بقلم علي البعزاوي
ميزتان أساسيتان تطبعان الوضع المحلي في ظل الحكم الشعبوي اليميني المحافظ حاليا:
الأولى تتمثل في استفحال الأزمة الاقتصادية والاجتماعية وعجز السلطة القائمة عن إيجاد الحلول الضرورية الدنيا بالنظر لسياسات التقشف المتبعة وتقلص الموارد الموجهة للاستثمار وشحّ التمويلات المتوفرة خاصة بعد فشل المفاوضات مع صندوق النقد الدولي رغم المواصلة في تنفيذ إملاءاته.
الثانية تتمثل في الركود الذي يخيّم على المشهد السياسي الوطني وتراجع الحركية المعهودة للأحزاب والمنظمات والجمعيات والنشطاء رغم عودة الإضرابات والاحتجاجات التي ما فتئت رقعتها تتوسع بعد فترة من الاستقالة وتراجع المعنويات.
لكن رغم هذا الاستقرار الظاهري تعتمل في الداخل عوامل الصراع والإعداد والاستعداد للتصعيد وهو ما تؤشر عليه النبرة الحادة في توجيه النقود لرأس السلطة وللحكومة ولمجلس النواب وعموم المسؤولين إزاء تردي الأوضاع الاجتماعية والمواصلة في استهداف حرية الرأي والتعبير والنشطاء من سياسيين ونقابيين وصحافيين وتنظيم المحاكمات الصورية والإبقاء على العديد منهم رهن الاعتقال لمدد فاقت ما هو معمول به في الظروف العادية.
إن تذمّر الفئات الشعبية من شباب ونساء ومعطلين ومهمّشين وفلاحين صغار وفقراء وأصحاب مشاريع صغرى ومتوسطة وشغيلة والشكوك التي باتت تساورهم إزاء قدرة السلطة القائمة على إيجاد الحلول، يرافقها غموض إزاء البديل القادر على تصحيح المسار والاستجابة لانتظاراتهم.
المشهد الحزبي كما هو
إنّ الكتل السياسية الأكبر بدءا بالنظام الشعبوي القائم وانتهاء بجبهة الخلاص التي تخطط للعودة إلى السلطة مستغلة الأزمة المستفحلة مرورا بالحزب الدستوري الحر وباقي المجموعات الدستورية التجمعية وقعت تجربتها في الحكم ولم تخرج عن الخيارات والسياسات القديمة اللاشعبية واللاوطنية ولم تعمل على تجديد برامجها ومقارباتها التي بقيت رهينة إملاءات الدول الاستعمارية ومؤسساتها النهابة وتعوّل دائما على سياسة الاقتراض والتداين وخدمة الأقلية الأكثر ثراء، الأمر الذي ساهم إلى جانب الفساد وغياب الشفافية وسوء الحوكمة في دهورة الاقتصاد المحلي ومزيد ربطه بالاقتصاد الرأسمالي العالمي وتحمل تداعيات أزماته الدورية. هذه الكتل باتت غير مقبولة شعبيا وغير مطمئنة لأنها لا تملك الحلول القادرة على تخطي الأزمة العميقة والمركبّة التي تعيشها البلاد. وهذا ما يفسّر حالة الحيرة والانتظارية والعزوف عن المشاركة في الانتخابات الأخيرة.
أمّا باقي الأحزاب الليبرالية والإصلاحية فهي ضعيفة وعادة ما تهبّ لنجدة الأحزاب الكبرى بالمشاركة في حكوماتها والمساهمة في تكريس خياراتها اللاشعبية واللاوطنية. لذا بقيت أحزاب معاضدة ودعم ولم تسع بدورها إلى شقّ طرق مستقلة.
أمّا أحزاب اليسار على اختلاف مشاربها الفكرية والسياسية من ماركسيين وماويين وقوميين واشتراكيين ديمقراطيين وغيرهم والتي شكلت الجبهة الشعبية واستقطبت آلاف المواطنين من الشباب والنساء والمثقفين والنقابيين والنشطاء وحققت مكاسب هامة بوّأتها المرتبة الثالثة كقوة سياسية صاعدة قادرة على حكم البلاد قبل أن تسقط ويصيبها التشتت لأسباب متعددة، فيها ما هو ذاتي يتعلق بالخلافات السياسية وعدم بلورة مشروع حكم وخطة واضحة وملموسة للوصول إلى السلطة وفيها أيضا ما هو خارجي يتعلق بالمؤامرات التي استهدفتها من قبل أحزاب الحكم لضرب وحدتها وشلّ طموحاتها كقوة جديدة وبثّ البلبلة داخلها. هذه الأحزاب توسّعت انقساماتها (تقسيم المقسم) وتعمقت خلافاتها إثر انقلاب 25 جويلية بعد أن اتخذت مواقف متباينة إزاء ما حصل حيث انبرى جزء منها إلى الاصطفاف وراء الشعبوية والمراهنة عليها للقضاء على الإسلام السياسي ثم تحول هذا الاصطفاف في ما بعد إلى مساندة نقدية بعد افتضاح أمر الشعبوية وعدم قدرتها على بلورة بديل إنقاذ حقيقي وعدم استيعابها لهذه المجموعات التي راهنت عليها ووضعت كل البيض في سلتها. أمّا الجزء المتبقي فتراوحت مواقفه بين من اعتبر ما حصل يوم 25 جويلية انقلابا يهدف إلى إنقاذ المنظومة الرجعية المهترئة وجبت مقاومته وتجاوزه وبين من اكتفى باعتباره خيارا فاشلا لأنه واصل في نفس الخيارات القديمة ولا يختلف عن منظومات الحكم السابقة.
القوى اليسارية باتت إذا في موقع لا تحسد عليه فهي واقعيا مشتتة وطفت خلافاتها على السطح، بل أكثر من هذا دخلت في صراعات وانتقادات وحملات تشكيك متبادلة يصعب تجاوزها. والسؤال الذي يفرض نفسه حاليا: هل سقط اليسار التونسي نهائيا وبلا رجعة وهل باتت الفرقة بين مكوناته أمرا مقضيّا وهل بإمكانه لعب دور في المستقبل القريب للمساهمة في التخلص من الأزمة والاستجابة لانتظارات الأغلبية الشعبية؟
ظروف موضوعية مناسبة
إنّ فشل المنظومات الرجعية التقليدية باتت حقيقة ملموسة لا يمكن إنكارها. فالتجمع والدساترة والشعبوية اليمينية الحاكمة حاليا وحركة النهضة ومشتقاتها لا تملك حلولا لإنقاذ الشعب والبلاد من الأزمة المركّبة التي تفتك بها حاليا. فهذه الأحزاب رغم اختلافاتها الفكرية وصراعاتها المستعصية على الحل مرتبطة سياسيا بالقوى الاستعمارية والإقليمية التقليدية ووفية للخيارات الاقتصادية التابعة التي كانت سببا في اندلاع ثورة الحرية والكرامة. وهي خيارات لا يمكن أن تنتج الحلول المنتظرة والاستحقاقات التي عبّرت عنها الجماهير المنتفضة وحوصلتها في شعار “شغل حرية كرامة وطنية”.
الشعب التونسي بحاجة إلى الحرية والديمقراطية حتى يعبّر عن أفكاره ويساهم في تقديم الحلول وتنظيم الاحتجاجات السلمية لفرض تحقيق مطالبه المباشرة والبعيدة. وهو بحاجة إلى الشغل اللائق والعيش الكريم الذي يعيد له إنسانيته ومواطنته المفقودة. وهو بحاجة أيضا إلى الخدمات الاجتماعية الراقية التربوية والصحية والبيئية حتى لا تصبح هناك خدمات راقية للأغنياء وأخرى من درجة ثانية للفقراء. وهو بحاجة إلى العدالة بين الفئات والجهات ولو في الحدود الدنيا حتى لا تبقى هناك جهات منسية مقابل أخرى محظوظة ومتميزة تنعم بمختلف المرافق والخدمات.
إنّ تدفق الأطباء والمهندسين والشباب والنساء بأعداد كبيرة إلى دول أوروبا وكندا سواء بطرق قانونية أو عبر الحرقة يؤكد فقدان الأمل وغياب أيّ رهان على هذه القوى الرجعية التي هيمنت وتهيمن على مشهد الحكم.
إنّ الاستحقاقات والمطالب المنتظرة والتي ظلت عصيّة على التحقيق في ظل حكم القوى الرجعية التي سبق وأن تربّعت على عرش الحكم بحاجة إلى قوى جديدة قادرة على تكريسها على أرض الواقع. هذه القوى لا بدّ أن تكون من طينة مختلفة عن القوى القديمة وقادرة على خدمة مصالح الأغلبية المضطهدة من خلال برامج وسياسات جديدة مختلفة عن السابقة ومتنصلة من الإملاءات وغير خاضعة للأجندات الخارجية مثلما حصل ويحصل طيلة عقود من الزمن. فمن هي القوى السياسية المبوّأة نظريا لتحمل هذه المسؤولية التاريخية ؟
القوى الثورية والديمقراطية والتقدمية والاستحقاقات الجديدة
إنّ ما حصل من خلافات وتناقضات وصراعات داخل مكونات الجبهة الشعبية يؤكد أنّ جزء من القوى اليسارية لم يعد صالحا لقيادة وتحمل مسؤولية التغيير لأنه اختار أن يتخندق إلى جانب القوى الخادمة لمصالح الفئات الكمبرادورية ومشغليها من القوى الاستعمارية وتنكّر في نفس الوقت لخدمة مصالح الأغلبية الشعبية المضطهدة التي يفترض أنه ملتزم تجاهها ويعبّر عنها طبقيا. هذا الجزء من اليسار أصبح المساعد الأيسر لليمين وجزء منه ولم يعد معنيا بأيّ تجربة عمل مشتركة في المستقبل لأنه سوف يكون صوت اليمين داخل هذه التجربة الجديدة وسيعمل مرة أخرى على تقويضها.
لكن خروج هذه الفئة من دائرة القوى اليسارية وسقوطها سياسيا لا يعني نهاية اليسار لأن ما حصل هو عملية تصحيح سياسي للقوى اليسارية التي تخلصت من بعض العناصر الدخيلة التي أعاقت تطورها الطبيعي وانطلاقتها نحو التأسيس لمستقبل مشرق للشعب التونسي. لقد سقطت الجبهة الشعبية بمواصفاتها القديمة كتجربة ولم يسقط العمل اليساري المشترك الذي سيتجه بعد هذا الشوط نحو مزيد التجذّر والتطور نحو الأفضل وسيشهد انطلاقة جديدة باعتبار أنّ الصراع الجاري أفرز ويفرز خط الفصل بين القوى التي تخلّت عن مبادئ ومقولات اليسار وسقطت وانتهت، والقوى الأكثر التزاما بهذه المبادئ والتي تمسّكت بالشعارات التقليدية التي لازمته طيلة عقود ونعني الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والسيادة الوطنية والتعويل على العمال والفلاحين والشباب والنساء والمثقفين والمبدعين لصنع المستقبل إلى جانب الانتصار الدائم لحق الشعوب في تقرير مصيرها الخ… وأيضا القوى الأكثر وفاء لانتظارات هذه الفئات التي عبّرت عنها خلال ثورة الحرية والكرامة.
إنّ هذه القوى اليسارية التي أفرزتها التجربة، مستفيدة من دروسها (التجربة) ومستخلصة العبرة ممّا حصل، مطالَبة بخوض نقاشات جدية لتشخيص الواقع الجديد المتسم بشمولية وعمق الأزمة وتحديد أسبابها الحقيقية (الأزمة) وسبل تجاوزها، ثم بلورة الخطوط الأساسية للبرنامج الأدنى البديل الممكن وضبط خطة ملموسة وواقعية لتحقيقه وتحديد الفئات الاجتماعية المعنية بعملية التغيير والقوى السياسية والأهلية والفعاليات التي بالإمكان التقاطع معها على طريق إنجاز هذا المشروع البديل.
إنّ عودة العمل المشترك بين القوى اليسارية أحزابا ومنظمات وأفرادا وفعاليات هو استحقاق تفرضه الأزمة وحالة التعطل والتخبط والعجز التي تعيشها المنظومة الحاكمة حاليا، إلى جانب حالة الركود والانتظارية التي تحكم المشهد السياسي الواجب تجاوزها وإعادة الديناميكية المطلوبة للأحزاب والمنظمات والفعاليات حتى تلعب الدور المنوط بعهدتها وإعادة الربط مع العناصر التي لا تتحمس للانخراط في الأحزاب لكنها تلتحق وتلتزم كلما تعلق الأمر بعمل مشترك واسع. لا بدّ من ضبط مقاربة جديدة ورسم معالم منظومة بديلة قبل استفحال الأزمة وفوات الأوان. وهو أيضا عمل ضروري لسد الباب أمام الحلول اليائسة والمغشوشة التي يمكن أن يقبل بها الشعب التونسي مكرها عملا بشعار “أخف الأضرار”.
لقد حان الوقت لكي تطرح التنظيمات الثورية والتقدمية والشخصيات الأكثر وعيا بخطورة الوضع والأكثر استعدادا في المرحلة الحالية، مبادرة سياسية لجمع شمل القوى والبدء في نقاشات تشاورية ورسم معالم التأسيس لتجربة جديدة موفقة. أمّا البقاء على الربوة وملازمة الانتظارية والتردد فمن شأن ذلك أن يضيع الوقت ويصعّب المهام ويكرّس فكرة السقوط النهائي للقوى اليسارية لعدم قدرتها على النهوض من جديد من أجل بناء تجارب عمل مشتركة ناجحة.