الرئيسية / صوت الوطن / الشعبويّة الفاشيّة: الفكر، الأخلاق، الإعلام، دولة القانون
الشعبويّة الفاشيّة: الفكر، الأخلاق، الإعلام، دولة القانون

الشعبويّة الفاشيّة: الفكر، الأخلاق، الإعلام، دولة القانون

بقلم: حمّه الهمّامي

إنّهم كذّابون… ويعلمون أنّهم كذّابون ويعلمون أنّنا نعلم أنّهم كذّابون، ومع ذلك فإنّهم يكذبون بأعلى صوتنجيب محفوظ

في الحقيقة ما كنت أتصّور غير الذي حصل، ولو حصل عكس ذلك لكانت المفاجأة الكبرى. فكلّ إناء بما فيه يرشح، فالإناء المليء بالعفونة لا يرشح إلّا عفونة. الإناء المليء طيبة وعقلا لا يرشح إلّا الأشياء الجميلة. “ما يطلع من البذيء إلّا البذاءة، ما يطلع من المليح إلّا المليحكما قال أسلافنا. جال بخاطري هذا الكلام مرّتين خلال المدة الأخيرة، المرّة الأولى بعد أن أصدرت مقالا بعنوان: “حزب العمال كان وما يزال وسيظلّ منبرا للدّفاع عن كلّ المظلومين” (24 مارس 2025) والمرّة الثانية حين شاركت يوم أمس 9 أفريل 2025 في تجمّع أمام المسرح البلدي بالعاصمة تضامنا مع الشعب الفلسطيني الذي يتعرّض لحرب إبادة. لقد هاج وماج سقط متاع الحشد الفاشي وراح يكيل لي الشتائم في علاقة بالمقال المذكور دون الردّ ولو على فكرة واحدة ويسبّ ويتّهم المشاركات/المشاركين في التجمّع المذكور بالخونةوالمتآمريندون الحديث حتّى عمّا يفعلون في الشّارع. وهو ما يقودنا إلى الكلام ولو بشكل موجز ومكثّف عن علاقة سقط متاع الحشد الفاشي بالفكر والأخلاق والإعلام ودولة القانون.

الشعبوية الفاشية: الخواء العقلي

إنّ إحدى مميّزات الشعبوية الفاشيّة هي الخواء العقلي. فما ذكرت في كتاب الفاشية الزاحفة“: “تمثّل اللاعقلانيّة السّمة الأساسية لسلوك سعيّد وقراراته التي لا تخضع لنسق فكري منطقي إذ هو لا يحمل في جرابه غير عبارات طنّانة، ثقيلة ومملّة وفقيرة المعنى يردّدها باستمرار فضلا عن شطحاته التي لا يقبل عقل، ناهيك أنّ أكثر من طرف أصبح يصف قراراته بالجنون“. وقد أشرنا في بقية الكتاب إلى أنّ سعيّد عندما قدّم نفسه إلى الانتخابات سنة 2019 لم يتردّد في القول إنّه لا يحمل برنامجا ولا يقدّم وعودا وهو ما يمكن اعتباره اللاسياسة” (l’anti-politique) إذ ماذا بقي من السياسة إذا غُيّب منها البرنامج. وهو ما يفسّر أوضاع بلادنا الكارثيّة اليوم اقتصاديا وماليا واجتماعيا وثقافيا ودبلوماسيّا. ففي غياب تصور وبرنامج ماذا تبقّى لسعيّد غير مواصلة السياسات القديمة الفاشلة لمنظومات الحكم السابقة بأكثر فوضى وعدم كفاءة وهو ما يجعل من النتائج أكثر كارثيّة؟ وماذا بقي له في السياسة وهو الذي يفتقد إلى مبادئها الدنيا غير تفسير كلّ شيء بالمؤامرات وغير توزيع الاتهامات على خصومه ورميهم في السجّن والتنكيل بهم طالما أنه صاحب السلطة على العسكر والبوليس والإدارة؟

وإذا كان ربّ البيت على هذه الدرجة من الفقر الفكري والسياسي فكيف سيكون حال أتباعه؟ ينقسم الأتباع إلى صنفين، الصنف الأوّل يتكوّن من الشرّاح“. وفي هذه الكلمة شحنة تقديسية بالطبع فمعناه أنّ كلام سعيّد مليء بالمعاني والرموزالتي يعجز العقل العادي، البسيطعن فهمها وهو ما يتطلبّ شرحها. ولكن أيّ رموز وأيّ معان عميقة فيما جاء به قيس سعيّد في بعض خطبه من أن عمليّة اختيار النباتات في شارع الحبيب بورقيبة غير بريئةوأنّ اختيار اسم العاصفة دانيال التي ضربت الشقيقة ليبيا يعكس نفوذا صهيونيّاوأنّ انتحار بعض الشباب احتراقا في المدة الأخيرة احتجاجا على القهر والظلمورشق الحجارة يوميا عند التاسعة والربع مساء” “جزء من مخطّط تآمري وليس عفويّا؟ هؤلاء الشرّاح الذين قلّ عددهم لم يبق لهم إلّا أن يردّدوا على غرار كبيرهم إن ما جاء به الرئيس قيس سعيّد من أفكار جديدة له بعد عالمي“. إنّ أحد أهمّ السّمات الفكرّية للشعبوية الفاشيّة هي الفقر المدقع والسّطحيّة. وهي موجّهة في الحقيقة إلى العقول البسيطة التي يراد إغراقها في مزيد الجهل في مثل هذا الوضع المتأزّم وتوجيه اهتمامها إلى غير المتسبّب في مآسيها. أمّا الصنف الثاني من الأتباع فهو بالطبع سقط متاع الحشد الفاشي وهو خليط من الناس، فيهم المواطن البسيط والطالب والسياسي الانتهازي والمتسلّق الذي أكل على كلّ الموائد. وما يتميّز به هذا الصنف من الأتباع في المستوى الفكري هو التّرديد الآلي للبضاعة التي تسوّق لهم. وما يشار إليه في هذا الصّدد هو أنّ الأكثر ثقافةمن بين هؤلاء يعمدون إلى اختلاق حكاياتمع تهويلها لإعطائها طابعا خارقا“. أمّا عامة الأتباع فإنّهم يردّدون ما يبلّغ لهم دون رويّة وإن سئلوا أجابوا المعلّم قال“. ولكنّ الطرفين أعجز، في الردّ على خصوم سلطة الانقلاب، من بلورة أيّ فكرة فيها حدّ أدنى من المعقوليّة. وبالطبع فهؤلاء الأتباع لا يعملون لله في سبيل اللهوإنّما جميعهم يلهث وراء مصلحة وكل قدير وقدرو“.

إنّ الفقر الفكري وما يرافقه من عدم تناسق وتخلويض وهزّان ونفضان” (وهي كلمة عامية تونسية معبّرة جدّا) هو السّمة الأساسيّة للشعبوية الفاشيّة. وهذا الفكر قابل للتأثير في قطاعات من المجتمع في لحظات الأزمات التي تختلط فيها السّبل ولا يلوح في الأفق حلّ عقلاني يخرج النّاس من ضياعهم وفقرهم وبؤسهم فتطغى عليهم الخرارفخاصة في مجتمع ثقافته هجينة، معطّلة شبه عقلانية/شبه خرافيّة. ولكن مثل هذا النّمط من التفكير لا يعمّر طويل لأنّه سرعان ما ينكشف زيفه وطابعه المغالط خاصّة حين لا يجد الناس حلولا لمشاكلهم اليوميّة بل يقفون عند الحقيقة الصادمة وهي أنّ ظروفهم تتدهور عمّا كانت عليه حتّى في فترة من كانوا يعتبرونه شرّا مطلقا“. وهو ما بدأنا نلمسه في وعي النّاس اليوم إذ أنّ مصاعبهم اليوميّة بصدد إيقاظهم من تخميرتهم العقيمة“.

الشعبويّة والأخلاق: أخلاق سقط المتاع

إن أتباع الشعبويّة الفاشيّة لا أخلاق لهم. فكما أنّ أمخاخهم فارغة وعاجزة عن إنتاج أيّ فكرة إيجابيّة متناسقة في أيّ مجال من مجلات الحياة الاجتماعيّة، فإن سلوكهم يندرج في نفس السّياق. فإن ما يميّز هؤلاء الأتباع أخلاقيا شيئين اثنين: أوّلا السفالة والانحطاط. فحين يطّلع المرء على تعليقاتهم في الشبكة الاجتماعية فإنه يتقزّز ممّا يقرأ. إنّ كلامهم جميعا مستوحى من معجم الحثالة (la racaille) فلا تجد فيه غير السبّ والشتم وهتك الأعراض خاصّة إذا تعلّق الأمر بامرأة معارضة أو صاحبة رأي مستقلّة فإن السلّاح الوحيد الذي يوجّه إليها هو سلاح التّعهيربكلّ ما فيه من ألفاظ وعبارات مشينة. واللافت للانتباه أنه حين يتعلق الأمر بالمعارضين وأصحاب الرّأي من النساء والرّجال فإنّ النيابة العمومية لا تتحرّك تاركة أصحاب الأخلاق المنحطّة يتقيّؤون عفنهم بكلّ حرّية“. فهؤلاء، طالما أنهم من أتباع سلطة الانقلاب، فكلّ شيء مباح لهم، مع التمتّع بالحماية. وبالإضافة إلى التشويه والبذاءة فإن من أهم سمات سقط متاع الحشد الفاشي الكذب. فهم يكذبون ويبثون الإشاعات كما يتنفسون أو ربّما هم يكذبون أكثر ممّا يتنفسون. فالكذب هو أحد أسلحتهم الرئيسية في مواجهة معارضي سلطة الانقلاب ومنتقديها. وإذا كان ربّ البيت كاذبا فلا تلومنّ أتباعه عن الكذب. وبالطبع فإن كذب الدولة له تبعات أخطر على الضّحايا من كذب الأفراد. فمثلا حين تلفّق الدولة ملفّ تآمر على أمن الدولة وتحشوه حشوا بالأكاذيب فكيف سيتصرّف الأزلام إن لم يكن بترديد كذب ربّ البيت والزيادة فيه. ولكن هؤلاء الأزلام يطلقون خيالاتهم لشتى أنواع الكذب الأخرى بهدف تشويه الخصم لدى الرّأي العام ويشمل الكذب كافة جوانب حياة الخصم الشخصية والعامة بالطبع.

وإذا كان هذا الانحطاط الأخلاقي لأتباع الشعبوية الفاشية جزء لا يتجزّأ من الأزمة الأخلاقيّة التي تضرب المجتمع في العمق منذ سنوات عديدة، فإنّ هؤلاء الأتباع هم في نفس الوقت منتوج من متوجات هذه الأزمة وعامل من عوامل تعميقها وتعفينها.

أمّا الشيء الثاني الذي يميّز هؤلاء الحثالةفهو العنف. ولقد أعطيت أمثلة ملموسة في مقالي المذكور أعلاه خاصة في علاقة بما أصبح يعرف بقضية التّآمر على أمن الدولة. فالدعوات إلى القضاء عليهم وإعدامهم والتنكيل بهم تحفلبها صفحات الشبكة الاجتماعية. وتشمل هذه الدعوات كل معارضي سلطة الانقلاب ومنتقديها. فالقارئ يجد دعوات لاستئصال هذا الحزب أو ذاك أو هذه الجمعية أو تلك. كما يجد دعوات لسجن فلان أو فلتان أو الاعتداء عليه جسديا ويعمد البعض إلى نشر معطيات حول الشخص المعني، صورته ومهنته وحتى عنوان سكناه الخويصحب هذا الممارسات تحريض مباشر ضدّ الشخص المعني عبر تخوينه أو تقديمه على أنّه مأجور أو من رواد السّفارات الأجنبية أو أنّه فاسد أو أنّه من مصّاصي دماء الشعب وهلمّ جرّا تماما مثلما كانت الأمور في بدايات حكم حركة النهضة، مع اختلاف الخطاب، إذ كان تكفير الخصم السياسي والتحريض عليه بهذا المعنى هو الوجه الأبرز في دعاية مختلف الحركات الظلاميّة. ومرّة أخرى إذا كان ربّ البيت يروّج خطابا عنيفا فماذا عساه يكون خطاب الأزلام؟ لقد أوضحنا في عديد المناسبات دور قيس سعيّد في تأجيج خطاب العنف وزرع الانقسام في صفوف التونسيات والتونسيّين ونبّهنا إلى خطر ذلك. ففي أكثر من مناسبة لم يتورّع سعيّد عن وصف خصومه بالحشرات والفيروسات والأورام الخبيثة وغير ذلك من التشابيه التي تحمل في طياتها دعوات إلى العنف.

وخلاصة القول إن الفاشية الشعبوية ليست فقط أسلوب حكم سياسي وإنّما هي أيضا منظومة أخلاقية تتشكل من حولها أفكار وممارسات فاسدة وخطيرة تغرق المجتمع في الظلام وهو ما يجعل منها جزء من الأزمة ولا يمكن أن تكون حلا لها أو حتى جزء من حلّها. وهو ما يجعل من تقويضها هو الحلّ للنهوض بالمجتمع والارتقاء به أخلاقيا. إن الأخلاق الفاضلة لا تنمو ولا تترعرع إلّا في مناخ الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.

الفاشية الشعبويّة: عدوّة الإعلام الحر

تطرقنا في أكثر من مناسبة إلى علاقة الشعبوية الفاشية بالإعلام وبيّنا أنّها تناوئه وتعمل على تدميره. وهو ما يحصل اليوم في بلادنا. فقد وضع قيس سعيّد مثله مثل بن علي وبورقيبة يده على الإعلام العمومي وحوّله إلى بوق تافه ومبتذل. كما أنّه أنزل ضغوطا لا تعدّ ولا تحصى على وسائل الإعلام الخاصة منها ما هو مادّي ومنها ما هو سياسي. وهو ما دفع بأصحاب القنوات التلفازية والإذاعات إلى تحويلها حسب عبارة الصحفي هيثم المكي إلى قنوات وإذاعات كَسَرُونَاتْفي إشارة إلى إلغائها البرامج الحوارية السياسية بل غالبية البرامج ذات الطابع النّقدي. وفي نفس الإطار تخلصت بشكل بآخر من غالبيّة صحافييها الذين كانوا يؤثثون تلك البرامج وعوضتهم في الغالب بإعلاميّين طيّعين، استغلوا هذه الوضعية للاسترزاق وخدمة الحاكم بأمره“. وممّا أشاع الخوف في صفوف الصحافيين ليس قطع أرزاقهم فقط وإنّما أيضا فتح أبواب السّجن لتأويهم بمقتضى المرسوم 54 الفاشي. وهو ما حصل لأكثر من إعلامي وإعلاميّة لا زالوا حدّ الساعة يقبعون وراء القضبان.

إنّ الشعبوية الفاشية تعادي الإعلام الحرّ لأنّه يسعى إلى ترويج المعلومة الصحيحة. وهو ما تخشاه هذه الفاشية التي تقيم كل سياستها على الكذب والمغالطة. كما أنّ الإعلام الحرّ هو إعلام نقدي والفاشية خاصة حين يكون رأسها يعتقد أنّه صاحب رسالةوأنّه لا رقيب له إلّا اللّه عزّ جلّوألّا رقابة عليه لا من مؤسّسات ولا من قضاء ولا من أيّ جهة أخرى، فإنّها لا تقبل إلّا بصحافة تعليمات، تنفّذ ما تؤمر به. وليس من الغريب والحالة تلك أن ينظر قيس سعيّد إلى الإعلام بازدراء ويعمل على تهميشه وتدميره ويرفض الالتقاء به والتّحدّث إليه. والواقع أنّه لم يترك أمام الإعلاميين سوى طريقين اثنين لا ثالث لهما، فأمّا الأوّل فهر طريق العار والذل والمهانة وهو ما اختاره البعض وأمّا الثاني فهو طريق النضال والشرف وهو ما اختاره البعض الآخر.

إنّ الإعلاميّين الذين اختاروا الطريق الأوّل إنما اختاروا خدمة الاستبداد أي ترويج أكاذيبه ومغالطاته وتبرير قمعه وجرائمه على حساب الشعب. وهذا السلوك هو سلوك نذل وساقط إذ يحمل الصحفي على تقديم مصالحه الأنانية على مصالح شعبه ومجتمعه وتقديم خدمة الباطل على خدمة الحقيقة. إن الدور السياسي والأخلاقي في وضع مثل وضعنا هو تقويض الاستبداد بفضح جرائمه وأكاذيبه ومغالطاته والارتقاء بوعي الشعب حتى يتخلّى عن سلبيّته ويأخذ مصيره بيده ويتحرّر من الاستبداد. إنّ الإعلام في نظام الاستبداد مناضل أو لا يكون. فكما قال زعيم المقاومة المغربية، عبد الكريم الخطابي قبل قرن: “ليس في قضية الحرّية حلّ وسط“. وبعبارة أخرى فإن الإعلام اليوم إمّا مناصر للحرّية أو مساند ولو بطريقة سلبية للاستبداد.

دولة القانون: الفاشية تطوّع القانون والقضاء

كنت تعرّضت في مقالي السابق لهذه المسألة وكالعادة كانت موضوع استهزاء من سقط متاع الحشد الفاشي فهم يستغربون كيف لي أن أدافع عن ضرورة احترام شروط المحاكمة العادلة في قضية ما يعرف بالتآمر على أمن الدولة وهاجوا وماجوا خاصة حين قلت إنّ من حقّ راشد الغنوشي وقيادات حركة النهضة الموقوفين في محاكمة عادلة مهما كانت التّهم الموجهة إليهم وازدادوا غيْضا حين عبّرنا عن رفضنا لمحاكمات تصفية الحسابات مهما كان الضحيّة. إنّ هؤلاء الفاشيين يعتبرون أنّ مكان المتآمرينكما قال أحدهم السجون أو المقابر“. وبطبيعة الحال من يحدّد المتآمر والخائنوالفاسدليس قضاء مستقلا وعادلا وإنما الحاكم بأمرهالذي قال في سياق حديثه عن قضية جوهر بن مبارك ورفاقه لقد أدانهم التاريخ قبل أن يدينهم القضاء، ومن يبرّئهم فهو شريك لهم“. ولا نعتقد أنه ثمّة ما أبلغ من هذه العبارات لفهم حقيقة دولة العسف والجور.

إن دولة القانون والمؤسسات مكسب تاريخي حققته الثورات البورجوازية وخطوة متقدّمة مقارنة بدولة الحكم الفردي المطلق غير المقيّدة بدستور وقوانين والتي لا يخضع فيها الحاكم للمراقبة من قبل مؤسسات موضوعة للغرض والتي لا يكون فيها قضاء مستقل كما لا يكون فيها الشعب فعّالا في اختيار من يمثّله ومن يحكمه. وما من شكّ في أن دولة القانون والمؤسّسات مازالت لا تمثل جزء من ثقافة شعبنا. لقد حكم بلادنا البايات حكما استبداديا مطلقا. ونسج على منوالهم الاستعمار الفرنسي. وحين خرج هذا الاستعمار لم تحصل أيّ نقلة نوعية في علاقة الحاكم بالمحكوم مع بورقيبة فقد أرسى بدوره حكما فرديا مطلقا. وتواصل هذا الوضع مع بن علي. وقد وفّرت الثورة فرصة للشعب التونسي لإرساء قواعد دولة القانون والمؤسسات. ولكن الحكومات المتعاقبة تصدّت لذلك. فلا حركة النهضة كانت تريدها ولا نداء تونس أو تحيا تونس. وهو ما جعل تلك الحكومات ترفض تركيز محكمة دستورية ومراجعة العديد من القوانين القمعية الخطيرة مثل قانون الطوارئ والإرهاب وقانون المحكمة العسكريّة الخكما أنها عملت على إخضاع القضاء والهيئة المستقلة للانتخابات للحسابات الحزبية الضّيقة. والمؤكد أنّ حركة النهضة وشركاءها في الحكم كانوا يعتقدون أنّهم سيبقون في الحكم إلى أبد الآبدين.

وبطبيعة الحال فحين جاء قيس سعيد وجد الأرضية مناسبة للعودة بالبلاد إلى مربّع الاستبداد ونسف مكاسب الثورة الديمقراطية واستغلال الثغرات الموجودة في الدستور والقوانين التي لم تراجع. وتشاء الظروف أن تكون حركة النهضة والعديد من شركائها في الحكم الضحيّة الأولى لتقاعسهم عن التقدم في تركيز دولة القانون والمؤسسات. فلو كانت ثمة مثلا محكمة دستورية هل كان سعيّد سيؤوّل الفصل 80 من دستور 2014 كما يشاء؟ وهل كان بإمكانه سنّ الأمر 117 وإلغاء دستور 2014؟ وهل كان بإمكانه أيضا أن يفعل ما فعل بالمحكمة الإدارية في آخر مهزلة انتخابية؟ بالطبع لا. ومن البديهي والحالة تلك ألّا تتحوّل دولة القانون والمؤسسات إلى جزء من ثقافة التونسيات والتونسيين بمن فيهم قطاعات من مثقفي البلاد وقانونييها. ألم يؤيّد عدد من كبار أساتذة القانون الدستوري قيس سعيّد في كل ما ارتكب من خزعبلات قانونيّة قبل أن ينفضّوا من حوله أو يبعدهم هو بنفسه؟ وفي هذا الإطار ليس من الغريب أن نرى العديد من المواطنين/المواطنات يتبنّون الخطاب الفاشيّ ولا يؤمنون بأبسط مقومات دولة القانون ومنها الحق في محاكمة عادلة وبالتالي فإن صاحب السلطة الذي لا يحترم هذه القاعدة هو حاكم ظالم وجائر ينبغي أن يجرّم.

وخلاصة القول إن الاستبداد/الفاشية هو نظام ظالم وجائر، فهو يخرّب العقل ولا ينتج فكرا إيجابيا يقدم الشعب. وهو نظام لا أخلاقي قائم على الكذب والمغالطة والتشويه. كما أنه نظام يعادي حرية التعبير والإعلام كما يعادي دولة القانون لأنّه يريد أن يتحكّم في رقاب الناس عن طريق القهر وإشاعة الخوف. وما ذلك إلّا لحماية مصالح الأقلّيات المحلية والأجنبية التي تستغل شعبنا وتنهب ثرواته وتعيق تحرره كما تعيق نهضة بلاده. إنّ الفاشية الشعبوية هي العدوّ الرئيسي لشعبنا اليوم وهو ما يستوجب مقاومتها. إنّ الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتحرر من الهيمنة الأجنبية لا يمكن أن تتحقّق عبرها ولا معها وإنما بالنضال ضدّها وعلى أنقاضها… إنّ نظام الشعبوية الفاشية جزء من الأزمة لا جزء من الحل وهو يفاقمها ولا يحدّ أو يخفّف منها.

تونس في 10 أفريل 2025

إلى الأعلى
×