بقلم مي الأحمدي
أوضح ماركس في “الإيديولوجيا الألمانية” أنّ الأفكار المهيمنة في كل عصر هي أفكار الطبقة أو الطبقات المهيمنة. وتعتبر المدرسة من أهم المؤسسات الناقلة والملقنة لهذه الأفكار. لذلك سعى الائتلاف الطبقي الحاكم منذ اعتلائه سدّة الحكم في بلادنا إلى إحكام قبضته على المؤسسة التعليمية وجعلها في خدمة مختلف سياساته التي تجد تعبيرا لها في برامج التعليم وفي مختلف “الإصلاحات” التي عرفها القطاع خلال العقود السبعة الماضية. حتى أننا نكاد نجزم أن ما شهده الحرم الجامعي خلال شهر فيفري المنقضي ليعبّر أحسن تعبير على ما آلت إليه منظومة التعليم العالي في بلادنا:
وفاة طالبتين بسيدي بوزيد
وفاة طالب برقادة/ القيروان
وفاة تلامذة وطلبة بأم العرايس/ قفصة
وكأن هذه المآسي لا تكفي، فإننا سجلنا بصفة موازية لها عودة البوليس إلى الحرم الجامعي بقوّة، حيث حدثت مداهمات بوليسية بالمعهد العالي للعلوم والتقنيات بسيدي بوزيد، وبالمبيت الجامعي منزل عبد الرحمن، واعتداء بالعنف من قبل البوليس على طلبة بتوزر.
هذا فاصل اشهاري فقط على مستوى هذه الفئة المصنفة نخبة البلاد والأقرب نظريا لفؤاد الحاكم، بما أنها شكلت في فترات مختلفة خزانه المفضل.
طبعاً إنهم حرصوا دوما على جعل التعليم في خدمة مصالحهم ونسمع اليوم الخطب حول إصلاح منظومة التعليم العالي علّها تخفض من حرارة هذا الشباب وتكون حقنة تسدّ عنه حالة الغضب، أفيون له منابر يباع فيها الطالب جهرا، أمام الميكروفونات وبأقوال وصاية مأثورة: “الطلبة راهم أولادي”. هل يعقل تهميشهم؟ إنه ظرف اقتصادي صعب فحسب، ورغم ذلك خصصنا لكم من ميزانية الدّولة القسط الأكبر. وتأتي الأحداث ويأتي معها تضارب الأقوال بين وزير التعليم العالي الذي يُصرّح بكون القسط الأكبر للخدمات الجامعية، ومديري دواوين هذه الخدمات الذين يصرّحون بأن لا ميزانيّة لهم.
إننا إذ نحاول اليوم تفكيك واقع التعليم العالي سنجد أنفسنا أمام إعادة إنتاج اجتماعي ممنهج، حيث لا يُصاغ الطالب بوصفه مشروعًا فكريًا، بل بوصفه أداة داخل شبكة الإنتاج، مجرد ترس في آلة الرأسمالية. إنّ بلوغ تحويل الإنسان من إنسان إلى رقم مبرمج مسحوب نحو مصالح لا أحقية له بالتمتع بها، هو جزء من عملية تاريخية، حيث تلعب المدرسة والجامعة دورًا رئيسيًا في إعادة إنتاج العلاقات الطبقية عبر ضبط الوعي ليكون مطيعًا وخاضعًا لا ناقدًا وثوريًا. “إن الطبقات الحاكمة، من خلال السيطرة على وسائل الإنتاج، تسيطر أيضًا على وسائل إنتاج الأفكار”. — كارل ماركس، الأيديولوجيا الألمانية
كيف يُعاد إنتاج الاستلاب الجامعي؟
تُعدّ النواة الأولى، العائلة، أول مصنع للخضوع، وأنّ أول تجربة اجتماعية للطالب ليست الجامعة، بل العائلة، وهي المؤسسة الأولى التي تغرس فيه قيم الطاعة والخضوع لسلطة الأب، والتي تتحول لاحقًا إلى الطاعة لسلطة الدولة والرأسمال. فإن إنتاج الفرد ليكون متكيفًا مع منظومة العمل يبدأ منذ الطفولة، حين يُرسَّخ فيه أن النجاح مرتبط بالامتثال للقواعد لا بالتساؤل عنها. وصولا للبيئة الثانية أي المجتمع بما فيه جهازه الإعلامي المكرّس للتوجيه الإيديولوجي.
فالإعلام لا يعكس الواقع، بل يعيد تشكيله وفق منظور السلطة، وهو جزء أساسي في إعادة إنتاج الهيمنة. من خلال التكرار المستمر لنماذج النجاح الرأسمالية، يصبح الفرد مقتنعًا أنّ مستقبله مرتبط بإدماج نفسه في سوق العمل، لا بتغييره، فيوّجه الإعلام نحو ترسيخ ما يقال مباشرة بمصطلحات مشفرة ترسّخ، كطريق للفوز في هذه المسابقة الحياتيّة، أنّ الخلاص فرديّ، وأنّ سوداوية الواقع ستلد ضرورة بطلا خارقا، فكن أنت هذا البطل، انشغل بذاتك وجهزّ نفسك لرضاء الدّولة عليك، لا تكن ممّن قالوا لا، فالمجد لمن طبّعوا مع الوضع مدافعين عن استمراريته، هذا النّظام يعلّمك الخطو خطى صلبة تنكسر قدماك إن حاولت التغيير، عليك الثبات وما سيعزّزك ثباتك هو تعليمنا إيّاك.
التعليم: آلية صنع العقل التلقيني
كما يقول لويس ألتوسير في الأجهزة الإيديولوجية للدولة، فإن المدرسة هي “جهاز إيديولوجي للدولة”، دورها ليس فقط نقل المعرفة، بل ضبط الوعي ليكون متكيفًا مع متطلبات البنية الاجتماعية.
إنّ مناهج التعليم ليست محايدة، بل تخدم نمط الإنتاج القائم، فتلقّن الطالب المهارات التي تجعله “مؤهلاً لسوق العمل”، لا ليكون مفكرًا ناقدًا.
وهذا ما نعايشه اليوم من خلال التضخم التعليمي الذي لا يُنتج فكرًا، بل يُعيد إنتاجه بشكل جامد، ولا يفتح مجال التفكير، بل يخلق عقلًا مدجّنًا، يرسّخ التلقي لا النقد، يخيط حبل أفكارك بسلك غير مرئي، جامد، غير قابل للتمديد. يُصنع الطالب ليكون مجرد خزان معلومات مغبّرة، مشفّرة برسائل تجترّ وتلد أفعالًا نمطية. ما عبّر عنه باولو فريري في كتابه تعليم المقهورين “التعليم البنكي هو الذي يضع الطالب في موقع المتلقي السلبي، حيث يملأه المعلم بالمعلومات كما يُملأ البنك بالنقود”.
إنّ المعرفة في هذا النظام ليست تحريرًا للعقل، بل إعادة إنتاج الخضوع، حيث يصبح الطالب مجرد مستهلك للمعرفة لا منتجًا لها. إنّ الهدف ليس أن يفكر، بل أن يعرف كيف يعمل، لا أن يُسائل النظام، بل أن ينخرط فيه دون مقاومة.
إذن كيف نهدم هذا القالب النمطي للطالب؟ يقول برتولد بريخت: “العقل ليس وعاءً يُملأ، بل نارٌ يجب إشعالها.” وذلك لن يكون إلا بــ:
زرع الوعي النقدي لا الاستهلاكي
يجب على الطالب أن يدرك أنّ المعرفة ليست محايدة، بل هي جزء من الصراع الطبقي، وأنّ الجامعة يجب أن تتحول من فضاء تلقين إلى فضاء تفكيك، حيث لا تُقبل “الحقائق” كما تُعطى، بل يتمّ تحليلها وسؤالها. كما قال ماركس في نقده لفويرباخ: “الفلاسفة اكتفوا بتفسير العالم، لكن الأهم هو تغييره”. يتوجّب علينا في هذا الإطار قواعد وقيادة للاتحاد العام لطلبة تونس تعرية حقيقة النظام وتوعية الطلبة بخطورة الأدلجة المسقطة عليهم والتحريض ضدّ هذا النظام وكل نظام يخدم مصالح أفراد، لا الشعب.
في المقابل يتوجّب على الطلبة ضرورة البحث والسعي والمضيّ قُدما دون تردد ملتفين حول نقابتهم، الاتحاد العام لطلبة تونس، أن يجعلوا لأنفسهم بوصلة سياسية متيقنين أن الخلاص الجماعيّ هو حتميّتنا.
نحو تعليم خارج الجدران
بناء الفكر خارج المنظومة الرسمية كما أكد غرامشي في “دفاتر السجن”، فإن الهيمنة الثقافية أخطر من القمع المباشر، لأنها تخلق خضوعًا طوعيًا. فيكمن الحل هنا في بناء فضاءات موازية للنقاش، حيث يتمّ تجاوز حدود التعليم الرسمي إلى التعليم النقدي والمستقل. إذ لا يمكن للطالب أن يكون حرًا داخل أسوار الجامعة إذا لم يدرك أن هذه الجدران نفسها جزء من منظومة القمع الرمزي.
في المقابل أيضا يتوجب خلق إعلام بديل ليتمّ تفكيك الإعلام المؤدلج: كسر احتكار المعرفة “حرية الصحافة في ظل الرأسمالية تعني حرية الأغنياء في امتلاك الصحافة.” — فلاديمير لينين. إذ أنّ وسائل الإعلام الحديثة، حتى في عصر الإنترنت، لا تزال خاضعة لنفس القوى المهيمنة، حيث يتمّ إنتاج المحتوى بما يخدم مصالح رأس المال. لا بدّ من استبدال استهلاك المعلومات العشوائي بوعي نقدي يميز بين الإعلام كأداة للتوجيه والإعلام كأداة للتحرر. مما سيؤدي إلي تغيير شكل المعرفة لا فقط مضمونها “المعرفة الحقيقية ليست مجرد تلقي، بل إعادة إنتاج نقدية.” — كارل ماركس
وكما عبّر باولو فريري، لا يجب أن يكون التعليم “بنكًا للمعلومات”، بل عملية حوار يكون فيها الطالب مشاركًا في إنتاج المعرفة لا مجرد مستهلك لها.
فالمطلوب إذن ليس فقط تغيير المناهج، بل تغيير شكل العلاقة بين المعرفة والطالب، بحيث يصبح جزءًا من عملية إنتاج الوعي، لا مجرد متلقٍّ له. بكون الوعي ضرورة لا رفاهة. فلا يكفي أن تفكر، عليك أن تتحرك.” — روزا لوكسمبورغ، إذ أنّ الوعي ليس رفاهية فكرية، بل ضرورة وجودية.
كل طالب غير واعٍ هو وقود للمنظومة لا عائق أمامها، وكل طالب ناقد هو خطوة نحو تفكيك الاستلاب الفكري الذي يُمارس عليه. وأنّ الأخطر من وقود المنظومة هو حامي استمراريتها الواعي بالصراع الطبقي والمقيّد إياه في مفهوم نظري، لا كسلاح في مواجهة التعليم الذي يُستخدم كأداة لإعادة إنتاج الطبقات الاجتماعية.
فإن المثقف العضوي لا يكفي وعيه بل يكتمل الوعي بالفعل، إن كان وعيا دون حركة فهو بالضرورة وعي منقوص.
إن كسر القالب النمطي للطالب يبدأ بإدراكه أنّ المعرفة ليست سلعة جامدة تُستهلك، بل أداة تحرر وإعادة بناء. حين يصبح الوعي ضرورة وليس ترفًا، يمكن أن نبدأ بالفعل لا بالكلام. يجب أن يكون التعليم أداة تحرر، وإلا فإنه سيبقى أداة استعباد”. — تشي غيفارا.
تثقفوا تنظموا ثوروا.
إن التعليم العالي يحتضر إن الجامعة تنتفض.