بقلم علي الجلولي
أثارت دعوة عبدالله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني إلى حزبه بحل نفسه وإلقاء السلاح والانخراط في مشروع سياسي يضمن الحقوق الثقافية للأكراد ضمن الدولة التركية، لغطا وجدلا قديما/جديدا حول المسألة الكردية التي طالما كانت أحد محاور الصراع في المنطقة. وتأتي دعوة أوجلان متقاطعة مع تحولات عميقة تشهدها المنطقة ليس أقلها ما جرى في سوريا التي سقط نظامها وانتصبت عوضه العصابات الإرهابية المدعومة تركيا وقطريا وصهيونيا والتي شرعت في إعادة ترتيب الوضع السوري وفقا لأجندة جديدة تتجه نحو خلق شروط “الشرق الأوسط الجديد” كما صاغته الامبريالية الأمريكية، وآخر معطيات هذا الوضع السوري إمضاء اتفاق بين الجولاني، الحاكم الجديد لسوريا و مظلوم عبدي، قائد “قوات سوريا الديمقراطية”(قسد) الكردية يقضي باندماج الأخيرة بهياكلها العسكرية والمدنية في الدولة الجديدة بما يعني التخلي عن شعار الانفصال أو الانتماء الكنفيدرالي للدولة السورية. فكيف يمكن فهم هذه المستجدات؟ وما هي حقيقة المسألة الكردية؟ وما هو العادل وغير العادل في هذه المسألة؟
المسألة الكردية في التاريخ
لا شك بالنسبة إلينا بكون الأكراد هم شعب له خصائصه المميزة من وحدة اللغة والتاريخ والأرض التي تحوز منطقة تقاطع قارتي آسيا و أروبا والتي تسمى أسيا الصغرى حيث اتجه عديد الباحثين إلى أن الأكراد هم السكان الأصليون للمنطقة الواقعة بين جبال طوروس التركية إلى جبال زاغروس الإيرانية. وفيما اعتبرهم البعض من أصول عربية نزحت إلى جبال كردستان حيث خلقت لغة وهوية جديدة، تتجه عديد الأبحاث لنسبتهم إلى العرق الآري وتحديدا من الفرع الهندو أروبي حيث هاجروا من وسط آسيا بين القرنين 12 و 9 قبل الميلاد ليتشكلوا كشعب مميز، وهم من أقدم الشعوب الآرية التي أسست حضارة متقدمة في المنطقة.
لكن هذا الشعب تعرض طيلة التاريخ إلى شتى أشكال الاضطهاد بما في ذلك تقسيمه بين الكيانات القومية الكبرى في المنطقة وهي أساسا الأتراك والفرس (إيران) والعرب (العراق وسوريا). إن هذا التمزيق حوّل هذا الشعب إلى أقليات في هذه البلدان، فيما اختارت أعداد أخرى الهجرة سواء إلى البلدان القريبة (أرمينيا وبعض الجمهوريات السوفياتية السابقة) أو إلى البلدان الغربية وخاصة ألمانيا وذلك هربا من الاضطهاد العرقي والثقافي الذي تعرضت له عبر التاريخ. لقد كان الموقع الاستراتيجي لتركز الأكراد مصيبة عليهم سابقا وحاضرا، إذ استعملتهم الإمبراطوريات الاستعمارية المتلاحقة ورقة ضغط على هذا البلد أو ذاك وهو ما يفسّر إلى حد كبير العجز عن تحقيق وحدة الأمة وإقامة الدولة الكردية المستقلة. وكرست اتفاقيات سايكس ـ بيكو الممضاة بين القوى الاستعمارية الفرنسية والانجليزية سنة 2016 والتي قسمت بلدان المنطقة وشعوبها بينهما تقسيم الشعب الكردي بين أربعة بلدان، القسم الأكبر في تركيا، والقسم الثاني في العراق ثم سوريا فإيران. ولا زال الشعب الكردي يعيش كأقليات في هذه البلدان، لكنها أقليات بالملايين، إذ يعيش 20 مليون كردي في تركيا (20% من السكان)، و6.5 ملايين في العراق (20% من السكان) و3 ملايين في سوريا (15% من السكان) و12 مليون في إيران (15% من السكان).
الذاتية الكردية في الفكر والنضال
وقد تشكلت عبر التاريخ الحركة القومية الكردية التي طرحت كمهمة توحيد الشعب الكردي في بلد مستقل يسمى كردستان، وعرفت الحركة الوطنية الكردية ذروتها في ثلاثينات القرن المنصرم بعد تفكك الإمبراطورية العثمانية التي كان الأكراد يتبعونها في كل أقطار تواجدهم. لقد تزامن ميلاد هذه الحركة مع ولادة الحركة القومية العربية التي نشطت فكرا وممارسة في ذات الحقبة حين طرحت ضرورة استقلال العرب عن تركيا وبناء دولتهم القومية الخاصة بهم. برز المفكرون الأكراد الذين اتجه بعضهم إلى طرح فكرة الانفصال والاستقلال من خلال بناء الدولة الخاصة حتى باعتماد طريقة بناء الكيانات الكردية في كل بلد على حدة في أفق خلق شروط الوحدة الكردية، فتم في 1946 إعلان دولة “ماهاباد” غرب إيران لكنها انهارت بعد عام فقط، وطرح آخرون فكرة بناء أنظمة كنفدرالية تكرس الاستقلال الذاتي للأكراد ضمن الدول القائمة، فيما اتجه البعض إلى الدفاع عن فكرة الاندماج داخل المجتمعات القائمة خاصة بحكم وحدة العقيدة (أغلبية الأكراد مسلمون سنة) التي تيسّر هذا الاندماج. ومثلما ظهر مفكرون وحركات يتحركون في سياق الأمة الكردية الباحثة عن اكتمال شروط تشكلها، اختار آخرون التحرك ضمن حدود الدول القائمة (أكراد تركيا، أكراد العراق…). وككل مجتمع شقت الشعب الكردي التناقضات الطبقية والسياسية، وقد قادت جزء من الحركية الكردية عائلات تقليدية ذات نفوذ ديني واجتماعي مثل عائلة البرزاني التي قادت المساعي التفاوضية مع السلطان العثماني ثم مع المحتل الانقليزي لبعث الكيان الكردي، كما قادت التمردات السلمية والعنيفة (1907/1914) ثم (1931/1933)، علما وأن انقلترا كانت تنوي بعث دولتين كرديتين إلا أنها تخلت عن ذلك بإلحاق الأكراد بأقطار تواجدهم في إطار التعاطي معهم كورقة للتدخل والابتزاز وهو ما استمر إلى اليوم.
ويعتبر مصطفى برزاني أب الحركة القومية الكردية المعاصرة، سواء لجهة توحيد الأكراد حول قضيتهم سواء من جهة الجهد الكبير لطرح المسـألة الكردية على العالم، ففضلا عن تأسيس “الحزب الديمقراطي الكردستاني” الذي وحّد عديد الفصائل، استطاع طرح المسألة الكردية أمام المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة بدعم من الاتحاد السوفياتي سنة 1963، كما قاد عديد التمردات والانتفاضات الكردية في مختلف بلدان التواجد وخاصة شمال العراق حيث تم الاعتراف بالحقوق الكردية بعد عديد النزاعات المسلحة والانقسامات في الأحزاب الكردية ومنها ولادة “الاتحاد الوطني الكردستاني” بزعامة جلال طالباني، وقد ركز الحزبان عملهما في العراق أين تمكنا في تسعينات القرن الماضي من تكريس حكم ذاتي شمال وشرق العراق بدعم من أمريكا وبريطانيا ودول إقليمية في إطار الصراع مع نظام صدام حسين. وفي الجانب التركي وبعد فشل الانتفاضات والمساومات، تأسس “حزب العمال الكردستاني” سنة 1978 كمنظمة ثورية تعمل من أجل إقامة الوطن الكردي المستقل اعتمادا على الكفاح المسلح، علما وأن نضال المعاصر لأكراد تركيا اتسم غالبا بالانتفاضات والتمردات المسلحة (انتفاضة 1920، 1930 ،1925، 1937، 1931…) والتي قابلها الحاكم التركي بالحديد والنار والمجازر الوحشية والإبادة.
اعتمد حزب العمال أسلوب حرب العصابات واستهداف مراكز السلطة التركية وأيضا الكردية (قادة القبائل المرتبطين بالدولة التركية)، وشكل صموده البطولي أمام سلطة الانقلاب العسكري سنة 1980 التي استطاعت تفكيك كل القوى المعارضة التركية والكردية، نقطة تحول مهمة جعلت من الحزب قوة صاعدة استطاعت بداية التسعينات بعث نواتات الكيان الكردي في مناطق الارتكاز شرق تركيا التي تم تحريرها من قبضة الدولة التركية. في نهاية التسعينات بدأ الحزب يتعاطى بإيجابية مع فكرة النضال من أجل افتكاك الحقوق الثقافية للأكراد التي بدأت السلطة تلوح بإمكانيتها (خاصة مع تورغوت أوزال). وقد أدى الضغط التركي على سوريا إلى طرد عبدالله أوجلان منها ليتم إيقافه سنة 1999 في كينيا من قبل المخابرات التركية وحُكم عليه بالسجن المؤبد. في الأثناء أعلن الحزب كم من مرة الهدنة، كما استأنف القتال. واعتمد أيضا على الأحزاب الكردية السلمية التي وصلت البرلمان وسيطرت على بلديات الشرق من أجل التعبئة لتطوير المكاسب التي تم تثبيتها في الدستور التركي بالاعتراف بالخصوصية الثقافية للأكراد كمكوّن من مكونات المجتمع التركي.
الأكراد أقليات مضطهدة ومستبعدة
لقد عاش الأكراد في تركيا كأقلية مضطهدة وغير معترف بخصوصياتها الثقافية حتى وقت قريب، ولئن استقطب حزب العمال جزءا مهما من الشعب الكردي، فإن البعض اتجه في العقود الأخيرة إلى النشاط السلمي السياسي والبرلماني والبلدي من أجل تثبيت وتوسيع مجال التمتع بحقوق الهوية (اللغة، العادات…). وقد استطاع أكراد العراق الحفاظ على الحكم الذاتي ضمن الدولة العراقية الاتحادية الذي أصبح تحت السيطرة الكلية لعائلة برزاني (مسعود ثم ابنه نتشرفان) المرتبطة بتحالفات إقليمية ودولية لا تخدم مصالح الأكراد وطموحاتهم. وقد كوّن جزء من أكراد سوريا سنة 2015 جناحا مسلحا تحت اسم “قوات وسرايا الديمقراطية” وهو إطار موسع لـ”قوات حماية الشعب” التي انبعثت للتصدي لعصابات داعش والنصرة والقاعدة في كوباني/عين العرب خاصة بعد 2011. وارتبطت “قسد” بالدعم الأمريكي والصهيوني في إطار مخطط تفكيك سوريا وتقسيمها على أسس عرقية وطائفية، وقد أمضى زعيمها مظلوم عبدي يوم 10 مارس الجاري اتفاقا مع الجولاني للاندماج في هياكل الدولة السورية الجديدة. أما في إيران فان علاقة الأكراد بالدولة المركزية فقد ظلت عموما قائمة على العنف والاضطهاد رغم تمثيلهم لـ15% من السكان، ويعبّر الأكراد عن أنفسهم من خلال تعبيرات سلمية رسمية (التواجد في البرلمان ضمن الحصص الطائفية) أو المسلحة مثل “حزب الحياة الحرة الكردستاني” الذي يعتبره نظام الملالي امتدادا لحزب العمال الكردستاني.