة والأوروبيّة لم يراجع أيّا من الاتّفاقيّات التّجاريّة غير المتكافئة مع هذه الدول الاستعماريّة ولا غيرها من الاتّفاقيات الأخرى الأمنّية والعسكريّة المعلومة (اتفاقيّة الحليف الرئيسي من خارج الحلف الأطلسي) وغير المعلومة التي تنتهك سيادة تونس بل إنّه زاد على تلك الاتّفاقيّات أخرى مُهينة لبلادنا وشعبنا كتلك الاتّفاقيّة التي عقدها مع الاتّحاد الأوروبيّ لتحويل تونس إلى حارس ذليل لحدود إيطاليا وأوروبا عامة مقابل حفنة من اليوروات. ورغم خطاب سعيّد الرنّان حول القضيّة الفلسطينيّة فإنه لم يتورّع عن إيقاف التّصويت في برلمان الدّمى على قانون يجرّم التّطبيع مع الكيان الصّهيونيّ. وهو ما يبيّن الطّابع الزائف لشعار “السّيادة الوطنيّة” و”التّعويل على الذّات” و”تحرير فلسطين من النّهر إلى البحر”. وبطبيعة الحال فإنّ الشّعب التّونسيّ هو الذي ظلّ يدفع فاتورة سياسات قيس سعيّد في كافّة المجالات مهانةً قوميّة وبطالةً وفقرا وبؤسا وتدهورا للخدمات العامة (تعليم، صحة، سكن، ثقافة، بيئة…) وتفاقما لهجرة الكفاءات والهجرة غير النظاميّة وانتشارا للجريمة وتدميرا لقيم التّضامن والتّآزر داخل المجتمع الخ… وقد ساهم كلّ ذلك في مزيد إضعاف تونس داخليّا مع انتشار نزعات الكراهيّة والجهويّات والتفكّك المجتمعيّ وغير ذلك من الظواهر السّلبيّة ودوليّا مع السّير دون أيّة رؤية لتحوّلات الأوضاع الإقليميّة والدوليّة وهو ما حوّل بلادنا إلى موضوع “حفل شواء” إقليميّ ودوليّ تتقاذفها الرّياح في عالم مضطرب ومليء بالمخاطر خاصة مع موجة الفاشيّة الجديدة التي تضرب في أعتى الدّول الامبرياليّة وفي مقدّمتها الولايات المتّحدة الأمريكيّة.
هذا هو وضع بلادنا ومجتمعنا في هذه الذكرى 69 لإعلان الاستقلال وهو وضع يصحّ عليه ما قاله ابن أبي الضّياف في حديثه عن حال تونس قبل أن يغزوها الاستعمار حين وصفها بأنّها “فقيرة حسّا ومعنى”. فالشّعب التّونسيّ لم يحقّق آماله إلى اليوم في التّحرّر الوطنيّ الفعليّ والتامّ والانعتاق السّياسي والاجتماعيّ. لقد ظلّت البلاد تحت الهيمنة الأجنبيّة عبر منظومات حكم رجعيّة ليس لها من دور سوى ضمان مصالح الرأسمال الأجنبيّ وعملائه المحلّيّين وهو ما عطّل نموّ قواها المنتجة في مختلف المجالات وحال دون نهضتها وأبقاها رهينة للخارج الرّأسمالي الامبرياليّ في ماليّتها وغذائها وموادّها المصنّعة وتكنولوجيّتها وغيرها. ولم تكن ثمة من وسيلة أمام هذا التّحالف الطّبقيّ الرّجعيّ الكمبرادوريّ الاستعماريّ لحكم الشّعب وفرض خياراته عليه غير الاستبداد والدكتاتوريّة وهو ما نعيشه اليوم في أبشع صوره الكاريكاتوريّة الشّعبويّة مع قيس سعيّد. إنّ حل المسألة الوطنيّة والتّحرّر من الهيمنة الاستعماريّة الجديدة والتخلّص من قاعدتها الطبقيّة المحلّيّة ومن جهاز دولتها الرّجعيّ الذي تتحكّم به في رقاب النّاس وتأميم ثروات البلاد وتحويلها إلى ملك للشّعب ليستثمرها لتلبية حاجاته الماديّة والمعنويّة يمثّل الشّرط الأوّل لنهوض تونس. وهذه المهمّة لا يمكن اليوم أن ينجزها إلّا الشّعب بعمّاله وكادحيه وفقرائه ومثقّفيه ومبدعيه ونسائه وشبابه في إطار جمهوريّة ديمقراطيّة تكرّس سيادة الشّعب على الدّولة بصورة فعليّة وتضمن لبنات البلد وأبنائه الحرّيّة والمساواة ومقوّمات العيش الكريم كما تضمن لتونس مكانة دوليّة تمكّنها من الوقوف إلى جانب القضايا العادلة وفي مقدّمتها القضيّة الفلسطينيّة. إنّ التحرّر الوطنيّ والدّيمقراطيّة والعدالة الاجتماعيّة حلقات ثلاث مترابطة لا تنفصل الواحدة منها عن الأخرى لتمثّل جوهر الثّورة الوطنيّة الدّيمقراطيّة الشّعبيّة التي ما تزال المهمّة الرّئيسيّة المطروحة على الشّعب والقوى الثّوريّة إنجازها في هذه المرحلة على أنقاض نظام الاستبداد والعمالة والاستغلال والفساد.
