بقلم مي الأحمدي
إنّ الرأسمالية كنظام اقتصادي واجتماعي لا تترك أيّ فضاء خارج منطق الاستغلال والربح، بل تعمل على تحويل كل ما هو اجتماعي أو ثقافي إلى فرصة جديدة لتكديس رأس المال. إنّ الربح هو الغاية المباشرة والجوهريّة وكلّ الوسائل تعدّ مباحة للغنم بهذا الهدف، وإنّ هذا الوازع الربحي يحوّل كل المجالات ضرورة إلى بقرة حلوب تدرّ عليه أموالًا.
الاستثمار في الروحي والقيمي
ويطال الأمر المناسبات التي تحتل مكانة قيمية في كيان الشعوب مثل شهر رمضان وهو في الأصل مناسبة عند المؤمن/ة للتقرب من الربّ ونيل رضاه، فإنه عند الرأسماليين شهر مضاعفة الأرباح لذلك تتصاعد فيه الحملات التجارية الموسعة. إن هذه المناسبات ذات البعد الروحي أو الاجتماعي تتحول إلى مجرد فترات استهلاك مكثف، بل لحظات تعيد فيها الرأسمالية إنتاج نفسها عبر الاحتكار، المضاربة، والتلاعب بالحاجيات الأساسية. هذا الواقع ليس انحرافًا عرضيًا أو نتيجة “جشع” أفراد بعينهم، بل هو تمظهر طبيعي للبنية الاقتصادية الرأسمالية التي وصفها ماركس بأنها تقوم على “تحويل كل شيء إلى سلعة” (ماركس، رأس المال، المجلد الأول).
إنّ الأسواق في ظل الرأسمالية لا تخضع لمنطق “العرض والطلب” المحايد كما يروّج له اقتصاديو البرجوازية، بل هي مجال لتصارع القوى، حيث يتحكم الرأسماليون الكبار-المحتكرون- في آليات التوزيع وبالتالي الأسعار. وبذلك يكون احتكار الأسواق غير ناتج فقط من المنافسة الحرة، بل هو تطور حتمي للرأسمالية في مرحلتها العليا، إذ تهيمن الاحتكارات الضخمة على قطاعات بأكملها، وتتحكم في تدفق السلع ورأس المال وفقًا لمصالحها.
لكن الهيمنة الرأسمالية لا تقتصر فقط على الاقتصاد، بل تمتد حتى إلى المجال الثقافي والفني، حيث يتمّ التلاعب بالسرديات لصياغة وعي وإعادة إنتاجه بشكل ناعم عبر الأدوات الثقافية والإعلامية. فالرأسمالية لا تكتفي فقط بتحويل المناسبات إلى سوق استهلاكية، بل تعمل أيضًا على خلق سرديات تخدم بقاءها، سواء عبر وسائل الإعلام أو الأعمال الفنية، التي تتحوّل بدورها إلى أدوات لصياغة الوعي، ليس من خلال النقد الجوهري، بل عبر إعادة إنتاج القبول بالواقع كما هو، أو تقديم حلول فردانية زائفة تعزل الأفراد عن أي نضال جماعي. على سبيل الذكر لا الحصر نلاحظ حملات الإشهار الموجهة كرصاص مكثف ينال ضرورة من المشاهد بما يؤكد شدة سلعنة الرأسمالية لكل المناسبات والأفراد والقيم.
إنّ وعي الدولة بسلطة الإعلام المعنوية، يجعلها تراهن على قدرته على تطويع وعي المشاهد/المتفرج وتحويل رغبته لما يتلاءم مع حاجياتها. وإن الإعلانات التجارية تمرّ من تحفيز الاستهلاك نحو خلق أنماط جديدة من الحاجة المصطنعة، فتتحول الضرورات إلى كماليات والكماليات إلى ضرورات، ويتمّ ترسيخ معايير استهلاكية تتجاوز قدرة الطبقات الشعبية. والإعلانات لا تعكس الواقع، بل تعيد تشكيله بما يخدم الرأسمال، فكما أشار ماركوز في كتابه “الإنسان ذو البعد الواحد”، إن “المجتمع الصناعي الحديث ينتج حاجات زائفة تُبقي العمال مستلبين”. إنّ الإعلان ليس مجرد وسيلة لنقل المعلومات، بل أداة تطويع وتوجيه للسلوك والذوق والميول.
هل يمكن للإعلام البديل كبح جماح حملات تزييف الوعي؟
ولئن نجحت مواقع التواصل الاجتماعي جزئيا في تعرية الخطاب الممنهج من خلال المسلسلات الرمضانية طيلة السنوات الماضية وأظهرت إمكانية خلق فضاءات بديلة للتعبئة والتنظيم، وشن حملات فضح للعنف الأسري والاستغلال الاقتصادي، فإن السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه: هل يمكن لهذه الحملات أن تُحدث تغييرًا جذريًا في بنية النظام الرأسمالي، أم أنها مجرد تنفيس مؤقت يُعاد استيعابه؟
تاريخيًا، أثبتت الرأسمالية قدرتها على استيعاب المقاومة وتحويلها إلى جزء من منظومتها. فالعديد من الحركات الاجتماعية التي بدأت كتهديد للرأسمالية، سواء الحركات النسوية أو البيئية أو حتى بعض التيارات الاشتراكية الإصلاحية، تم استيعابها عبر تقديم تنازلات تحافظ على جوهر النظام. وهنا نعود إلى مفهوم “الهيمنة” حيث أنها لا تُمارس فقط بالقمع، بل أيضًا عبر استدراج المعارضين إلى داخل المنظومة وإفراغ نضالهم من مضمونه الثوري. وهذا ما نراه اليوم في الحملات الرقمية، حيث يتم تقديم إنجازات شكلية، مثل تعديل محتوى بعض المسلسلات أو تغيير طريقة تسويق المنتجات، دون المساس بالبنية الاقتصادية التي تنتج الظلم والاستغلال من أساسه. ومن الأمثلة الحديثة التي يمكن استحضارها مسلسل “الفتنة” وهو النموذج الذي تمّ بثه خلال شهر رمضان الأخير.
عرفت قناة “الحوار التونسي” في كل برامجها على استقطابها للمشاهد من خلال برامج الـshow والـbuzz، والمسلسلات التي تدغدغ خوالج المشاهد مغيبة كل قدرة له على التحليل والنقد. حيث إن المتفرج يمسي مستهلكًا للأفكار المطروحة، حاملًا لها قلبًا وقالبًا.
وبالتوازي مع الحملات المناهضة لكل أشكال العنف، خاصة العنف ضد المرأة والعنف الأسري، والخطاب الأبوي والذكوري، والمطالبة بمقاطعة مثل هكذا مسلسلات، أدركت هذه القناة أن استمراريتها تكمن في اعتبار إنتاجها التلفزي كإنتاج ربحي لا كعمل فني، ممّا جعلنا نلاحظ التغيير البارز في جوهر أعمالها، من مناهضة للعنف، وطرح قضايا شائكة.
مسلسل “الفتنة” لم يشذ عن القاعدة
إلا أنّ طرح القضايا لا يكمن في نقلها كما هي بل في تحليل أسبابها وآليات معالجتها، ولا يكون ذلك من زاوية فردانية ضيقة كما عكسه مسلسل “الفتنة”، أي من رؤية متطابقة مع منطق السوق الرأسمالي، حيث يُطرح الواقع كقدر محتوم، والنقد لا يتجاوز الإطار الأخلاقوي السطحي، بينما يُعاد إنتاج الفردانية كخيار أوحد. ما يميّز عملًا مثل “الفتنة” ليس مضمونه، بل البنية الفكرية التي يقوم عليها. فهو ينطلق من قاعدة ثابتة: “الواقع هو كما هو، والمشاهد ليس أمامه سوى أن يتقبله”. هذه الرؤية ليست محايدة، بل تعكس إيديولوجيا محددة، حيث يتمّ تقديم المشكلات الاجتماعية وكأنها صعوبات فردية، يمكن تجاوزها بالحيلة أو الحظ أو الأخلاق، وليس كجزء من بنية اقتصادية واجتماعية يجب تغييرها.
الأكثر من ذلك، أن نجاح “الفتنة” يعتمد بشكل أساسي على آليات السوق نفسها:
استقطاب ممثلين كبار يملكون قاعدة جماهيرية، لضمان نسب مشاهدة عالية، بغض النظر عن القيمة الفنية أو الاجتماعية للعمل.
الاعتماد على نمط درامي مألوف، لا يهزّ القناعات السائدة ولا يخلق صراعًا جوهريًا مع النظام الاجتماعي القائم.
التسويق المكثف، ليس للإبداع أو للقضايا الاجتماعية، بل للوجوه الفنية نفسها، ما يحوّل العمل إلى سلعة محضة.
إن مسلسل” الفتنة” يعيد إنتاج العالم كما هو، ويرسّخ الاستسلام أمام التناقضات القائمة. في حين أن كل ما تعانيه البشرية اليوم هو نتيجة حتمية للرأسمالية كنظام، والتي لن تسقط من تلقاء نفسها، بل تحتاج إلى بديل منظم قادر على تجاوزها.
إن ما نشهده اليوم من مقاومات رقمية وحملات مقاطعة هو مؤشر على تنامي الوعي، لكنه يظل غير كافٍ إن لم يرتبط بحركة جماهيرية قادرة على فرض بديل اقتصادي وسياسي واضح. فإن التحولات الكبرى في التاريخ لم تحدث عبر احتجاجات غير منظمة أو حملات مقاطعة محدودة، بل عبر تنظيم الطبقة العاملة والفئات المضطهدة في مشروع سياسي ثوري واضح المعالم. “دون نظرية ثورية، لا يمكن أن توجد حركة ثورية” (لينين).
وهذا يعني أن نقد الواقع لا يجب أن يقتصر على تشخيص المشاكل أو التنديد بها، بل يجب أن يكون جزءًا من استراتيجية أوسع تهدف إلى تقويض أسس النظام الرأسمالي نفسه. وهنا يأتي دور التنظيم السياسي الواعي، القادر على استثمار هذه التحركات وتحويلها إلى حركة جماهيرية ذات أهداف واضحة، تستهدف البنية الاقتصادية والاجتماعية للنظام، لا مجرد قشوره الإعلامية والثقافية.
لكن علينا ألاّ نبخس هذه الانتصارات ولو كانت جزئية، فهي لبنة أولى نحو مشروع أشمل، لأن هذه المكاسب هي ثمرة نضال نسوي لسنين، لنمرّ من مسلسلات التطبيع مع العنف المسلط على النساء نحو خطاب رادع يرفض تبرير العنف. لذلك يجب علينا أن لا نقلل من قيمة هذه الانتصارات وأن لا نعتبرها من إنجاز بعض القنوات فنثمن مجهوداتها في حين أنها انتصارتنا وما امتثالهم إلا امتثالا انتهازيا. ومن هنا يتوجّب علينا أن لا نقبل بهذا القليل القليل بل أن نواصل حتى خلق مجتمع ينتفي فيه استغلال الإنسان للإنسان، بل يقوم على أساس التضامن والإنتاج الجماعي.