الرئيسية / صوت الوطن / الفوسفوجيبس… “الهمّ اللي تعاني فيه قابس”
الفوسفوجيبس… “الهمّ اللي تعاني فيه قابس”

الفوسفوجيبس… “الهمّ اللي تعاني فيه قابس”

بقلم جابر سليمان

“هاو الأسيد… هاو الهمّ اللي تعاني فيه قابس… علاه بحر قابس؟ والله لا تنجّم توصفها بحتّى حاجة كان حسبي الله ونعم الوكيل في أيّ مندوب في أيّ مسؤول في أيّ إنسان تسبّب في هذا… علاه قابس؟ ما فهمتش أني علاه شنو اللي بينكم وبينها قابس؟…”
حقا السؤال المحيّر الذي لا يفارق الأذهان…

البحر الميّت في قلب البحر المتوسط

منذ أيام تمّ تداول مقطع فيديو يوثّق هذه الكلمات، هذا السؤال الذي طرح بنبرة متألمة، فيديو لواقع مرعب في مدخل مدينة ڨابس، في الميناء البحري، قد يكون التعبير عن المشهد سرياليا بعض الشيء ولكن هل لك أن رأيت يوما بحرا يحتضر؟ نعم في ڨابس البحر يحتضر قولا وواقعا، الشواطئ لا تراها زرقاء، لا يزورها المصطافون للاستجمام، وحتى إن رأيت بعض الناس واقفين عندها فهم فقط يزورونها أحيانا لرثائها أو لمعاينة إلى أيّ مدى وصل الضرر بها، الميناء هو الآخر يلفظ أنفاسه الأخيرة، أو بالأحرى يحبس أنفاسه من رائحة السموم التي تطفو فوق سطحه التي تسرّبت إليه أو بشكل أكثر وضوحا سُرّبت إليه قصدا.
في قلب البحر الأبيض المتوسط، حيث تلاقت الحضارات وتشكل تاريخ البشرية، أين تنبض الشواطئ بالثقافة وبالبيئة الفريدة، يموت في إحدى بحارها بحر ڨابس أحد أهم الواجهات البحرية لتونس التي تمتدّ على طول 80 كيلومتر، أمام صمت رسمي غريب ومريب، بل وحتى حين تتحدث السلطة والمسؤولون، فهم لا يساهمون سوى في تعميق الأزمة، بدلا من إنقاذ البحر الذي يحتضر بين أيديهم من جرّاء التلوث ومن جراء الفوسفوجيبس (phosphogypse) الخطير.

قرارات شعبوية تعمّق الأزمة

وفي خضمّ هذا الاختناق الذي تعيشه ڨابس منذ سنوات، جاء يوم 5 مارس 2025 ليضيف جرحا آخر، ببلاغ صادر عن المجلس الوزاري المضيق للحكومة التونسية، المنعقد في القصبة. قرار لم يحمل بصيص أمل، ولا حتى وعودا زائفة بالحل، بل جاء ليخرج مادة الفوسفوجيبس من قائمة المواد الخطرة، ويقرّ إنشاء وحدة لإنتاج الأمونيا في المنطقة الصناعية بڨابس. خطوة وصفها كثيرون بأنها ليست سوى استمرارٍ لسياسة الهروب إلى الأمام، إمعانا في ترسيخ نموذج تنموي فاشل، لا ينتج سوى الكوارث، ويواصل ارتكاب جرائمه البيئية بلا رادع. سرعان ما أثار هذا القرار موجة غضب واسعة، لم تلبث أن تحوّلت إلى جدل محتدم بين أبناء الجهة، وخاصة منهم حملة “Stop Pollution” التي سارعت إلى التنديد بالقرار، مطالبة الحكومة التونسية، ووزارة الصناعة والطاقة والمناجم، بالتراجع عنه والتوجه نحو حلول جدية تضع الإنسان والبيئة في قلب أيّ مخطط تنموي. الحملة لم تكتف بالبيان، بل دعت المواطنين والمنظمات الوطنية وكافة القوى الحية إلى التحرك والتعبئة بجميع الأشكال النضالية الممكنة، دفاعا عن الجهة وعن حقهم المشروع في بيئة نظيفة، والتصدي لهذه المشاريع المدمرة.
على الضفة الأخرى، انطلقت تبريرات السلطة حول إمكانية تثمين مادة الفوسفوجيبس، واستغلالها في تطوير صناعة الإسمنت وتعزيز البنية التحتية، كما أكدت وزارة الصناعة والطاقة والمناجم أن مشروع إنتاج الأمونيا الخضراء لا يقام لأغراض صناعية بحتة، بل هو مجرد تجربة، محاولة لاكتساب المعرفة والخبرة في تصنيع مادة يعتمد المجمع الكيميائي حاليا على استيرادها. لكن مهما علت أصوات التبرير، تظل الحقيقة أثقل من أن تخفى، ڨابس لم تعد مجرد مدينة ساحلية، بل تحولت إلى مصب للنفايات الكيميائية. ورغم كل هذا، لا تزال الدولة تفكر في تثمين الفوسفوجيبس؟ بينما تغضّ الطرف عن العنصر البشري، عن الأهالي، عن التوازن الإيكولوجي المنهار، وكأن الحياة هناك يمكن أن تُختزل في معادلات إنتاج ومصالح اقتصادية بلا اعتبار للإنسان، للبحر الذي يختنق وسط هذا الخراب.

الفوسفوجيبس.. حقيقة الكنز المزعوم

نحن التونسيون، لطالما كان الفسفاط كنزنا، من أكثر الثروات القريبة إلى قلوبنا، المعدن الذي استخرج من مناجمنا المتربعة في قلب الجنوب التونسي وخاصة في قفصة في الحوض المنجمي ليصبح الفسفاط جزءا من هويتنا رمزا للثروة والنماء ومفخرة لتونس سمح لها بأن تدخل سوق التنافس مع دول أخرى مصنعة للفسفاط، بل أكثر من ذلك كان يرتبط في أذهاننا بالأمل في التنمية والتطور. ولكن، منذ سنوات، أصبح اسم الفسفاط مقترنا باسم آخر لا يحمل لنا نفس المحبة أو الارتباط، بل أصبح مصدرا للقلق والخوف، الفوسفوجيبس، هذا الاسم الذي بدأ يتراءى لنا بصورة أخرى، مغطاة بالخوف والهم، كما قال صاحب الفيديو. وعلى الرغم من أنه يشترك مع الفسفاط في أصله إلا أن الفوسفوجيبس لا يشترك معه في الحلم، بل يحمل في طياته الموت. إن هذه المادة هي في الأصل منتج ثانوي لصناعة الأسمدة الفوسفاطية، حيث يتمّ إنتاجها أثناء معالجة صخور الفوسفاط بحمّض الكبريتيك لاستخراج حمض الفوسفوريك الذي يشكل المادة الأساسية في صناعة الأسمدة ورغم ارتباطه بالفسفاط إلا أنّ الفوسفوجيبس يحمل في تركيبته الكيميائية العديد من العناصر الضارة التي تهدد البيئة والإنسان. إذ يتكوّن الفوسفوجيبس بشكل رئيسي من كبريتات الكالسيوم ثنائية الهيدرات (CaSO₄·2H₂O)، يحتوي أيضا على مكونات خطيرة مثل الراديوم-226 وهو عنصر مشع، كذلك بعض المعادن الثقيلة مثل الرصاص والكادميوم والزرنيخ التي تؤثر سلبا على التربة والمياه وأيضا الفلوريدات والبقايا الحمضية.
كل هذه المكونات لا تجعل من الفوسفوجيبس مجرد مادة سامة فقط بل هو قنبلة موقوتة تهدد كل شيء حيّ حيث هذه النفايات الفوسفاطية ليست مجرد تلوث مرئي بل هي خطر متسلل فعناصره السامة مثل الراديوم والمعادن الثقيلة، تجعله مادة محظورة في معظم أنحاء العالم، وتصنف ضمن أكثر المواد خطورة نظرا لما أثبتته الدراسات من مخلفاته الخطيرة على الإنسان كالأمراض الجلدية والسرطان ومشاكل التنفس ويمكن أن يؤدّي إلى العقم.
أمام كل هذا، تخطو الدولة نحو اعتبار هذه المادة كنزا يمكن استغلاله وإعادة إنتاجه ولكن هذا في الواقع لا يساهم في الحد من تأثيراته السامة بل قد يؤدي إلى زيادة التلوث وتعميق المشاكل. إن الخطورة لا تكمن فقط في المادة نفسها، بل في غياب الحلول الجذرية لمواجهة هذه الأزمة البيئية المستمرة منذ سنوات. فقرار السماح بإعادة إنتاج الفوسفوجيبس يطرح العديد من الأسئلة حول مدى جدية الحكومة في معالجة الموضوع. ولكن في الحقيقة هذا القرار لا يعكس فقط مجرد استهانة بصحة المواطنين وسلامة البيئة في الجهة، هو حصيلة لسياسات استغلالية تسعى فقط إلى خدمة مصالح الشركات الكبرى التي تحتمي بالدولة لتمرير قوانين وقرارات دون أن تعير اهتماما للآثار السلبية المدمّرة. الفوسفوجيبس ليس مجرد نفايات صناعية يمكن استثمارها بل هي سمّ ذو تأثيرات بعيدة المدى على الأجيال الحالية والقادمة، حقيقة لا غبار عليها وحتى قرار إنشاء وحدة لإنتاج الأمونيا الخضراء لا يعدو كونه عملية تجميلية لمواصلة نفس السياسات التي تديرها الشركات متعددة الجنسيات من أجل تحقيق أرباح على حساب الصحة العامة، الأمونيا الخضراء، التي يروّج لها على أنها الحل المستدام، هي في الأصل أداة لزيادة استنزاف الموارد الطبيعية والمائية ولن تحل أزمة التلوث في قابس، وهو ما يجعل السلطة الحالية الشعبوية في تواطئ واضح في هذا المخطط المدمّر الذي يصبّ في مصلحة رأس المال على حساب حياة الناس.

تثمين الفوسفوجيبس مقابل النيل من سمعة الفسفاط التونسي

إضافة إلى المعاناة الصحية والموت الذي أصبح مسألة وقت فقط بالنسبة إلى كل أهالي ڨابس من جراء التعرض المستمر لهذه المواد الكيميائية وخاصة منها الفسفوجيبس، فإن قرار مثل هذا ومثلما صرّح به المختص حسين الرحيلي في إحدى الحوارات “القرارات الشعبوية اللي ماعندهاش أساس علمي” قد لا يعكس فقط استهتارا بصحة المواطنين والبيئة، بل يعدّ أيضا خرقا صريحا للاتفاقيات الدولية التي وقّعت عليها تونس في إطار الشروط الدولية للتعامل مع المواد الكيميائية وعلى رأسها اتفاقية بازل التي تحدد كيفية التعامل مع المواد الخطرة منها الفوسفوجيبس ومادة الفسفاط وخرق لمثل هذه الاتفاقيات قد ينال بشكل واضح من جودة وسمعة الفسفاط التونسي الذي تنتج منه تونس تقريبا سنويا 3 مليون طن وتشكل إيراداته جزءا مهمّا من الميزانية العامة للدولة، هذا القرار ليس فقط تهديدا للوضع الصحي في ڨابس الذي هو مستمرّ من سنوات، بل هو أيضا ضرب للثروة الوطنية التي يعتمد عليها الاقتصاد التونسي بشكل كبير. ففي الوقت الذي من المفترض أن يكون فيه الفسفاط مصدرا للثروة والازدهار، نجد السياسات والقرارات الشعبوية تضعه في خانة المجهول، مهددة بكارثة بيئية وصحية في المستوى الأول ومهددة لتثمين الفسفاط في المستوى الثاني.

قرارات شعبوية تخفي حسابات اقتصادية

لم تكن هذه المرة الأولى التي تطرح فيها قضية التلوث في ڨابس ولن تكون الأخيرة طالما أنّ الدولة تواصل نهجها في التسويف والوعود الزائفة. لسنوات، ظلت الأزمة البيئية والصحية في الجهة قائمة دون حلول على الرغم من تغيّر الحكومات وتعاقب الأنظمة، ورغم صرخات المواطنين والتحركات الاحتجاجية، التي وصلت إلى حدّ إيقاف المجمع الكيميائي نفسه ولكن، بدل مواجهة الكارثة، تواصل السلطة الهروب إلى الأمام، متجاهلة عمق الأزمة لصالح حسابات اقتصادية تخدم الشركات المستفيدة من هذا الخراب.
إنّ قرار إخراج الفوسفوجيبس من قائمة المواد الخطرة ليس إلا ورقة أخرى في لعبة المصالح، حيث تحاول الدولة وشركاتها الناشطة في قطاع الفسفاط التملص من مسؤولياتها المباشرة تجاه الجهة. إذ كيف يمكن لمن تسبّب في التلوث أن يدّعي البحث عن حلول؟ حتى في حالة تثمين الفوسفوجيبس، فإن الرابح الوحيد سيكون الشركات التي ستستغل المادة، فيما سيظل سكان ڨابس غارقين في التلوث لا فقط بل سيظل يحاصرهم السرطان والتشوهات الخلقية، وتحيط بهم مياه ملوثة التي تبيد الواحات والشواطئ.
في شط السلام، في بوشمة، في كل المناطق المحاذية للمجمع الكيميائي، تكاد لا تجد بيتا إلا وفيه ضحية لهذا التلوث وحتى أنه في حوار مرة مع أحد الأصدقاء من المنطقة قال بسخرية “حتى الجراثيم لم تعد تجد في جسدي بيئة مناسبة للعيش جراء تشبّع دمي بالمواد الكيميائية” ورغم هذا المشهد القاتم، تصرّ الدولة من جديد على تجاهل الحلول الحقيقية، لأنها ببساطة لا تملك الإرادة لمواجهة اللوبيات المموّلة من الاتحاد الأوروبي والخارج، لا تتجه إلى تفكيك المجمعات الكيميائية التي تستثمر في التلوث، ولا تبحث عن حلول تحمي صحة الناس هي فقط تشرّع وتصوغ القرار لتحمي مصالح مالية تتجاوز الحدود الوطنية، وأجندات اقتصادية تجعل من ڨابس ، حقل تجارب للملوثات الصناعية.

إلى الأعلى
×