أو كيف تشكلت الأرضية الكفاحية للحركة النقابية التونسية
بقلم مرتضى العبيدي
اختار الرفيق الناصر بن رمضان موعد 26 جانفي الخالد ليكون تاريخا لصدور باكورة أعماله في شكل كتاب عنوانه كما تبيّنه الصورة المرافقة، الصادر عن “دار أديب للنشر” (سوسة /تونس) في جانفي 2025.
يقع الكتاب في 193 صفحة من الحجم المتوسط، أخذت منها المقدمة التي خطّها جيلاني الهمامي المناضل النقابي والكاتب العام الأسبق لجامعة البريد (تسعينات القرن الماضي) بعض الصفحات في حين توزعت البقية على توطئة وثلاث عشرة فصلا مختلفة الحجم والموضوع.
وإذا اختار المؤلف الانطلاق مما هو أممي بتخصيصه الفصل الأوّل لـ “دور الطبقة العاملة في التاريخ”، فإنه كمن أراد الإفصاح عن خلفيته الفكرية ومنهجه المادي الجدلي الذي ينوي تحكيمه في قراءته لما اختاره من محطّات من الحركة النقابية التونسية والتي زخرت بها بقية فصول الكتاب. فالانطلاق من هذا المحور بالذات جاء ليؤكد تشبث الكاتب بهويته الماركسية اللينينية التي تبوّأ الطبقة العاملة مكانة خاصة في التاريخ باعتبارها طبقة الحاضر والمستقبل والتي تُلقى على كاهلها مهمتين مترابطتين: تحرير نفسها من عبودية رأس المال، وفي ذات الوقت تحرير جموع الكادحين والبلاد من ربقة الهيمنة الامبريالية، في زمن تتعالى فيه الأصوات المبشرة بنهاية الطبقة العاملة وانتفاء دورها هذا وإسناده لفئات أو طبقات أخرى (الشباب، النساء، المهمشين…) ضمن سردية النهايات الكاذبة كنهاية التاريخ ونهاية الإيديولوجيا وغيرهما.
لكن هل يعني ذلك أننا إزاء كتاب يروي تاريخ الاتحاد أو بعضا منه؟ كلا، فالكاتب أصرّ على توضيح أن مؤلفه هذا لا يندرج ضمن كتب التاريخ التي حظيت بها الحركة النقابية في تونس وبالأخص تاريخ الاتحاد العام التونسي للشغل الذي جعلته ظروف نشأته وعوامل عديدة أخرى يفلت من مصير التجارب السابقة التي قُصفت في المهد: تجربة محمد علي الحامي في العشرينات وتجربة بلقاسم القناوي في العشرية الموالية، حيث ينبه منذ التوطئة: “ليس في وارد اهتمام هذا الكتاب تقديم سردية تاريخية حول نشأة وتطور الحركة النقابية في تونس، ففي ذلك كتب المؤرخون والباحثون الأكاديميون وقدّموا إسهامات قيمة لا يمكن التغاضي عن قيمتها العلمية وثرائها الخصب…”
وحتى وإن أردنا تنزيل هذه الفصول ضمن مقاربة تاريخية معيّنة، فلن تكون إلا ضمن ما يطلق عليه المؤرخون “تاريخ الزمن الراهن”، لأن صاحبها عاش وقائعها لا كمتابع خارجي للأحداث والوقائع، بل كفاعل فيها بهذه الدرجة أو تلك. فبقدر ما هي جزء من تاريخ جمعي لجيل من النقابيين التحقوا بالاتحاد وتحملوا فيه المسؤولية النقابية في زمن ما، فهي كذلك جزء من تاريخ شخصي لكل منهم عاشها بجوارحه وبكل ما أوتي من جهد وعزيمة وإصرار بحثا عن الأفضل.
إذن في ما تكمن فرادة هذا الكتاب وطرافته التي ينشدها صاحبه؟
في القضايا التي يطرحها من ناحية، وفي زاوية النظر إليها من ناحية أخرى. فتاريخ الاتحاد هو كمّ النضالات التي خاضها مناضلوه على مرّ السنين، وهو جملة الصراعات التي خاضها في مواجهة هذا الطرف أو ذاك، لكنه أيضا صراع لا ينتهي بين الأفكار التي لم تخلُ منها الساحة النقابية والتي كانت تدور حول ما يُعرف اليوم بالأرضية النقابية ثلاثية الأضلع: الاستقلالية والديمقراطية والنضالية والتي رافقت مسيرة الاتحاد منذ التأسيس، أو حتى قبله باعتبارها كانت حاضرة في التجارب النقابية التونسية الأولى.
يقول الطاهر الهمامي في أحد فصول كتابه “دفاعا عن الديمقراطية النقابية” المنشور سنة 1985 بأن “الحركة النقابية التونسية نشأت معارضة”، ويشرح ذلك كما يلي: “كان الدافع إلى تأسيس أولى تنظيماتها في العشرينات وإحيائها في الثلاثينات، ثم ثانية تنظيماتها في الأربعينات هو الاستقلال عن النقابة الاستعمارية العنصرية وإثبات الذاتية الوطنية وبالتالي الانخراط في مجرى النضال ضد الاستعمار.
ويضيف: “وإذا كانت المعارضات اليمينية النقابية غداة 1956 قد تميّزت بالمسعى الانشقاقي عن المركزية الأم وتكوين التنظيم الموازي (بدفع من الحزب الحاكم أو من بعض الكتل المتصارعة ضمنه)، فإن المعارضة اليسارية ظلت على العموم متشبثة بها كمنظمة ذات شرعية تاريخية بالرغم من طبيعة قيادتها البيروقراطية”.
لذلك يمكن القول إن مجمل فصول الكتاب هي محاولات لتفكيك شعارات هذه الأرضية، ووضع كل منها في سياقات بروزها والتوسّل بها لفهم ما يجري اليوم من صراعات في الساحة النقابية.
فإذا كانت الاستقلالية تعني في البداية الاستقلالية عن النقابات الاستعمارية، فإنها أصبحت تعني بعد 1956 وخاصة بعد مؤتمر المصير للحزب الدستوري (بنزرت 1964) الاستقلالية عن هذا الحزب بالذات الذي عمل على وضع يده على جميع ما كان يسمّى بـ”المنظمات القومية” التي جعل منها توابع له. ويمكن إدراج جميع المعارك النقابية لعشرية السبعينات تحت هذا الهدف، ومن خلاله اكتشفت أفواج النقابيين الوافدة حديثا على الاتحاد الترابط بين هذا الشعار وشعار الديمقراطية. فلا يمكن فرض الاستقلالية دون ديمقراطية داخلية التى ستصبح مطلبا رئيسيا منذ عشرية الثمانينات.
ولكن لم يكن فرض هذه الشعارات بالأمر اليسير، بل إن المعركة كانت – ولا زالت – حامية الوطيس لا فقط مع السلطة القائمة التي لم تكن لتقبل بخروج اتحاد الشغل على طاعتها، واستعملت جميع الخيارات للحفاظ على هيمنتها بما فيها القمع المفتوح كما في ملحمة 26 جانفي المجيدة (1978) أو لتنصيب “الشرفاء” على رأس هياكل الاتحاد (1985)، بل وكذلك مع قيادات الاتحاد المتعاقبة والتي لم تكن لتقبل هي الأخرى بخروج قواعدها على طاعتها.
لذلك يمكن القول إن شعار استقلالية المنظمة وديمقراطيتها ونضاليتها ظل شعارا مرفوعا باستمرار (على الأقل منذ أواسط السبعينات) طالما بقي مطلبا مؤجلا من مطالب الحركة العمالية. ويعود ذلك إلى أسباب عديدة منها ما هو متعلق بالواقع الموضوعي للبلاد والمتسم أساسا بغياب الديمقراطية والحريات على مدى خمس عقود، وقد انعكس ذلك بدرجة أو بأخرى على جميع الهيئات التمثيلية والمنظمات ومن بينها الاتحاد. ومنها ما هو متعلق بالتركيبة الطبقية للاتحاد وآليات اشتغاله الداخلي والمتسمة هي الأخرى بغياب الديمقراطية الداخلية وبالمركزية المشطّة. إذ أن هيكلة الاتحاد ظلت قائمة عل أساس هرمي بيروقراطي ممركز لا يسمح بأي نوع من الاستقلالية التنظيمية والمالية للقطاعات والجهات، وهو ما حوّله الى جهاز خاضع لنفوذ نخبة بيروقراطية تحتكر كل سلطات القرار التي تتحكّم فيها ثلاث هيئات لا رابع لها هي قسمي المالية والنظام الداخلي والأمانة العامّة للاتحاد.
أما اليسار النقابي المنقسم على نفسه دوما، ورغم حجم النضالات التي خاضها ورغم ما قدمه من تضحيات فقد ظل عاجزا على تغيير موازين القوى لصالحه ولصالح الشغالين عموما، ولم ينجح إلا جزئيا في مواجهة مشروع تحالف السلطة والبيروقراطية الذي حرص على أن يجعل من الاتحاد العام التونسي للشغل نقابة مساهمة، بل إن بعض مكوناته انخرطت في هذا المشروع وفي لعبة المواقع ضاربة عرض الحائط بالشعارات التي ترفعها حول استقلالية وديمقراطية ونضالية المنظمة.
إن الحركة العمالية في حاجة اليوم لبديل نقابي منحاز للعمال يقوم على أرضية مواقف جذرية من مسألة الاستقلالية والديمقراطية، بديل نقابي كفاحي يعيد للعمال دورهم القيادي في الحركة النقابية ويقوم على اعتبار النقابة إطارا للمقاومة والنضال لا إطارا للتعاون الطبقي. فيتجاوز النقابوية الضيقة بعدم الفصل بين النضال النقابي والنضال السياسي بما يعيد تفعيل الحركة النقابية بوصفها موضوعيا أحد ركائز الحركة الديمقراطية التقدمية المناضلة وفي طليعة قوي النضال ضد الدكتاتورية والاستغلال، وهي المحاور التي توسع المؤلف في تحليلها ضمن هذا الكتاب أملا أن يكون رمى بحجر في البركة الراكدة حتى تستعيد بريقها الذي عرفته في مختلف أزمات الاتحاد بالتقييم والنقد والنقد الذاتي من أجل بلورة مشتركة للبديل المنشود.