يتابع العالم تجسيد الوحش الكاسر العائد إلى البيت الأبيض، دونالد ترامب يوميا “وعوده” الانتخابية على مختلف الواجهات والأصعدة الداخلية منها والخارجية، الاقتصادية والتجارية والعسكرية. ومن بين “الوعود” التي أشهرها ترامب هي أنّ الجحيم سيفتح في غزة ما لم يقبل سكانها مغادرة القطاع طوعا نحو وطن بديل حتى تتمّ إعادة بناء القطاع وتشييده كـ”منتجع يطيب فيه العيش”. وكخطوة مباشرة طالب المقاومة بإلقاء سلاحها وإطلاق الرهائن ومغادرة غزة فورا، وبطبيعة الحال وافق “الكابينيت” الصهيوني على خطة ترامب رغم الإمضاء قبل يوم من وصوله إلى البيت الأبيض على اتفاقية لوقف العدوان وفق ترتيبات تم الإمضاء عليها بعد ماراطون من المفاوضات غير المباشرة ليصمت أزيز الرصاص ولو نسبيا وتبدأ عملية تبادل الأسرى التي استفزت الصهاينة وحليفهم ترامب، إذ جنّ جنونهم وهم يتابعون على الأثير صور تسليم الرهائن في مشهدية أبهرت العالم بعد 15 شهرا من التدمير الذي طال كل ملامح الحياة في القطاع الصامد، فيما تابع العالم صور البؤس والقرف النازي الذي رافق تسليم أسيرات وأسرى فلسطين الذين تعرّضوا إلى كل أشكال الامتهان والقتل البطيء. وعوض التقيد بمراحل الاتفاق الذي كان من رعاته الجانب الأمريكي، نكث الصهاينة كعادتهم الاتفاق وأوقفوا تنفيذ المرحلة الثانية التي تعطل التفاوض بصددها رغم الاتفاق المسبق عليها، فيما لم يتقيد كيان الاحتلال بـ”البروتوكول الإنساني” الذي يقضي بإدخال أساسيات الحياة من دواء وكهرباء وخيام وبيوت مركبة وإعادة تشغيل المشافي التي دمّرت. خرق العدو الاتفاق وتنصل منه في صلف وعنجهية لم يتجرأ على مساندتها من حلفاء الكيان المحتل إلا الوحش الكاسر الأمريكي الذي ظل يكرر أنّ التحالف مع “إسرائيل” حيوي واستراتيجي، وبعث ترامب مبعوثه للمنطقة لمزيد تعقيد الوضع وذلك بالضغط على جميع القوى من أجل تفكيك المقاومة وإلغاء وجودها فضلا عن تهجير الغزاويين، ولم يتردد لحظة في التعبير بصلف أن ضمّ الضفة إلى كيان الاحتلال هو مسألة على رأس أولويات ترامب، ملمحا إلى خطته في مدته الرئاسية الفارطة التي سماها “صفقة القرن”.
الحصيلة اليوم هي تنفيذ وعد ترامب بفتح باب الجحيم في وجه عزة، وها هو القصف يطال من جديد القطاع طولا وعرضا وها هي مناشير الدعوة إلى المغادرة والانسحاب تتهاطل على الرؤوس كل لحظة وتستهدف الأماكن التي يفترض أنها “آمنة” مثل “مدرسة الأرقم” أين دفن الأطفال تحت الأنقاض وشاهد العالم على الهواء صور اللحم المفروم والأعضاء البشرية المقطوعة، ولم يتوقف العدوان على الطيران والمسيّرات، بل قصفت البوارج شاطئ غزة الذي كثيرا ما يلجأ إليه الناس. في الوقت ذاته تغلق كل المعابر وتنسف خزانات المياه لتطلق المشافي صيحات الفزع من انهيار الوضع الصحي ويبدأ الغزو البري انطلاقا من رفح لمسح الوجود البشري والشروع فعليا في خطة التهجير. إنه الجحيم كما وعد به ترامب والمجرم نتنياهو اللذين انزعجا أيّما انزعاج من فشل ورقة تحريض الغزاويين ضد المقاومة وضد حركة حماس بالذات رغم اختطاف الدعوة من قبل عميل رام الله محمود عباس، لم تنجح هذه الورقة في تأليب الحاضنة الشعبية، فتمّ المرور بسرعة قياسية إلى خيار الجحيم، هذا الخيار الذي لم يتوقف في الواقع لحظة واحدة حتى في ذروة تطبيق بنود المرحلة الأولى إذ تمت اعتداءات واغتيالات وإخلالات بكل تفاصيل الاتفاق.
الواضح والأكيد اليوم من هذا الهجوم الصهيوـ أمريكي هو نسف المكاسب التي حققتها المقاومة التي لم تنكسر ولم ترفع راية الاستسلام رغم فظاعة العدوان وحجم التضحيات، بل لقد لاحظ الجميع حفاظها على ملامح جوهرية للقوة المعنوية وصلابة الموقف والسلوك وتماسكهما وهو ما أرعب كيان الاحتلال وأدخله من جديد في دوامة الشك، فحمم التدمير التي صُبّت على غزة رغم ضيق مساحتها كافية لتدمير عالم، لكن غزة لم تنكسر ولم ترم المنديل بل تصرّ على الصمود لذلك وجب نسفها وإلغاؤها من الوجود في ظل تواطؤ غير مسبوق للنظام الرسمي العربي الذي تُدَكُّ أمام أنظاره أربعة أقطار عربية بالتزامن “دون أن تهتز له قصبة” كما قال الشاعر مظفر النواب، تضرب فلسطين في غزة والضفة والقدس، وتضرب درعا وينسف مطار حماه ويقتل الشعب السوري، وتضرب صيدا (اغتيال أحد قادة حركة حماس) والضاحية الجنوبية (اغتيال قادة حزب الله) فضلا عن العدوان اليومي على الجنوب والتواجد العسكري في نقاط كثيرة منه، ويضرب اليمن في صنعاء والحديدة وقرى الشمال. يتمّ كل هذا والجامعة العربية تواصل سباتها وأنظمة العار بما فيها النظام السوري سليل العصابات الإرهابية والنظام اللبناني صنيعة المطبخ الأمريكي السعودي، لم تعد قادرة حتى على إصدار بيانات التنديد والتلويح بـ”إجراءات” لن تأتي.
في هذا الوقت تشارك قوات عسكرية إماراتية وقطرية في مناورات عسكرية في اليونان بمشاركة القوات الجوية لكيان الاحتلال، علما وأن المجرم نتنياهو يلاحق اليوم رفقة أعضاء من مكتبه على خلفية قبول “رشاوي” قطرية بمليارات الدولارات. أمّا أردوغان الذي تدك طائراته المقدرات العسكرية لقوات “قسد” في سوريا في إطار ترتيبات إقليمية تريد تركيا البروز فيها كقوة أساسية في الإقليم، فان أزيز طيرانها يصمت عندما يتعلق الأمر بعدوان كيان الاحتلال على أرض سوريا التي تريد وضع اليد عليها، وعلى شعب فلسطين الذي أكدت تسريبات أنها (أي طائرات العدوان) تتزود بالبنزين من مطارات عسكرية تركية وذلك في إطار اتفاقية الشراكة الاستراتيجية بينهما.
إنّ تدهور الأوضاع في غزة ومجمل المنطقة يفرض على الشعوب وقواها الحية الخروج من حالة السلبية إلى إعلان الغضب على أنظمة العار وعلى الامبريالية وربيبتها الصهيونية كي يتوقف العدوان ولا تتكرر جرائم 1948 و1967 حين وجد الشعب الفلسطيني نفسه لوحده يواجه التهجير والإبادة. فليخرج الشعب التونسي من صمته وليربط مع تقاليده النضالية المجيدة في دعم وإسناد فلسطين شعبا وأرضا وقضية. إنّ التاريخ لن يغفر لمن صمت أو دكّ رأسه في التراب، فما يجري من جرائم ضد أشقائنا هو استهداف لنا واستهداف لكل المنطقة من أجل تأبيد تبعيتها وتخلفها وتفتتها وعجزها.
