بقلم: حَمَّه الهَمَّامِي
“أنتِ فقِيرةٌ وأنْتِ غنِيّة
أنتِ قويّةٌ وأنتِ عاجزة
يا أمَّنَا تونس“(1)
لم تسعفني الظّروف كي أتفاعل بشكل مباشر مع بعض ردود أفعال أنصار الانقلاب على الجلسة الأولى من قضية ما أصبح يُعرف “بالتّآمر على أمن الدّولة“. ولكن من الأفضل التّفاعل ولو بشكل متأخّر من عدمه خاصّة أنّ المسألة لم تنته فالقضيّة المذكورة ما تزال في بدايتها كما أنّها ما تزال تُثار إلى اليوم لا في وسائل التّواصل الاجتماعيّ فحسب وإنّما أيضا في الخطاب الرّسميّ ولا أدلّ على ذلك ممّا جاء في كلمة قيس سعيّد في اجتماع مجلس الأمن القوميّ يوم 20 مارس الجاري بمناسبة الذكرى 69 لـ“إعلان الاستقلال“. زد على ذلك أنّ المسائل التي تثيرها ردود الأفعال تلك، الرّسميّ منها وغير الرّسميّ ليست مسائل جزئيّة أو عابرة وإنّما هي قضايا أساسيّة، جوهريّة أُثيرت في السّابق ومن المؤكّد أنّها ستثار في المستقبل طالما أنّ بلادنا لم تتخلّص نهائيّا من الاستبداد والدّكتاتوريّة ولم تَخْلق الإطار المجتمعيّ الذي تتحوّل فيه الحرّيّات والحقوق والدّيمقراطيّة ودولة الحقّ أو القانون إلى جزء لا يتجزّأ من ثقافة شعبها وهويّته.
لقد هاج وماج أنصار الانقلاب ضدّ كلّ من ندّد بالمحاكمة وما رافقها من انتهاكات لحقوق الدّفاع وأدان طابع القضيّة الملفّق وفضح غايتها التي لا تعدو كونها تصفية حسابات مع خصوم سياسيّين بهدف إسكاتهم بكلّ الوسائل ولو اقتضى ذلك الدّوس على أبسط شروط المحاكمة العادلة واستعمال الأساليب والوسائل الأكثر تعسّفا. وكان حزب العمّال ولا يزال من الأطراف الديمقراطيّة التقدّميّة التي نالت نصيبها من سيل الشّتائم والسبّ والتشهير والتّخوين والاتّهام بالتّواطؤ مع “الإخوان” ومع “أعداء الوطن” و“الصهاينة” التي أطلقتها، في وسائل التّواصل الاجتماعي، جوقة “السّاقطين والسّواقط والسقّاط” من سقط متاع الحشد الفاشيّ الذين لا أخلاق ولا مبدأ ولا همّة لهم عدا الكذب والنّفاق والسّعي إلى تقديم الخدمات لصاحب السّلطة تزلّفا له إمّا من باب الخوف أو الطّمع أو الاثنين معا. وفي الحقيقة ما هذه الحملات إلّا صدى للخطاب الرّسمي وتحديدا خطاب قيس سعيّد الذي كثيرا ما يلمّح بأسلوبه الغامض المعتاد إلى أنّ من يبدون “أعداء لدودين” هم في الواقع “أصدقاء ودودون” و“إخوان متحالفون” وقد يكون في ذلك إشارة إلى التحرّكات المتزامنة في تونس لشبكة الحرّيّات وجبهة الخلاص حول المعتقلين السّياسيّين أو بعض البيانات والمواقف الحزبيّة حول نفس القضايا أو ربّما بعض تحرّكات المساندة واللّقاءات المنظّمة في الخارج من قبل تونسيّين فرض عليهم المنفى وبعض الجماعات الحقوقيّة الخ… فالواضح أنّ سلطة الانقلاب لا تتحمّل في الواقع أيّ تحرّك ويرعبها أيّ تجمّع سياسيّ أو مدنيّ للقيام بأعمال مشتركة لأنّ مصلحتها في الرّكود وفي تشتّت القوى.
الفاشيّون أعداء الديمقراطيّة
وما من شكّ في أنّ هذه المواقف إنّما تضع وجها لوجه قطبين متناقضين، متنافرين وهما الديمقراطيّة من جهة والفاشيّة من جهة ثانية، ودولة القانون من ناحية ودولة الجور والتعسّف (l’arbitraire) من ناحية أخرى. إنّ الفاشيّ فقط يعتقد أنّ من ينتقده ويخالفه الرّأي ويعارضه أو يتنافس معه على السّلطة أو يهدّد مركزه “متآمر” و“خائن” و“عميل” وهو ما يجيز، في نظره، “محقه وسحقه” بكلّ الوسائل دون الحاجة إلى قانون أو إلى محاكمة عادلة. كما أنّ الفاشي فقط هو الذي يعتبر، بسبب تفاهة تفكيره وضيق أفقه وتعصّبه الأعمى، أنّ من يستنكر مظلمة تعرّض لها طرف آخر ليس بالضرورة صديقا بل قد يكون خصما أو حتّى عدوّا فكريّا وسياسيّا، هو متواطئ معه لأنّه ما كان عليه أن يتكلّم أو يدين أو يتباين. وهذا المنطق الرّجعي، منطق الاصطفاف، “إن لم تكن معي فأنت ضدّي“، الذي عشناه مع بن علي (كلّ من ينقد بن علي فهو يخدم حركة النهضة) ثم مع حركة النّهضة (كلّ من ينقد حركة النهضة فهو من أزلام النظام السابق)، هو الذي قاد سعيّد في أبرز مواقفه من قضية “التّآمر” إذ نصّب نفسه باحث بداية ونيابة عموميّة ومحكمة. فالجميع يتذكّر ما صرّح به من داخل وزارة الداخلية وحتّى قبل أن تبدأ الأبحاث من أنّ “المورّطين في قضيّة التّآمر أدانهم التّاريخ قبل أن يدينهم القضاء” وقد أضاف في نفس السّياق أنّ “من يبرّئهم فهو شريك لهم” لفرض الاصطفاف وراء روايته. وفي مناسبات أخرى سخر من الذين يطالبون باحترام الإجراءات، وهي الأساس في كلّ قضيّة، وهدّد القضاة الذين لا ينصاعون للأوامر مع علم أنّ بعضهم تعرّض فعلا لإجراءات تعسّفيّة لتصرّفه بما لا يرضي “الوظيفة التّنفيذيّة“.
ولا غرابة والحال تلك أن ينساق أنصار الانقلاب في حملات هستيريّة تقطر كراهيّة وحقدا وتعطّشا للانتقام والدّم. فالدّعوات إلى اعتقال المعارضين والخصوم السّياسيّين وسحلهم وإعدامهم تحفل بها يوميّا صفحات التّواصل الاجتماعيّ. ولكنّ الأمور تجاوزت الشّبكة الاجتماعيّة والأتباع العاديّين لتصل إلى وسائل الإعلام التي زُرِعَ فيها عدد من “الأعوان” لا علاقة لهم أصلا بالصّحافة ولا مهمّة لهم غير نشر الأكاذيب والرّوايات الخياليّة حول “قضيّة التّآمر” لتكبيل المعتقلين وإثارة الرّأي العام ضدّهم وإعداده لتقبّل كافّة الانتهاكات التي سيتعرّضون لها والأحكام الثّقيلة التي ستصدر في شأنهم وتشويه كلّ من يدافع عنهم واعتباره شريكا لهم في “المؤامرة“، في الوقت الذي يمنع فيه، بقرار قضائيّ، عن المحامين وعن الإعلاميّات والإعلاميّين التّداول في القضيّة. وقد بلغت الأمور في هذا السّياق حدّا لا يُتصوّر من العبث بل من الجنون ناهيك أنّ أحد أولئك “الأعوان” صرّح في إحدى القنوات التلفازيّة التي يتّخذ منه منبرا للهجوم على خصوم سلطة الانقلاب وتبرير كلّ ما تقرّره أو تقوم به، أنّه يكفيه أنّه رأى “التّآمر في عيون بعض المتهمين” ليقتنع بإدانتهم (من المفروض تشغيله في الشرطة العدلية لكشف المجرمين من عيونهم دون الحاجة إلى الأبحاث المطوّلة والإثباتات وتحمّل عناء الضّرب والتعذيب أحيانا !!). وقد انتقلت الحملة إلى مؤسّسات الدّولة أيضا ونقصد تحديدا برلمان الدّمى. إنّ أحد النوّاب يمثّل النّموذج الصّارخ للعقليّة الفاشيّة الجديدة التي تنتشر اليوم في المجتمع بغلاف شعبويّ يمينيّ متطرّف. فهذا النّائب لم يتردّد في مداخلة له في المجلس تعرّض فيها للاعتقالات في القول: “إنّ عشرات السياسيّين الذين يقبعون بالسّجن مكانهم الحقيقيّ السّجون أو المقابر وليس إنجازا أن يتمّ إيداعهم السّجن…” وعند تعرّضه في نفس المداخلة لاعتقال راشد الغنّوشي، رئيس حركة النهضة، أضاف: “ما هوش إنجاز وضع راشد الغنّوشي في السّجن… المفروض أنّه أُعْدِمَ من عام 1981…”. وجاء في تدوينة أخرى نشرها نفس النّائب في صفحته غداة الجلسة الأولى لقضيّة التآمر ما يلي: “وللأسف الرّئيس قيس سعيّد ديمقراطيّ ياسر خاطر عن بكرة أبيهم وعلى ريحة الرّيحة وجب استئصالهم كالورم الخبيث وجايينها جايينها عام، خمسة، عشرة أعوام مسألة وقت فقط ولا عاش في تونس من خانها“. دعوات واضحة للعنف والقتل خارج إطار القانون من هذا النّائب الفاشي، ولا نيابة تحرّكت ولا مكتب مجلس نوّاب تحرّك ولا هم يحزنون.
الدّفاع عن قيم ومبادئ لا تتجزّأ
خلافا للفاشي الدّموي فإنّ الديمقراطيّ الحقيقي، المتماسك ينطلق في رفضه الظلم أو انتهاك الحقّ من قيم ومبادئ ثابتة غير قابلة للمساومة ولا تتغيّر بتغيّر الظّرف أو الطرف المعنيّ. إنّ الديمقراطيّ حين يدين اعتقال غازي الشواشي أو جوهر بن مبارك أو رضا بلحاج أو عبد الحميد الجلاصي أو شيماء عيسى (هي اليوم في حالة سراح) أو غيرهم من المحشورين في هذه القضية دون إثباتات بسبب آرائهم أو في إطار تصفية حسابات فذلك لا يعني بالضرورة أنّه يقاسمهم أفكارهم وتصوّراتهم ومواقفهم وممارساتهم السّياسيّة وإنّما هو ينطلق فقط من مبدأ أنّ من حقّهم بصفتهم مواطنين/مواطنات أن يكون لهم رأي وتصوّر وموقف ونشاط سياسيّ في وطنهم ومجتمعهم وأنّ من لا يوافقهم في ذلك من واجبه ألّا يحرمهم من ذلك الحّق وإن شاء أن يحاربهم فليحاربهم بأسلحة فكريّة وفكريّة فقط لا عن طريق القمع وتلفيق القضايا والتّنكيل والتحريض عليهم. كما أنّ الديمقراطي المتماسك حين يدين مهزلة 4 مارس التي دِيسَ فيها على أبسط شروط المحاكمة العادلة (عدم إحضار المعتقلين وتمكينهم من الدفاع عن أنفسهم أمام المحكمة وأمام الرّأي العام) فإنّه لا يفعل ذلك إلّا من باب الإيمان بدولة الحقّ/القانون التي تحترم تلك الشروط لأنّها إذا غابت عمّ الجور والظّلم والتعسّف وحلّ الاستبداد والفاشيّة. فكون فلان أو فلتان متّهما في القضية لا يجيز بأيّ شكل من الأشكال انتهاك شروط المحاكمة العادلة لأنها القاعدة العامة والمبدئية في كل القضايا وفي كل الظروف وهي الضّامنة، إلى جانب توفّر قضاء مستقلّ، لتحقيق العدل. وما من شكّ في أنّ الدّيمقراطيّ الحقّ حين يفعل ذلك فلأنّه يدرك أنّه إن لم يتصدّ للمظالم التي يتعرّض لها أيّ مواطن وإن لم يدافع عن حقّه في التمتّع بالحرّيّات فعليه أن ينتظر اليوم الذي سيكون فيه هو الضحيّة لأنّه ترك باب الظّلم مفتوحا كي يتمدّد ويشمله كما يشمل غيره. وبالتالي فإنّ الديمقراطيّ بتصدّيه للمظالم وانتهاك القانون يحمي نفسه ويحمي المجتمع بأسره من مظالم السّلطة الجائرة.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ الديمقراطيّ المتشبّع بقيم الحرّية ومبادئ الحقّ حين يعترض على الكيفيّة التي أوقف بها راشد الغنّوشي رئيس حركة النّهضة (مقطع فيديو مجزّأ) أو نور الدين البحيري (تدوينة غير موجودة في الملفّ حسب هيئة الدّفاع…) لا يعني أنّه أصبح “صديقا” أو “حليفا” لحركة النهضة كما لا يعني أنّ موقفه المبدئي يعفي الغنّوشي أو البحيري أو غيرهما من قيادات حركة النهضة ومن الذين حكموا معهم (البعض يتناسى أنّ حزب نداء تونس حكم مع حركة النهضة وكانت رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ورئاسة البرلمان من نصيبه) من المحاسبة عن أيّ جرم، مثبت بالطّبع، اقترفوه . وإنّما هو ينطلق من مبدأ أنّ أيّ مواطن مهما كان الجرم المنسوب إليه لا ينبغي أن يُنتهك حقّه غير القابل للتّصرّف في محاكمة عادلة لا تلفيق فيها ولا تزوير ولا تصفية حسابات. فليس لأنّ الدّيمقراطيّ يعارض حركة النهضة أو يعتبرها خصما أو حتّى عدوا سياسيا سيجعله ذلك يقبل بأن ترتكب السّلطة المستبدّة القائمة ما تريد من تجاوزات مع المعتقلين من هذه الحركة مستعملة قضاء “تحت الطّلب” بشهادة جمعية القضاة نفسها. وفوق ذلك كلّه فإنّ الديمقراطيّ لا يقبل مبدئيّا محاكمات تصفية الحسابات التي هي من تقاليد أنظمة الاستبداد لأنّها بالضرورة غير عادلة لا تحلّ المشاكل ولا تكشف الحقائق ولا تقضي على الفساد ولا تضع حدّا للخور. وأكبر دليل على ذلك أنّ عموم التونسيّات والتونسيّين لا دراية لهم بالتهم الموجهة إلى الغنوشي وغيره من قيادات حركة النهضة ولا بمضمون ملفاتهم والأدلّة الملموسة الثابتة ضدّهم لأنّ هدف النظام ليس تسليط الضوء على الجرائم المفترض ارتكابها وإنما تصفية حساب مع خصم في إطار صراع حول السلطة تتداخل فيها عوامل إقليميّة ودوليّة.
لقد بيّنت الحياة أنّ من يقبل مثل هذه المحاكمات فعليه أن ينتظر دوره. وليس أدلّ على ذلك ممّا وقع في عهد بن علي، فالعديد من الأطراف التي ساندت بن علي في نهجه الدّكتاتوري دارت عليها الماكينة لاحقا ووجدت أنّها أكلت يوم أكل الثّور الأبيض. وهو ما نراه اليوم أمام أعيننا فكم من مسؤولين كبار كانوا مقرّبين من قيس سعيّد دارت عليهم الدائرة وهم اليوم ملاحقون وضحايا لما ساهموا بأنفسهم في ترسيخه من جور، فبعضهم في السّجن والبعض الآخر ملاحق وممنوع من السّفر والبعض الثّالث مرغم على العيش في المنفى. وفوق ذلك كلّه ما الذي حصل في قضيّة الشّهيدين، شكري بلعيد والحاج محمّد البراهمي؟ لقد صفّق البعض للانقلاب وراهن عليه في كشف الحقيقة وثمّة حتّى من تمّ استعماله من أجل حلّ المجلس الأعلى للقضاء الذي فتح الباب لتفكيك القضاء والتحكّم فيه بمذكّرات العمل وتوظيفه ولكنّ اتضح في النهاية أنّ سلطة الانقلاب، تعاملت مع الملفّ كملفّ حقّ عام وعملت على “غلقه” بسرعة، والكلام ليس كلامنا وإنّما كلام هيئة الدّفاع التي قرّرت في لحظة من اللحظات الانسحاب خاصّة بعد تحويل جلسات المحاكمة إلى جلسات عن بعد والتّضييق على الإعلام والإعلاميّين. وهو ما يؤكّد للمرّة الألف أنّ الاستبداد لا يوفّر في كل الحالات شروط المحاكمة العادلة وعلى رأسها وجود قضاء مستقلّ وأنّه يرفع الشّعارات الشّعبويّة للتّضليل فقط.
حزب العمّال “منبر للدّفاع عن كلّ المظلومين“
إنّ حزب العمّال الذي حافظ منذ تأسيسه على استقلاليته الفكرية والسياسية ظلّ “منبرا للدّفاع عن المظلومين” بقطع النظر عن انتماءاتهم الاجتماعية والفكرية والسياسية بل بقطع النظر عن مدى اتفاقنا أو خلافنا معهم في الرّأي والموقف والممارسة. فذلك موقفنا المبدئيّ الصّارم النابع من قناعاتنا الفكريّة العميقة بل إنّ حزب العمّال حين يكون “منبرا للدّفاع عن كلّ المظلومين” فإنما يفعل ذلك من وجهة نظره الثورية والاشتراكية، من وجهة نظر برنامجه العام وأهدافه الكبرى التي تتمحور حول بناء مجتمع خال من الظلم والقهر والاستغلال والفقر والبؤس، مجتمع حرّ وآمن لا استلاب فيه ولا خوف، مجتمع المواطنة لا الرعيّة. وفي هذا السياق يعتبر حزب العمّال أنّ العمل على تعبيد الطريق نحو تحقيق هذا المجتمع يبدأ من الآن برفض كلّ أشكال الظّلم مهما كانت الفئة الاجتماعية أو الجماعات التي تتعرّض له من سياسيّين وإعلاميّين ونقابّيين ومدوّنين ونشطاء مجتمع مدني ومحتجّين من ضحايا المرسوم 54 سيّء الصّيت ومهاجرين وأقلّيّات وغيرهم من النّاس الذين لا يعلم بهم أحد أحيانا. إنّ دولة القانون ليست بالنّسبة إلينا شعارا أجوف، للمزايدة، بل هدفا جدّيا لا بدّ من توفير شروطه لضمان مستقبل بلادنا. وما من شكّ في أنّ صاحب المصلحة الأولى في تحقيق دولة القانون هذه هو الشّعب التّونسي بطبقاته وفئاته الكادحة التي تمثّل اليوم الضحيّة الأساسية للاستبداد والقهر والاستغلال والتّفقير والتبعيّة والتجهيل. فإذا كان الاستبداد هو الإطار الذي تحقّق فيه الأقلّيّات الرّجعيّة، المحلّيّة منها والأجنبيّة المُهيمنة على مجتمعنا، مصالحها الأنانيّة، المتوحّشة، فإنّ الجمهوريّة الديمقراطيّة الشعبيّة التي يمارس فيها الشّعب سيادته على الدولة والثّروة ستكون الإطار الذي يحقّق فيه العمّال والأجراء والكادحون في المدن والأرياف والمثقّفون والمبدعون والنّساء والشّباب حريتهم دون قيد أو شرط كما يحقّقون فيه أمنهم وطمأنينتهم وتحرّرهم من كافة أشكال الاضطهاد والاستغلال والتّبعيّة.
ومن نافل القول إنّ حزب العمّال وهو يتبع هذا النهج المبدئي الصّارم ويناضل من أجل كنس الاستبداد وقاعدته الاجتماعيّة ليس في حاجة إلى دروس في الوطنيّة لا من سلطة الانقلاب ولا من سقط متاع الحشد الفاشيّ. إنّ من أغرق البلاد في المديونيّة ومن استمرّ في رهنها للأجنبيّ في غذائها وحاجاتها من الموادّ المصنّعة ونصف المصنّعة وفي دوائها ولم يُلْغِ أو يراجع الاتفاقيات غير المتكافئة التجاريّة والماليّة والأمنيّة والعسكريّة ومن نصح فرنسا بعدم الاعتذار عن ثلاثة أرباع قرن من الاستعمار لتجنّب إدانة نفسها ومن حوّل تونس إلى حارس حدود لإيطاليا والاتّحاد الأوروبيّ مقابل حفنة من اليوروات ورفض تجريم التّطبيع مع الكيان الصّهيوني لا يمكنه أن يعطينا دروسا في الوطنيّة فالوطن وطننا والأرض أرضنا دافعنا وندافع عنها بأظافرنا وأسناننا كما دافع عنها شهداء الأمس واليوم ونحن إذ نقاوم الاستبداد والفاشيّة فإنّنا نعتبر أنّ الحريّة والديمقراطيّة وحقوق الإنسان هدف يحقّقه الشعب بنفسه ولنفسه لأنّها مكسب إنساني هو جدير به يحتاجه للنهوض بوطنه والارتقاء بأوضاعه المادّية والمعنويّة وتحقيق مجتمع المواطنة والقطع نهائيّا مع مجتمع الرّعيّة، وهو في النهاية لا يُهدى إليه لا من فرنسا ولا من أمريكا ولا من أيّ كاسر من الكواسر الامبرياليّة التي لا دين لها إلّا مصالحها التي لا تتردّد في ارتكاب أشنع المجازر للحفاظ عليها وغزّة وفلسطين مثال ساطع على ذلك. كما لا يمكن لمن وصل إلى الحكم بأصوات حركة النهضة وتودّد لها سنة 2011 لحظة صعودها وكال لها المديح أو لمن حكم معها وتقرّب منها خدمة لمصالحه أن يعطينا دروسا في النّضال الفكريّ والسياسي والميداني ضد هذه الحركة ونحن الذين واجهنا وقاومنا وتركنا إرثا فكريّا وسياسيّا يشهد على ذلك. وإنّه لمن المضحكات المبكيات أن يصبح بعض أشباه اليساريين يتظاهرون اليوم بالرّاديكالية والتطرّف في معارضة حركة النّهضة بعد إزاحتها من الحكم (وقد كانوا في وقت من الأوقات يتمسّحون على أعتابها للحصول على كرسي في الحكومة) وهم في الحقيقة يتّخذون هذه الراديكاليّة الشّكليّة غطاء لتبرير دعمهم للاستبداد وانخراطهم في موجة الفاشية الشّعبويّة الجديدة وفي إطالة عمر الوضع القائم وعمر الطبقات الاجتماعيّة السّائدة المستفيدة منه.
إن بناء دولة الحق/القانون الديمقراطية العادلة في إطار الجمهورية الديمقراطيّة الشعبيّة يبدأ من اليوم… يبدأ من رفض كل المظالم دون ميز… يبدأ من المطالبة بإطلاق سراح معتقلي الرّأي وتوفير شروط المحاكمة العادلة لكلّ من علقت بهم تهم تؤكّدها وقائع وإثباتات ورفض محاكمات تصفي الحسابات وإلغاء التشريعات الجائرة وفي مقدمتها المرسوم 54 الفاشي وكل المراسيم الأخرى التي تنال من استقلالية القضاء ومن الحريات علاوة على إلغاء كل القوانين القمعيّة الموروثة من العهد الاستعماري أو من العهد الدكتاتوري… إنّ الوسيلة جزء من الغاية ولا يمكن أن تكون في تناقض معها… نقول هذا الكلام ونحن نحتفي في هذا العام بمرور مائة عام على صدور كتاب “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” لعبد الرّحمان الكواكبي التي سعى في عصره إلى إضافة لبنة في مسار مقاومة آفة ما تزال إلى اليوم تنخر مجتمعاتنا العربية الإسلاميّة وتعرقل تطورها وتقدّمها. لقد اعتبر الكواكبي أنّ الاستبداد هو أصل انحطاط الشعوب وتخلّفها. فهل أخطأ القول ونحن نرى بلادنا التي يحكمها الاستبداد تسير نحو الكارثة بخطى حثيثة في وضع إقليمي ودولي مضطرب ومليء بالمخاطر؟
————-
للعبرة: ما زلت أذكر ما روته لي راضية النّصراوي، المحامية والحقوقيّة، رفيقة دربي منذ ما يزيد عن الأربعة عقود والتي تفتقدها الساحة اليوم، حول حديث دار بينها وبين أحد الشبّان الموقوفين في قضية سليمان سنة 2006. وقد تعرّض هذا الشابّ إلى تعذيب وحشيّ مع العلم أنّه لم يكن من العناصر التي حملت السّلاح فيما جدّ من أحداث وقتها. زارته راضية في السّجن لمعاينة آثار التّعذيب وكان هذا الشابّ في البداية محترزا وحتّى متخوّفا منها. ولطمأنته من جهة ولوضع النّقاط على الحروف من جهة أخرى قالت له: “ليكن واضحا لك أنّني لست هنا لأنّني أتبنّى أفكارك أو أتعاطف معها وإنّما جئت لأنّني ضدّ ممارسة التّعذيب التي أعتبرها ممارسة وحشيّة مهما كان النظام الذي يمارسها ومهما كانت الضحيّة المسلّطة عليها. أنا لا تهمّني أفكارك كما لا يهمّني ما فعلت… ما يهمّني أنّك تعرّضت للتّعذيب وهو ما يمثّل انتهاكا لكرامتك الإنسانيّة وحرمتك الجسديّة فضلا عن كون التّعذيب يمثّل أيضا انتهاكا للقوانين المحلّيّة اعترافات غير صحيحة مع العلم أنّ التّعذيب في بلادنا أصبح أسلوب حكم يسلّط على أصحاب الرّأي كما يسلّط على المعارضين السياسيّين ومرتكبي قضايا حقّ عام. واعلم أنّني حين أدافع عنك فإنّ هدفي ليس إنقاذك أنت فقط وإنّما العمل على استئصال ممارسة التّعذيب من بلادنا وتحويل مناهضة التّعذيب واحترام الكرامة البشريّة إلى جزء من ثقافة المجتمع التونسيّ وهويّته. وأنا واثقة بأنّه حين يتحقّق ذلك سيصبح من الصّعب على أيّ نظام حكم أن يستعمل التّعذيب دون أن يجد في مواجهته غالبيّة المجتمع التي ستفرض محاسبة مرتكبيّ هذه الجريمة. ولا أخفي عنك أنني بحكم تجربتي أعرف كيف تفكّر أنت وأصحابك وأعرف أنّني ربّما أكون من أولى ضحاياكم لو تمكّنتم يوما من الحكم لأنّ قناعاتي ليست قناعاتكم… وهذا في حدّ ذاته سبب من الأسباب التي تجعلني أبذل كل ما في وسعي للتّشهير بالتّعذيب والعمل على استئصاله في أقرب وقت حتّى لا تتمكّنوا لا أنتم ولا غيركم من ممارسته. فأنا حين أدين ما تعرّضت له أنت اليوم من تعذيب حتى وإن كنت لا أتّفق معك في أفكارك طولا وعرضا فإنّني بذلك أساهم في خلق ثقافة ضدّ التّعذيب، في خلق رأي عامّ يناهض التّعذيب بشكل مبدئيّ وبذلك أكون قد ساهمت في حماية الأجيال القادمة من هذه الآفة مهما كان مصدرها. أمّا إذا سكتّ عنها لأنّ أفكارك لا تروقني وتركت السّلطة اليوم تعذّبك وتفعل بك ما تشاء فإنّ ذلك سيديم عمر التعذيب، فقط ستتغيّر في كّل مرّة، حسب نظام الحكم هويّتي الجلّاد والضّحيّة فجلّاد اليوم يمكن أن يصبح ضحيّة الغد والعكس بالعكس… وهكذا فإنّ مجتمعنا يبقى في دوّامة ولا يتطوّر. إنّني بالدّفاع عنك وعن كل ضحيّة تعذيب دون تمييز لا أفكّر في اللّحظة الرّاهنة فحسب بل أفكّر في المستقبل أيضا… مستقبل بلاد وشعب ومجتمع… فهيّا حدّثني عمّا حصل لك وأَرِنِي دون خجل آثار التّعذيب في جسدك (الشّاب كان متحرّجا من التعرّي أمام امرأة وفوق ذلك لا يعرفها…) وثِقْ بأنّني سأدافع عنك بكلّ ما أوتيت من قوّة… أمّا ما قمت به من أفعال فتلك مسؤوليّتك وحدك وحتّى في هذا المستوى فإنّ من حقّك أن تتمتّع بكل الضّمانات كي تكون محاكمتك عادلة ولا “تذهب في الرّفس” من قبل قضاء ينفّذ تعليمات السلطة التّنفيذيّة“.
وقد ذكرت لي راضية أنّ ذلك الشاب الذي تضرّر كثيرا من التعذيب أصبح بعد أن غادر السّجن يعتبرها “أمّه الثانية” وقد تغيّرت أفكاره كما تغيّرت نظرته للحريّات وحقوق الإنسان وفهم أنّ ممارسة التّعذيب لا تبرير أيديولوجيّا لها مهما كان الظّرف ومهما كان الضحيّة…
———–
خلاصة القول:
لن نتنازل مطلقا عن الدفاع عن مبادئنا وقيمنا الاشتراكيّة، الإنسانية، إزاء حملات سقط متاع الحشد الفاشي المسعورة التي هي حملات تهدف في نهاية الأمر لا إلى التشويه والتّرهيب فقط وإنّما أيضا إلى إلغاء السّياسة بل إلغاء الاهتمام بالشّأن العام ليتحوّل إلى شأن خاص للحاكم بأمره فقط وهو عين الاستبداد والفاشية… واليوم أكثر من أيّ وقت مضى فإنّ أفضل ما لدينا هو قول شاعر فلورنسا العظيم “دانتي أليغييري“، بشيء من التصرّف: سر في طريقك ودع “سقط متاع الحشد الفاشي ينبحون“…
تونس في 24 مارس 2025
—
(1) أصل البيت الشعري الثالث هو التالي: “يا أمّنا روسيا” من قصيد للشاعر الروسي “نيكولاي أليكسيفيتش نيكراسوف” (1821-1878) بعنوان: “من ذا الذي تطيب له الحياة في الرّوسي“.