بقلم حسين الرحيلي (*)
بعد طول انتظار من قبل كل الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين، قرّر البنك المركزي التونسي خلال اجتماع مجلس إدارته بتاريخ 26 مارس 2025 التخفيض في سعر الفائدة المديرية بـ 50 نقطة فقط لتصبح 7.5 %. وجدير بالذكر أنّ البنك المركزي لم يخفّض سعر الفائدة المديرية منذ سنوات تحت تأثير الارتفاع المتواصل للتضخم الذي وصل سنة 2022 إلى مستوى 10.5%، ممّا دفع البنك المركزي آنذاك بالترفيع في سعر الفائدة بـ 75 نقطة كاملة بتاريخ 22 ديسمبر 2022 لتصبح 8%.
ورغم تراجع التضخم منذ ذلك التاريخ إلى اليوم (من 10.5% سنة 2022 إلى 5.7% خلال شهر فيفري 2025)، فإن البنك المركزي بقي وفيا ومتمسكا بسياساته النقدية التحفظية والمحافظة، والإبقاء على سعر الفائدة دون تغيير لأكثر من سنتين، ممّا أثّر بشكل كبير على كلفة الاستثمار من ناحية، وعلى القدرة الشرائية للمواطن من ناحية أخرى. إذ ارتفعت كلفة الاقتراض للمواطنين وأصحاب المؤسسات الصغرى والمتوسطة على حدّ السواء. فتراجع الاستثمار وتقلص الاستهلاك وتراجع الإنتاج المحلي من السلع والبضائع، وتعمقت أزمة البطالة في البلاد، إذ وصلت وفق الأرقام الرسمية إلى 16.8% خلال شهر جوان 2024. وهو ما يفسّر تحقيق نسب نمو ضعيفة جدا خلال سنة 2023 بحوالي 0.4 % و1.3 % سنة 2024.
غير أنّ تراجع نسب التضخم المعلنة من طرف المعهد الوطني للإحصاء، لا تجد لها أيّ صدى واقعي، إذ تواصل الأسعار ارتفاعها الجنوني لكل السلع والموارد الاستهلاكية خاصة. كما يتواصل تدهور القدرة الشرائية للمواطنين أمام هذا الارتفاع الكبير للأسعار وجمود الأجور. إذ أنّ السلطة الحالية لا تؤمن بالمفاوضات الاجتماعية، وبالتالي فلا وجود لمفاوضات بين ممثلي العمال والأعراف منذ 25 جويلية 2021 إلى اليوم. وحتى الزيادات المعلنة من طرف واحد، ودون مفاوضات مباشرة مع العمال سنة 2024 حول الأجر الأدنى المضمون، فهي زيادات ذات طابع شعبوي أكثر منها زيادات فعلية تعالج تدهور القدرة الشرائية والأزمة الاجتماعية الخانقة التي تعيشها البلاد على كل المستويات. بل يمكن القول إن اقتصاد البلاد يعيش فعليا حالة انكماش حقيقية، خاصة بعد تطبيق قانون الشيكات الجديد بداية شهر فيفري2025، إذ تراجعت نسبة الدفع بالشيك إلى حدود 94%، وارتفعت بذلك السيولة النقدية لتصل إلى مستويات عير مسبوقة إلى حدود 23.8 مليار دينار يوم 25 مارس 2025، وهو ما سيساهم على المدى القريب في ارتفاع مستوى التضخم من جديد. ممّا يعني أنّ المعالجة النقدية لهذا التضخم من طرف البنك المركزي غير مجدية. وقد أثبتت السنوات الأخيرة فشل هذه المقاربة التي لا تأخذ المؤشرات والمعطيات الاقتصادية والاجتماعية الأخرى في الحسبان، والتي تؤثر على مستويات التضخم رغم الترفيع المتواصل في سعر الفائدة المديرية من طرف البنك المركزي.
لكن السؤال المحوري في هذا المجال يبقى مرتبطا بمدى نجاعة هذا التخفيض في سعر الفائدة المديرية على الاستثمار وكلفته وعلى الدفع بالاقتصاد نحو آفاق جديدة تبعده على شبح الانكماش الذي يعيشه أصلا.
إنّ التخفيض بـ 50 نقطة في سعر الفائدة المديرية لا يمكن أن يكون له تأثير كبير إن لم نقل إنه عديم الجدوى بالنسبة للاستثمارات المباشرة للشركات الصغرى والمتوسطة. ذلك أنّ كلفة الاقتراض ستراوح مكانها بمعدل نسبة فائدة بحوالي 10.5 إلى 11%، وهو ما يمثل عبئا كبيرا على هذه المؤسسات. أما بالنسبة للأفراد، فالمسالة أعمق باعتبار أن قروضا بنسب فائدة تصل إلى 12% لشراء مسكن أو سيارة أو قرض استلاك قصير الأمد، كلفتها كبيرة على الأجراء بكل أصنافهم ومستويات أجورهم. ولعل ركود قطاع البناء والعقارات وتراجع مبيعات السيارات الجديدة خير دليل على ما نقول.
في نفس بيان اجتماع مجلس إدارة البنك المركزي بتاريخ 26 مارس 2025، أعلن البنك المركزي أن احتياطات تونس من العملة الصعبة بتاريخ 25 مارس 2025 بلغت 22.9 مليار دينار، أي ما يساوي 100 يوم توريد، وهو أقل بكثير من قيمة الرصيد نهاية ديسمبر 2024 والمقدر بحوالي 27.3 مليار دينار أي 121 يوم توريد. وهو ما يؤكد تراجعا كبيرا لاحتياطات البلاد من العملة الصعبة في أقل من ثلاثة أشهر بحوالي 21 يوم توريد أي 4.4 مليار دينار. وهو ما يمثل تراجعا بحوالي 16%. مع العلم أنّ البنك المركزي التونسي، وفي احتساب لمدخرات تونس من العملة الصعبة، يدمج 750 مليون دولار التي تمّ إيداعها لدى البنك الإفريقي للتوريد والتصدير لضمان القرض الذي تسلمته تونس من هذا البنك بتاريخ 31 ديسمبر 2024، إذ يعتبره البنك المركزي كوديعة. غير أن الأمر غير ذلك. إذ أنّ الوديعة يمكن استعمالها متى طلب البنك المركزي ذلك. أمّا في حالتنا هذه فإن البنك الإفريقي للتوريد والتصدير لا يمكنه تسليم ما سميت وديعة إلا بعد قيام الدولة التونسية بخلاص كامل القرض وفوائده التي تساوي 5.26 % على خمس سنوات. وأمام هذه المعطيات، فإن الرقم الصحيح لاحتياطي تونس من العملة الصعبة يكون بحوالي 20.550 مليار دينار أي ما يعادل 89 يوم توريد. ويذلك نكون قد نزلنا تحت 90 يوم المرجعية لكل دول العالم. ممّا يعني أنّ أوضاعنا الاقتصادية ليس كما يسوّق لها البعض. بل نحن نعيش أزمة اقتصادية هيكلية معقدة ومتداخلة. ولا يمكن لإجراءات أو أرقام غير دقيقة أن تغيّر من مجريات الأوضاع المعيشية التي نتعايش معها منذ سنوات. ولقد عمقتها المقاربات الشعبوية والإجراءات العشوائية من سلطة الأمر الواقع، إضافة إلى الظروف المناخية وتواصل الجفاف وتراجع أداء القطاعات المنتجة من فلاحة وصناعة، بسبب العديد من القوانين والإجراءات المسقطة، والتي لم تزد الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية إلا احتقانا وتأزما، مثل قانون الشيكات ومشروع التنقيحات الأحادية لمجلة الشغل، والإجراءات الخاطئة والغير مدروسة المتعلقة بمقاومة الفساد، والتي تحوّلت إلى مجرد طرق ابتزاز لتمويل خزينة الدولة المفلسة.
بذلك، وانطلاقا ممّا سبق، يمكن القول إن ما أقره البنك المركزي التونسي من إجراءات أخيرة لا يمكن اعتبارها إلا إجراءات ترقيعية هدفها تلميع صور للواقع الاقتصادي والاجتماعي، أكثر منها معالجة حقيقية للأوضاع. ذلك أن الحلول الترقيعية لا يمكنها معالجة الإشكالات الهيكلية التي يعاني منها الاقتصاد لتونسي، في ظل أزمات إقليمية وعالمية حادة، مع تقوقع السلطة في تونس عن نفسها وعزلتها المتواصلة إقليميا ودوليا.
(*) متخصص في التنمية والتصرف في الموارد