بقلم مرتضى العبيدي
يحيي الشعب التونسي الذكرى السابعة والثمانين لأحداث 8 و9 أفريل الخالدة التي شكلت نقلة نوعية في مسار حركة التحرّر الوطني وفي صياغة مطالب، لئن لم ترفع صراحة مطلب الاستقلال، فإنها طالبت بتأسيس برلمان تونسي يحدّد مهامّه دستور تونسي تسهر على تنفيذ بنوده حكومة وطنية. ونحن إذ نستعرض في هذا المقال السياقات التي اندلعت فيها هذه الانتفاضة ووقائعها، فلاستخلاص الدروس من نضالات الشعب التونسي، وللتذكير بما آلت إليه تلك الشعارات في ظل الأنظمة المتعاقبة منذ الإمضاء على بروتوكول “الاستقلال” وكيف تمّ الالتفاف عليها قبل ثورة 17-14 وبعدها.
انتفاضة 8 و9 أفريل 1938: السياقات
تميّزت عشرية الثلاثينات من القرن العشرين بنهوض جديد للحركة الوطنية التونسية كان من أسبابه:
تردّي الأوضاع المعيشية للشعب التونسي المتردّية أصلا من جرّاء أزمة 1929 الاقتصادية العالمية والتي كانت انعكاساتها مضاعفة على البلدان المستعمرة، وهو ما أدى إلى محاولة استنهاض الحركة النقابية مجدّدا متمثلة في إعادة إحياء تجربة “جامعة عموم العملة التونسية” على يد بلقاسم القناوي ورفاقه سنة 1936.
القطيعة بين رؤيتين للنضال الوطني كان يحتضنهما الحزب الحر الدستوري التونسي بالإعلان عن تأسيس الحزب الدستوري الجديد عقب المؤتمر الذي عُقد في قصر هلال يوم 2 مارس 1934 ممّا سيؤدي إلى تغيير جوهري في أساليب النضال.
انتصار ائتلاف “الجبهة الشعبية” في الانتخابات التشريعية في فرنسا لسنة 1936، وهي مكوّنة من أطراف يسارية برئاسة الزعيم الاشتراكي “ليون بلوم” (Léon Blum) واتخاذ بعض الإجراءات للتخفيف من حدّة الاحتقان السائد في بعض المستعمرات، من بينها تونس (وقف إجراءات الإبعاد والسماح بعودة المبعدين من برج لوبوف إلى مناطقهم الأصلية، إقرار حرية الصحافة والاجتماع وإرجاع الموظفين إلى سالف نشاطهم، السماح للأحزاب بإعادة نشاطها الطبيعي…)، إجراءات استغلها الحزب الدستوري الجديد للانتشار وبعث هياكل في كامل البلاد قُدّرت في عام 1938 بـ 400 شعبة دستورية تضم آلافا من الأعضاء.
لكن رغم ذلك فإن فترة الهدنة لم تدم طويلا إذ أنّ “المتنفّذين” (les prépondérants) من غلاة المعمّرين والمستفيدين من النظام الاستعماري سرعان ما فرضوا على الإدارة الاستعمارية العودة إلى النهج القمعي والتضييق على النزر اليسير من الحريات الممنوحة، فكانت حملات القمع الدموي التي واجهة بها السلطات الاستعمارية بعض النضالات العمالية مثل :
إضراب عمال الحوض المنجمي في كل من المتلوي والمظيلة يومي 4 و5 مارس 1937 والذي أدّى إلى استشهاد 22 عاملا إضافة إلى عدد كبير من الجرحى والمعتقلين.
الإضراب التضامني مع الحركة الوطنية في كل من المغرب والجزائر يوم 20 نوفمبر 1937.
مظاهرة بنزرت يوم 8 جانفي 1938 تنديدا بإبعاد المناضل النقابي والدستوري حسن النوري إلى الجزائر ومصادمات مع قوات الاستعمار أدّت إلى سقوط 6 شهداء وأكثر من 20 جريحا.
هذه النضالات التي ستشهد ذروتها في المواجهة الدامية مع السلطات الاستعمارية يوم 9 أفريل 1938.
انتفاضة 8 و9 أفريل 1938: الوقائع
واحتجاجا على كل هذه الأوضاع، وعلى إثر إيقاف عدد من زعماء الحركة الوطنية (سليمان بن سليمان ويوسف الرّويسي، ثمّ صالح بن يوسف والهادي نويرة) دعا الحزب الدستوري الجديد إلى إضراب عام يوم 8 أفريل 1938 وإلى التجمهر أمام مقر “الإقامة العامة” (مقرّ سفارة فرنسا اليوم) وإلى مظاهرة ثانية يوم 10 أفريل. فاحتشدت جماهير التونسيين بشكل سلمي رافعين الرايات التونسية واستمعوا إلى خطب زعماء الحركة ومنها بالخصوص كلمة “زعيم الشباب” علي البلهوان التي جاء فيها:
“جئنا في هذا اليوم لإظهار قوانا، قوة الشباب الجبارة التي ستهدم هياكل الاستعمار الغاشم وتنتصر عليه، جئنا في هذا اليوم لإظهار قوانا أمام هذا العاجز (يشير إلى المقيم العام “أرمان غيون” Armand Guillon) الـــذي لا يقدر أن يدير شؤونه بنفسه ويتنازل عنها إلى “كارتون” (الكاتب العام للحكومة يومئذ) ذلك الغادر الذي يكيد للتونسيين الشرّ والمذلّة والمحق ويريد سحقهم في هذه البلاد لا قدّر الله…
يا أيها الذين آمنوا بالقضية التونسية، يا أيها الذين آمنوا بالبرلمان التونسي، إن البرلمان التونسي لا ينبني إلا على جماجم العباد، ولا يقام إلا على سواعد الشباب! جاهدوا في الله حق جهاده، وإذا اعترضكم الجيش الفرنسي أو الجندرمة، شرّودهم في الفيافي والصحاري وافعلوا بهم ما شئتم، وأنتم الوطنيّون الدائمون في بلادكم وهم الدخلاء عليكم! بالله قولوا حكومة خرقاء سياستها خرقاء وقوانينها خرقاء يجب أن تحطّم وأن تداس، وها نحن حطّمناها ومزّقناها، فالحكومة قد منعت وحجّرت رفع العلم التونسي، وها نحن نرفعه في هذه الساحة رغما عنها! والحكومة قد منعت التظاهر وها نحن نتظاهر ونملأ الشوارع بجماهير بشريّة نساء ورجالا وأطفالا تملأ الجوّ هتافا وحماساً…”.
وفي اليوم الموالي، بلغ إلى مسامع التونسيين نبأ إحالة علي البلهوان على المحكة لمقاضاته بتهمة التحريض على العصيان في المحاضرة التي ألقاها يوم 18 مارس أمام جموع من الشباب والطلبة تحت عنوان “نصيب الشبيبة في حركة المقاومة”، أدّت إلى فصله عن العمل كأستاذ بالمعهد الصادقي، وما تبع ذلك من حركة تضامنية خاضها بالخصوص شباب المعهد الصادقي وجامع الزيتونة. فهبّ التونسيون إلى المحكمة لمؤازرة علي البلهوان، لكن السلطات الاستعمارية لم تترك لهم المجال إذ فتح الجندرمة النار على جموع الحاضرين فاستشهد منهم 22 وجُرح ما يزيد عن الـ 150 تونسي واعتقل عدد أكبر (حسب الأرقام المعلنة من السلطات الاستعمارية وهي أرقام شكك فيها الحزب الدستوري في إبّانها وكذلك عديد المؤرخين لاحقا). ومنذ ذلك الحين، اتخذ التونسيون من 9 أفريل عيدا للشهداء. فماذا كانت مطالب التونسيين في انتفاضة 8 و9 أفريل؟
مكانة فكرة الدستور لدى الحركة الوطنية التونسية
زيادة على مطلب إطلاق سراح زعماء الحركة الوطنية المبعدين في الصحراء، رفع المتظاهرون شعارات “البرلمان التونسي” و”الدستور التونسي” و”الحكومة الوطنية”. ولم تكن هذه الشعارات وليدة اللحظة بل إنها رافقت الحركة الوطنية التونسية منذ نشأتها.
والمعلوم أنه خلال القرن التاسع عشر، ظهرت لدى بعض النخب التونسية خاصة منها المقرّبة من البلاط (أحمد ابن أبي الضياف، الشيخ بيرم الخامس، خيرالدين التونسي…) أفكارا إصلاحية أهمّها ما كان يدور حول ضرورة تقييد حكم ملوك تونس بقانون، فكتب خيرالدين في مقدّمة كتابه “أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك”: “من تصفّح مقدّمة ابن خلدون رأى أدلّة ناهضة على أنّ الظلم مؤذن بخراب العمران كيف كان وبما جبلت عليه النفوس البشرية كان إطلاق أيدي الملوك مجلبة للظلم على اختلاف أنواعه، كما هو واقع اليوم في بعض ممالك الإسلام”. وكان لهؤلاء دور في استصدار دستور 1861. وحتى وإن لم يعمّر هذا الدستور طويلا إذ تمّ تعليق العمل به ما أن اندلعت انتفاضة علي بن غذاهم (1864)، إلا أنه حافظ على مكانة معنوية في نفوس النخب اللاحقة التي ستستعمله كنص مرجعي وكقيمة اعتبارية في مواجهة الاستعمار. وهو ما تجلى لدى الشيخ الثعالبي وصحبه عند تأسيسهم لأوّل حزب تونسي بالمعنى الحديث للكلمة عندما أدرجوا صفة دستوري في تسميته: “الحزب الحر الدستوري التونسي” (1920) والحفاظ على هذه الصفة في كل تسمياته اللاحقة حتى قيام ثورة 17-14: الحزب الحر الدستوري الجديد (1934)، الحزب الاشتراكي الدستوري (1964)، التجمع الدستوري الديمقراطي (1987).
كما أن مطلب البرلمان التونسي كان حاضرا دوما في المناسبات الوطنية تعبيرا على رفض تمثيل القطر التونسي عبر بعض المعمّرين من غلاة الاستعمار في البرلمان الفرنسي، ورفض اعتبار “المجلس الأكبر” الذي نصّ عليه دستور 1861 ومنحه سلطات تشريعية تصل حدّ عزل الباي، كممثل للإرادة الشعبية. لكن تلك الصيغة كانت هي التي عرف من خلالها التونسيون ملامح المشهد البرلماني لأول مرة بعد صدور دستور سنة 1861 أثناء فترة حكم محمد الصادق باي، وهو الدستور الذي تضمّن تنظيما للحياة السياسية بالبلاد التونسية من خلال الفصل بين السلطات الثلاث، والحدّ من سلطة الباي وإقرار مسؤوليته أمام المجلس الأكبر المكون من 60 عضوا يعينهم الباي لمدة 5 سنوات. وبعد استعمار البلاد، اتخذ هذا التمثيل أشكالا مختلفة بداية من “الندوة الاستشارية” (la Conférence consultative) إلى العودة إلى صيغة “المجلس الأكبر” سنة 1922 والذي تواصل حتى صدور الأمر العليّ ليوم 29 ديسمبر 1955 الذي تضمّن دعوة مجلس قومي تأسيسي للانعقاد يوم الأحد الموافق للثامن من شهر أفريل 1956 لسن دستور المملكة التونسية، وقد تضمّن هذا الأمر في فصله الثاني انتخاب أعضاء المجلس بالاقتراع العام المباشر والسري.
وقال الباي محمد الأمين في خطاب له في نفس التاريخ أي يوم 29 ديسمبر 1955 “إنّ الشعب التونسي قد بلغ من النضح ما يؤهله للاضطلاع بجميع مسؤولياته التي لغيره من الشعوب الحرة الرشيدة”. وقد تمّ انتخاب أعضائه الـ 98 يوم 25 مارس 1956، وفاز بجميع المقاعد مرشحو “الجبهة القومية” المكوّنة من الحزب الحرّ الدستوري التونسي والمنظمات القومية (الاتحاد العام التونسي للشغل، اتحاد الصناعة والتجارة واتحاد الفلاحين). وعقد المجلس القومي التأسيسي جلسته الأولى يوم 8 أفريل 1956 لما لهذا التاريخ من رمزية.
فهل حققت الدساتير والبرلمانات اللاحقة أحلام التونسيين في الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية؟
دستور غرة جوان 1959
أنجز المجلس القومي التأسيسي المهمة التي انتخب من أجلها بإصداره لدستور الجمهورية التونسية، بعد أن كان المجلس التأسيسي وهو سيّد نفسه ألغى يوم 25 جويلية 1957 النظام الملكي وأعلن قيام الجمهورية التونسية. وقد تضمّن هذا الدستور كل ما من شأنه أن يضمن للتونسيين حياة كريمة في كنف ضمان الحريات العامة والفردية. دستور مؤسس على مبدأ المواطنة الكاملة المتساوية وعلى التسليم بأن الشعب مصدر السلطات ولا سيادة لفرد أو قلة عليه. دستور يُحترم فيه الفصل بين السلطات الثلاث وتُؤكد فيه الحقوق والحريات. إلا أنّ المشرّع لم يغفل عن واقع البلاد المضطرب غداة إمضاء ما يسمّى ببروتوكول الاستقلال وما أثاره من اختلافات بين أبناء الحزب الواحد (الحزب الحاكم) وصلت حدّ الاقتتال الدموي عندما ذيّل جميع الفصول التي تتعلق بالحقوق والحريات بعبارة “حسب ما يضبطه القانون”. وهو ما ترجمته السلطة التشريعية اللاحقة بإصدار قوانين زجرية تلغي كل ما تضمنه الدستور، نذكر منها بالخصوص مجلة الصحافة التي وُظفت لمحاكمة جحافل من التونسيين المعارضين على مرّ السنين خلال حقبتي الديكتاتورية البورقيبية والنوفمبرية.
كما أنّ النظام جعل من التحويرات الدستورية المتتالية آلية لترسيخ الاستبداد، ومنها بالخصوص المصادقة يوم 19 مارس 1975 على القانون عدد 13 لسنة 1975 والذي ينص على “إسناد رئاسة الجمهورية مدى الحياة وبصفة استثنائية إلى الرئيس الحبيب بورقيبة”. ومن بين دوافع التعديل اللاحقة ما أقدم عليه بن علي لتمديد فترات انتخابه حيث كان الدستور لا يسمح بتجديد العهدة الرئاسية أكثر من مرتين متتاليتين، وهو ما مكنه من البقاء في الحكم مدة 23 سنة عوضا عن 10 سنوات يسمح بها الدستور.
وهكذا استحال النظام الذي أقرّه دستور 1959 من نظام رئاسي إلى نظام رئاسوي يحكمه الواحد الأحد واستحال فيه البرلمان إلى غرفة تسجيل ومصادقة على كل ما تمليه السلطة التنفيذية وخاصة رئيسها.
دساتير ما بعد الثورة
وللقطع مع عهد الاستبداد، رفض التونسيون بعد الثورة الإبقاء على دستور 1959 وإدخال بعض التنقيحات عليه بل طالبوا بانتخاب مجلس تأسيسي تكون مهمته الرئيسية صياغة دستور جديد يقطع مع الاستبداد ويوفر للتونسيين ما طالبوا به منذ 8 أفريل 1938. لكن حزب حركة النهضة المزهوّ بفوزه بأكبر عدد من المقاعد في انتخابات المجلس التأسيسي، ارتأى غير ذلك وحاول بكل الأساليب والطرق تمرير دستور رجعي يقضي على مكاسب الشعب التونسي القليلة ويُدخل البلاد في نفق من الظلمات. فكانت هبّة الشعب التونسي ضدّ ما عُرف بدستور 1 جوان 2013 وفرض صياغة جديدة تأخذ بعين الاعتبار ما كان يعتمل في أوساط الشعب التونسي من مطالب ديمقراطية مدنية. فصادق البرلمان يوم 27 جانفي 2014 على دستور توافقي يعكس لا فقط موازين القوى القائمة داخل المجلس التأسيسي بل وكذلك نبض الشارع السياسي الديمقراطي. ورغم هناته ونقائصه، ونظرا لما تضمّنه من مكاسب أطلق عليه طيف كبير من التونسيين تسمية “دستور الثورة”. وتأكدت لديهم هذه القناعة بعد انقلاب الخامس والعشرين من جويلية 2021 الذي ألغى العمل به ليفرض مكانه دستور 25 جويلية 2022 الذي كتبه قيس سعيّد بنفسه ومنح به لنفسه سلطات مطلقة حوّلت النظام القائم إلى نظام حكم فردي استبدادي. وكأن نص الدستور لا يكفي فقد أضاف إليه ترسانة من المراسيم الخانقة للحرّية، وهو ما يعكسه اليوم وضع التصحّر السياسي الذي استحالت إليه البلاد كما حالة السجون التي تعجّ بمساجين لا ذنب لهم سوى معارضة الحاكم بأمره.