بقلم زياد بن عبد الجليل
“لم تبرم أيّ اتفاقية إلا في أذهان هؤلاء المرضى (..) من يتحدث عن هذه الوثيقة يبدو أنه فاقد للذاكرة أو فاقد لمداركه أو أنه يتصوّر بتصريحاته أنه قادر أن يخدع التونسيين”. هذا مقتطف ممّا قال قيس سعيد يوم 6 أفريل 2025 تعليقا على سؤال وديع طرحه موفد الإذاعة التونسية حول إبرام اتفاقية جديدة لترحيل التونسيين من أوروبا.
إنّ الوثائق الموقعة والمنشورة للعموم تخبرنا عن أمر الاتفاقية التي “لم تبرم”، حيث نقرأ في مذكرة 16 جويلية 2023 التي “تفاهمت” فيها الدولة التونسية مع الاتحاد الأوربي: “(…) يتفق الطرفان على العمل على عودة واستقبال التونسيين ذوي الوضعية الغير نظامية في أوروبا (…)”. وأمّا الواقع العنيد فيخبرنا أنّ المطارات التونسية، وخاصة المطارات النائية عن الحركة الجوية العالمية وعيون التونسيين: النفيضة وطبرقة، تستقبل بشكل دوري رحلات ترحيل المهاجرين التونسيين الممنوعين من الإقامة في إيطاليا وألمانيا وفرنسا. وما تواتر هذه الرحلات والارتفاع المطرد للمرحلين فيها إلا دليل على التزام الدولة التونسية بما جاءت به مذكرة 16 جويلية 2023 ومحاضر جلسات سابقة (مع إيطاليا في 1998، مع ألمانيا في2017، مع فرنسا في 2008) توجب على الطرف التونسي التعاون مع الأطراف الأوروبية للتعرف على المهاجرين التونسيين وتسليم وثائق سفر لهم واستقبالهم في المراكز الحدودية بالمطارات التونسية.
لا يجب أن يجنح بنا النظر في الترتيبات والاتفاقات المبرمة عن التطرق إلى ما يواجهه المهاجرون العابرون بجرأة البحارة القدامى عرض المتوسط، فهم الذين يلاحقهم الترحيل كالموت ويطرقون كل السبل للهرب منه حتى الموت. فإذا أفلت بعضهم من شباك الحرس البحري التونسي وولجوا المياه الإقليمية الإيطالية، تعترض قواربهم زوارق خفر السواحل الإيطالي الذي يودعهم في ما يسمى “مراكز استقبال وإيواء”. يحتجزون فيها وتنتزع معطياتهم الشخصية وتؤخذ بصماتهم لترسل إلى الدول المتعاونة، ومنها تونس، للتعرف عليهم. ولا تعدو هذه المراكز أن تكون إلا سجنا للمهاجرين يحبسون فيه بلا إذن قضائي: “قوانتانامو” للمهاجرين. تسلط عليهم فيها ألوان من سوء المعاملة، والتعذيب الجسدي والنفسي، وتنتزع فيها إنسانيتهم. توثق تقارير منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان الناشطة في إيطاليا تعرّض المهاجرين المسجونين إلى الحرمان من وجبات الطعام والحرمان من سرير أو أغطية نظيفة والضرب والإجبار على تناول عقاقير مخدّرة للسيطرة عليهم أو إجبارهم على ركوب الطائرة. ظروف قاسية يقضى فيها المهاجرون نحبهم أو ينتحرون. وقد بلغ عدد المحتجزين التونسيين الذين ماتوا أو انتحروا في مراكز الاحتجاز الإيطالية حوالي العشرة خلال سنة 2024، وقد سجّل على الأقل وفاة مسترابة لتونسي وانتحار لآخر منذ بداية 2025. وتتواتر أخبار عن سوء معاملة المهاجرين المحتجزين في مراكز الترحيل الفرنسية والألمانية والتضييق على حقهم في الاعتراض القضائي على الترحيل. إنّ المهاجرين الذين يلاحقهم البوليس في شوارع المدن الأوروبية وأولئك المحتجزين في مراكز الترحيل والمطرودين جوّا إلى تونس، كلهم يعرفون من يخادع التونسيين.
إنّ مضمون الاتفاقيات الموقعة والمنشورة، والوقائع المثبتة والأخبار المتواترة والتي نقلنا نبذة منها أعلاه، بل وتصريحات وزير خارجية قيس سعيد السابق نبيل عمار الذي قال في 4 أفريل 2023 لجريدة “الجمهورية” الإيطالية “نحن في الخطوط الأمامية لمساعدة إيطاليا على إدارة تدفقات المهاجرين”، كلها تؤكد تذيل الدولة التونسية لسياسة الاتحاد الأوروبي المعادية للمهاجرين عموما. لقد بصم قيس سعيد بأصابعه العشرة على اتفاقية تجدد فيها الدولة ما قطعته سابقا من التزامات للاتحاد الأوربي، وتقطع فيها التزامات جديدة مهينة للمهاجرين التونسيين، تشي بأصالة الطابع العميل للدولة التونسية التي حوّلتها الشعبوية اليمينية إلى حليف للفاشيات الأوروبية وحارس لحدود إيطاليا ومصيدة للمهاجرين الأفارقة جنوب الصحراء، علاوة على تعاونها السخي في التعرف على المهاجرين التونسيين الممنوعين من الإقامة وتيسير ترحيلهم القسري. وليهنأ بعد ذلك الأوروبيون بهذه الدولة الحليفة التي تسكت حتى عن المطالبة بالتحقيق في وفاة مواطنيها وتتصامي عن مطالب عائلات المهاجرين المحتجزين والمفقودين. ولعلّ قيس سعيد وهو يحاول التنصّل من مضمون مذكرة التفاهم التي وقّعها والتذكير بما عقده أسلافه من اتفاقات، يثبت من حيث لا يحتسب أن نظام حكمه اليميني الشعبوي لا يزال وفيّا لسياسة دكتاتورية حزب الدستور والإخوان والنداء في ملف الهجرة. فإن كان الرجل صادقا وعازما على “القطع مع الماضي بأدوات جديدة”، فلماذا لم يرم تلك الاتفاقات في وجه ميلوني ولم يلغ كل أوجه التعاون لطرد المهاجرين الممنوعين من الإقامة. إنّ الحقيقة حول سياسة الدولة التونسية في ملف المهاجرين التونسيين يبوح بها الناطق باسم الحكومة الفرنسية غابريال عطال في نوفمبر 2021 والذي قال في تصريح لقناة سي-نيوز اليمينية الفرنسية “(…) إنّ الأمور تتقدم مع تونس، لقد تمكنّا من ترحيل المئات من الأشخاص بعد أن سُلّموا وثائق سفر قنصلية”.
إن قيس سعيد هو الماسك بزمام الدولة، وهو عليم بالتزاماتها في ملف المهاجرين التونسيين، بل هو الذي يصوغ السياسات بمنطوق الدستور الذي خطه بيده، فلا يمكن إذن حمل تصريحه الأخير حول الترحيل على جهله بتفاصيل الأمور بل يجب فهمه من خلال استحضار سمة مهمة من سمات الشعبوية: إطلاق التصريحات النارية المبنية للمجهول لتحميس حشده، والإيهام بوجود تناقض بين الشعب وقائده الملهم من جهة وبين زمرة تتآمر سرا من جهة أخرى. ولعل حدة لهجته في هذا التصريح تنذر بتحرك ماكينة القمع في اتجاه الجمعيات والأصوات التي تدافع عن المهاجرين التونسيين في الخارج وتفضح سياسات الدولة العميلة وهرسلتهم قضائيا بتهم من قبيل التآمر أو العمالة لجهات أجنبية أو إتيان أمر موحش في حق الحاكم بأمره، بعد أن استعاد قضاء التعليمات في عهده عافيته وسحق الجمعيات والمواطنين الناشطين في استقبال المهاجرين الوافدين من بلدان جنوب الصحراء.
إن التضامن مع المهاجرين المحتجزين في مراكز الترحيل ومع المهاجرين الهاربين من خطر الاحتجاز والترحيل الذي يتربص بهم في الغربة، وصون حقوقهم المضمونة بالاتفاقيات الدولية هي من أولويات العمل المدني والسياسي في الهجرة. عمل يتطلب اليوم مزيدا من التشبيك والتعاون بين المهاجرين الممنوعين من الإقامة أنفسهم بمعية مكونات المنتظم التقدمي والديمقراطي، وبعيدا عن الشبكات الزبونية التابعة للنظام القديم وللإخوان. ويمكن أن يرتكز العمل على قاعدة المقترحات المباشرة التالية:
- رصد كل الانتهاكات التي يتعرض لها المهاجرون الممنوعون من الإقامة والتشهير بها،
- ضمان حقهم في الاعتراض قضائيا على احتجازهم وترحيلهم قسرا،
- ضمان حقهم في المعاملة اللائقة،
- فضح تعاون السلطات التونسية مع السلطات الأوروبية والضغط لأجل تأجيل أو إلغاء الترحيل،
- تعزيز التضامن مع وبين المهاجرين الممنوعين من الإقامة
أمّا استراتيجيا فلا يمكن القطع مع تذيّل الدولة التونسية وخضوعها للإملاءات الأجنبية في ملف المهاجرين إلا بتفكيك دولة العمالة وضرب أساسها المادي وإقامة الجمهورية الشعبية على أنقاضها، فقيس سعيد، الماسك اليوم بدفّة الدولة ورئيس وظائفها، ليس إلا صورة مشخصة لشكل دولة العمالة الحالية بعد أن تلوّنت بألوان دكتاتورية حزب الدستور وديمقراطية البورجوازية الفاسدة بنكهة المساكنة بين الإخوان والنداء.