استيقظ التونسيات والتونسيون صباح يوم الجمعة 21 مارس 2025 على مفاجأة من “الحجم الثقيل”. لقد خلدوا إلى النوم ليلا تاركين على رأس الحكومة بالقصبة كمال المدّوري ليجدوا أنّه أُقيل من منصبه وحلّت محلّه وزيرة التّجهيز سارّة الزّعفراني وفقا لبلاغ صادر عن قصر قرطاج في حدود الخامسة والربع صباحا. وحسب كلّ المعطيات فقد جدّ كلّ شيء ليلا حيث جمع قيس سعيّد مجلس الأمن القومي بمناسبة الذكرى 69 لإعلان الاستقلال وبعد تذكير سريع ببعض الأحداث التي جدّت زمن الاستعمار مرّ مباشرة ليوظّف المناسبة لتمجيد انقلاب 25 جويلية 2021 ويطيل الحديث عن إنجازاته الزّائفة و”المؤامرات” الوهميّة التي ظلّت تستهدفه من “كلّ جانب” ولم يكن ذلك سوى مقدّمة للهجوم على رئيس حكومته وتوجيه الاتهام إليه باحتضان لوبيات الفساد في القصبة و”تجاوز حدود صلاحياته” التي لا تتعدّى كونه مجرّد خادم لدى رئيس “الوظيفية التنفيذية”. وقد ربط قيس سعيّد هذه الاتهامات الموجهة إلى رئيس حكومته “بحوادث أخرى غامضة” تمّت في نفس الفترة للوقوف عند حجم “المؤامرات” التي تحاك ضدّه. وحشر ضمن هذه الحوادث حالات الانتحار التي عرفتها بلادنا في المدة الأخيرة وحالات التسمّم التي طالت عددا من الطلاب في بعض المطاعم الجامعية وحالات قطع الطرقات التي تمّت في بعض الجهات وفقدان بعض المواد الاستهلاكية من السوق في بعض المناطق وعَقْد بعض “المناوئين” اجتماعا في الخارج وأضاف إلى كلّ ذلك حالة “غريبة” تتمثّل في “الرشق بالحجارة إثر الإفطار في نفس التوقيت على الساعة التاسعة والربع ليلا”. وربط كلّ ذلك بانطلاق جلسات محاكمة “المورطين في قضية التآمر على أمن الدولة” ليستنتج أن كل ما ذكر من حوادث “جزء من مؤامرة” تضاف إلى “المؤامرة” التي تحاك في قصر الحكومة بالقصبة.
وليس من الغريب أن يواجه قطاع هامّ من الرّأي هذه الحالة بالسخرية المرّة والحيرة الكبيرة على مستقبل البلاد. ألم تقع إحاطة تعيين كمال المدوري قبل أشهر بهالة من التهليل والتعظيم إذ قُدِّم الرجل على أنّه من “أعلى الكفاءات” وتمّت تحيّة قيس سعيّد على هذا “الاختيار الصّائب”؟ فكيف تحوّل “العصفور النّادر” إلى “فاسد ومتآمر خطير”؟ ثمّ من لا يعرف في بلادنا أنّ الانتحار بما في ذلك إشعال النار في النفس أصبح منذ مدّة “متلازمة تونس” وهو إنذار بتفاقم الشعور باليأس والإحباط في المجتمع؟ ألم يكن الأجدر البحث عن أسبابه العميقة عوض توظيفه مثل هذا التوظيف السّخيف الذي ينال من كرامة الضحايا أنفسهم؟ وحالات التسمّم في المطاعم الجامعية هل هي الأولى التي تحصل في السنوات الأخيرة نتيجة تردّي الخدمات الجامعيّة؟ ألم يكن الأجدر بالحاكم بأمره التوجّه نحو معالجة هذا الوضع بجدية؟ ونفس الشيء فيما يخص فقدان المواد الاستهلاكية في الأسواق ألم يصبح ظاهرة دائمة في عهد قيس سعيّد نتيجة الأزمة الماليّة المتفاقمة وتخصيص مبالغ كبيرة لتسديد الديون على حساب حاجيات الناس من المواد الاستهلاكية وحاجيات المؤسسات الصغرى والمتوسّطة من المواد الأولية ونصف المصنعة؟ وإلى ذلك كلّه فهل هي المرّة الأولى التي يعقد فيها معارضون تونسيّون بالخارج من بينهم “متهمون” في قضية التآمر اجتماعا أو ندوة صحفية؟ ولكن لئن كان كلّ هذا يمكن أن يؤخذ على أنّه من قبيل الأشياء المتكلّفة “tirés par les cheveux” أو حتّى من قبيل “التخلويض الشعبويّ” فإنّ الأدهى والأمرّ هو حديث قيس سعيّد عن “رشق متزامن كل ليلة بالحجارة” كعنصر من عناصر مؤامرة كبرى تحاك ضدّ نظامه؟ أليس هذا “التّهلويس” بل الجنون بعينه؟ وهل بلغ الضّحك على ذقون التونسيات والتونسيين إلى هذه الدرجة؟
ما من شكّ في أنه ينبغي لنا أن نأخذ ما جاء في خطاب قيس سعيّد من تخاريف شعبويّة على محمل الجدّ لأنّ الرجل يمسك بيديه كل السلطات وهو “الفاتق الناطق”. وكل ما يقوله ويفعله له انعكاساته على مصير شعب ووطن. إنّ إقالة كمال المدّوري تمثّل من الناحية السياسية دليلا واضحا على تفاقم أزمة حكم قيس سعيّد وتخبّطه. فقد عرفت بلادنا منذ وصوله إلى قصر قرطاج سنة 2019 ستّ رؤساء حكومات من بينهم أربعة منذ انقلاب 2021. وهو علامة عدم استقرار ودليل فشل صارخ يبيّن أن قيس سعيّد لم يَنْقَدْ في كامل هذه الفترة لا ببرنامج ولا بأهداف للخروج بالبلاد من أزمتها ولم يبحث عن تعيين كفاءات لتحقيق هذه الأهداف بل انقاد بشيء واحد وهو الحفاظ على حكمه بكافة الوسائل ولم يبحث إلّا عن الأشخاص الطيّعين الذين يأتمرون بأوامره والذين يقدر على إقالتهم متى يشاء وعلى تحميلهم مسؤولية فشله الشخصي. وقد فهم متتبّعو الشأن العام أنّ سبب إقالة كمال المدّوري يتمثّل تحديدا وبقطع النّظر عن توجهاته واختياراته، في عدم قبوله أن يكون موظّفا طيّعا ينفّذ كلّ ما يؤمر به وفي اعتراضه على بعض وعود قيس سعيّد الشعبوية التي يريد بها مغالطة الرّأي العام والظهور بمظهر المستجيب لمطالب النّاس ليحمّل لاحقا مسؤولية عدم إنجاز تلك الوعود لرئيس حكومته أو لبعض وزرائه. أمّا بخصوص ما جاء في بقية الخطاب حول “المؤامرات” التي تحاك فإنّه لا يتطلّب ذكاء خاصّا لفهم أنّه محاولة بائسة يقوم بها قيس سعيّد أوّلا لإخفاء الأسباب الحقيقية لفشله في كافة المجالات وإلقاء المسؤولية على الغير (المتآمرون، الفاسدون، المحتكرون…) وثانيا لتبرير القمع الموجّه ضدّ كلّ من يعارضه أو ينتقده أو يحتج عليه.
إن ما يحصل اليوم أمام أعيننا من عبث يؤكّد مرة أخرى أنّ بلادنا تسير نحو الكارثة. إن قيس سعيّد ومنظومة حكمه أصبحا اليوم عبئا على البلاد والشّعب. وهذه الحقيقة بدأت تتسرّب إلى وعي قطاعات منه وهو ما يفسّر اتساع دائرة التذمّر وتنامي التحركات والأعمال الاحتجاجية في أكثر من جهة وقطاع. وهو ما يطرح بإلحاح على حزبنا وعلى كافة القوى الديمقراطية والتقدمية العمل بكل جدية على مزيد الالتصاق بمطالب الشعب وبنضالاته والسعي إلى تطويرها وتعميقها وتنظيمها حول برنامج بديل، وطني وديمقراطي وشعبي يضع حدّا للاستبداد والتبعية والتفقير.
