بقلم علي البعزاوي
الوضع في تونس وسبل تجاوز الأزمة (الجزء 1)
تحت نفس هذا العنوان ورد في جريدة “صوت الشعب” عدد 69 بتاريخ 20 مارس 2025 نص تحليلي حول الأزمة التي تعيشها البلاد، وهي أزمة عميقة ومركبة، جزء منها يتعلق بفشل السلطة في إيجاد الحلول للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية وانخراطها في مسار جديد من التضييق الممنهج على الحريات وعلى حق النشاط وتوظيفها للأمن والقضاء وخنقها لوسائل الإعلام… والجزء الثاني يتعلق بالمشهد السياسي الذي يعيش حالة من التراجع والانكماش إضافة إلى حالة التشتت والتشظي التي تشهدها القوى اليسارية كجزء من هذا المشهد ممّا يجعلها غير قادرة على لعب الدور المنوط بعهدتها خاصة بعد عجز المنظومات الرجعية المختلفة التي حكمت تونس قبل الثورة وبعدها عن إيجاد الحلول والاستجابة لانتظارات الشعب التونسي في الشغل والحرية والكرامة الوطنية.
وقد تمّ التأكيد على أن الصراعات التي تشهدها القوى اليسارية والانقسامات الحاصلة إزاء تشخيص الواقع والموقف الواجب اتخاذه إزاء الحكم الشعبوي هي مسألة صحية حيث جرى فرز سيتمخض عنه يسار جديد أكثر راديكالية وقابلية للحياة والقدرة على الفعل في الواقع. وأنّ الأحزاب اليسارية والفعاليات والشخصيات “مطالبة بخوض نقاشات جدية لتشخيص الواقع الجديد المتسم بشمولية وعمق الأزمة وتحديد أسبابها الحقيقية وسبل تجاوزها، ثم بلورة الخطوط الأساسية للبرنامج الأدنى البديل الممكن وضبط خطة ملموسة وواقعية لتحقيقه وتحديد الفئات الاجتماعية المعنية بعملية التغيير والقوى السياسية والأهلية والفعاليات التي بالإمكان التقاطع معها على طريق إنجاز هذا المشروع البديل”.
لكن هناك من جهة أخرى صعوبات وعراقيل تواجه الأحزاب اليسارية وتجعل مهماتها عسيرة إذا لم تستطع معالجتها والتخلص منها.
الأحزاب اليسارية : الصعوبات والعوائق
من أسباب التعطل الذي تعيشه القوى اليسارية في هذه المرحلة ولم يقع التطرق لها في النص السابق هو حالة التقوقع والانعزالية التي تعيشها هذه القوى. يبدو أنّ فشل تجربة الجبهة الشعبية مازال يلقي بظلاله على المشهد اليساري ويحول دون العودة إلى العمل المشترك أو على الأقل يجعل هذه العودة صعبة في الوقت الحاضر. هكذا يبدو لأول وهلة. وهناك على الأرجح تخوفات من فشل جديد محتمل يمكن أن يسد الباب أمام إمكانية التشبيك والتنسيق لفترة طويلة.
إن تركيز الأحزاب اليسارية ينصبّ في هذه المرحلة على إدارة اليومي ومعالجة القضايا الداخلية ومحاولة التعاطي مع ما يحصل من تطوّرات وأحداث وأزمات، الداخلية منها والخارجية. وهي تكافح من أجل الصمود والبقاء وتتهيأ للنهوض من جديد والتعاطي إيجابيا مع الواقع في مختلف تجلياته. لكن تأثيرها يبقى محدودا خاصة في ظل حالة الجزر وتراجع المعنويات وضعف الاستعداد للنضال المنظم بعد مسار طويل من تبخيس الأحزاب وتشويهها بطرق ممنهجة حتى لا تستفيد من تواصل الأزمة واستفحالها وتلعب دور المعبّأ والمنظم للفئات المتضررة الباحثة عن سبل الخلاص. لذا تجد هذه الأحزاب – بتفاوت من حزب إلى آخر طبعا – صعوبات في الاستقطاب والتعبئة والتنظيم ولو أنّ هذه الظاهرة عامة وتشمل كل التنظيمات وليست حكرا على الأحزاب اليسارية. لكن وضع هذه الأخيرة مختلف فهي مبوّأة منطقيا باعتبارها لم تخض تجربة في الحكم للعب دور المنقذ الذي يحمل بديلا يستجيب نظريا لانتظارات الأغلبية الشعبية. كما تجد الأحزاب اليسارية صعوبات في كسب طيف واسع من المجتمع المدني إلى صفها كشريك فاعل ومؤثر رغم بعض التجارب التي لم ترقى إلى الحد الأدنى المطلوب.
إنّ السؤال الذي يفرض نفسه في هذه الحالة يتمثل في الدور الحقيقي للأحزاب اليسارية، هل هو مجرد إدارة للأزمات ومواكبة المستجدات المختلفة والتفاعل معها أم أنها مطالبة بالإعداد والاستعداد الواعي للوصول إلى السلطة مع ما يتطلبه ذلك من حضور ميداني وقدرة فائقة على الدعاية الواسعة وعلى تنظيم الطاقات المستعدة للنضال والانخراط في عملية التغيير وعلى كسب المنظمات والجمعيات والفعاليات، أي توسيع جبهة الأصدقاء. الجواب واضح ولا يتطلب الكثير من التفكير. والهدف الأساسي للأحزاب هو التخطيط للوصول إلى السلطة وفرض الخيارات البديلة، الشرط الضروري لمعالجة الأزمة. أمّا الاكتفاء بمواكبة الأحداث وإدارة اليومي وملازمة الانعزالية والحفاظ على “الشقف” فمن شأن ذلك أن يهمّش هذه الأحزاب ويقود إلى تلاشيها وانحلالها.
المجتمع المدني بين مطرقة التضييق وسندان الرفض للأحزاب
إنّ تجربة المجتمع المدني التونسي ونعني المنظمات والجمعيات التي تضخمت أعدادها بعد 2011 تحمل منذ انطلاقاتها الأولى بعض الخصائص التي تميزها والمتمثلة في تجنب التشبيك مع الأحزاب سواء بدافع الخوف من الاتهام بالتسيّس والانتماء وهي تهمة يعاقب عليها القانون منذ العهد البورقيبي، والدكتاتوريات التي مرّت على حكم البلاد ساهمت في تكريس هذا الواقع الذي لم ينج منه إلا النزر القليل من المنظمات والجمعيات العريقة التي عرفت بمواقفها الراديكالية الواضحة تجاه الدكتاتورية والتي مارستها بوضوح بالتنسيق مع أطراف سياسية وجلبت لها مزيد التضييق ومحاولات التصفية، أو بدافع الخوف من التوظيف الحزبي للمجتمع المدني وتسخيره لخدمة “الأجندات الحزبية”. إضافة طبعا إلى ما ترسّب في أذهان المواطنين عبر التاريخ بأن السياسة “بوليتيك” وفن “تدبير الراس”. وبعض التجارب السياسية وما رافقها من وعود انتخابية كاذبة وبرامج تنموية بقيت فيما بعد حبرا على ورق بعد أن فاز رافعوها بالانتخابات (سليم الرياحي، النهضة، الباجي قايد السبسي مثالا) ساهمت بدورها في إضفاء العديد من الشكوك حول صدقية وأهمية الأحزاب.
لقد تشكلت الجمعيات – خاصة بعد 2011 – لتتخصص في ملفات ذات أهداف حقوقية أو بيئية أو متعلقة بالانتخابات بمعناها الديمقراطي البورجوازي ومختصة أيضا في العمل الخيري لإسناد المهمشين وذوي الاحتياجات الخصوصية الخ… هذه الجمعيات تتلقى في أغلبها تمويلات خارجية وتقع متابعتها ومحاسبتها على قاعدة التزامها بالمهمات والأهداف الواردة في قوانينها الأساسية والتي لا يمكنها الخروج عنها. وهي ليست معنية بالتخطيط للوصول إلى السلطة وليست لها مشاريع حكم بل مجرّد لوائح مطلبية تتوجه بها للجمهور المعني لتأطيره وكسب تأييده وللحكومات حتى تساعدها على تحقيق أهدافها. ومن هذه الزاوية يضعها العمل المشترك مع الأحزاب في منطقة رمادية يمكن أن تفتح عليها أبواب التضييق والمنع وربما الحل خاصة بالنظر للتطورات الجديدة والحديث عن إمكانية مراجعة قانون الجمعيات في اتجاه مزيد التضييق. لكن المجتمع المدني حتى يلعب دوره كاملا ويساهم في تأطير وتعبئة المواطنين بحاجة ماسة إلى حرية النشاط والإعلام والدعاية وتنظيم الاحتجاجات السلمية. هذه الآليات لا تتوفر في ظل الأنظمة الدكتاتورية، لذا هو مطالب بالنضال جنبا إلى جنب مع الأحزاب والاستفادة من عناصر قوتها لفرض واقع جديد ملائم يمكن أن يسمح بتوسيع مجالات النشاط الحر.
إن الجمعيات والمنظمات التقدمية المناضلة من أجل الديمقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية لها مصلحة في النضال المشترك مع الأحزاب التي تشبهها وتتبنى نفس القيم والأهداف التي ترفعها. فالأحزاب لها جمهورها الذي يحمل مشروعا سياسيا متكاملا يتضمن الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي… والمجتمع المدني له أيضا جمهوره الذي يتبنى قيم الحرية والمساواة والمواطنة ومستعد للنضال من أجل بيئة سليمة ومن أجل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للفئات المهمشة. والتشبيك بين الطرفين من شأنه أن يتيح توسيع إمكانيات التأثير والاستقطاب والقدرة على التعبئة وهي الشروط الضرورية التي تساعد على الانتقال من الوضع القديم إلى وضع جديد أكثر ملاءمة. خارج هذا الخيار يصبح المجتمع المدني مثله مثل البيروقراطية النقابية عامل استقرار وإسناد لأنظمة الحكم البورجوازية المكرسة للاستغلال والتفقير والتهميش والتي تسمح في ظل موازين قوى معينة وفي حالات النهوض الشعبي ببعض الفتات وتقدم التنازلات الجزئية والشكلية للحفاظ على سلطتها دون أن ترقى هذه التنازلات إلى مستوى الحلول الجذرية التي تخدم مصالح الأغلبية الشعبية.
خاتمة
إن الأحزاب الديمقراطية والتقدمية الواعية بأهمية وضرورة العمل المشترك في ظل الأزمة الحالية مطالبة بخوض نقاشات مع المنظمات والجمعيات حتى تصبح طرفا أساسيا في هذا المشروع ليس لتوظيفها كما يعتقد البعض بل من أجل فرض تغييرات جوهرية تضع حدا للاستبداد والتبعية والاستغلال والقهر والتجويع والتهميش والاستلاب وتفتح آفاقا أرحب من أجل التقدم والرقي. إن تحقيق هذه الأهداف لا يعتبر انتصارا للأحزاب فقط بل للمجتمع المدني أيضا الذي ساهم من مواقع أمامية في إيجاد أرضية جديدة أكثر ملاءمة للعمل المدني الحقيقي الذي سيعمل على الارتقاء بالإنسان إلى درجة المواطنة الكاملة التي تسمح له بتفتيق طاقاته ورسم معالم الدولة الجديدة التي يطيب فيها العيش للجميع بقطع النظر عن اللون أو العرق أو الجنس أو الدين أو الأفكار.
وعلى مناضلي الأحزاب التقدمية وممثلي المجتمع المدني الديمقراطي المبادرة دون تردد بخوض النقاشات والبحث عن إمكانيات وسبل التشبيك والتوافق على أرضية عمل وعلى برنامج مشترك قادر على الخروج بالبلاد من الأزمة قبل أن تصل إلى مراحل لا يمكن التنبؤ بتداعياتها. إن الطرفان المدني والحزبي يكملان بعضهما البعض وقادران معا على تغيير موازين القوى المختلة حاليا لصالح الرجعية.