بقلم علي البعزاوي
الأكيد أنّ طوفان الأقصى أعاد الملف الفلسطيني إلى جدول أعمال المجتمع الدولي مؤسسات وأنظمة وشعوبا بعد أن أوشك على الضياع في ظل موجات التطبيع والعربدة الصهيونية والدعم اللامشروط للكيان الصهيوني من طرف القوى الامبريالية وفي مقدمتها الأمريكية والأوروبية. وهذا يعتبر مكسبا هاما للشعب الفلسطيني ولقضيته العادلة ولقوى المقاومة التي صمدت وقاتلت بكل ما أوتيت من قوة وتصميم على تحقيق الأهداف. لقد عرّت هذه الجولة من المقاومة التي استمرّت لسنة ونصف تقريبا هشاشة هذا الكيان باعتباره نمرا من ورق يعيش على المساعدات والهبات والدعم العسكري والسياسي الامبريالي ويقتات من تواطىء وخيانة الأنظمة العربية العميلة والمطبعة. كما أكدت الوقائع على الأرض أن هذا الكيان لا يمكن أن يصمد ويستمر في الحياة بدون هذا الدعم وهذا التواطىء الرسمي. وهروب عشرات آلاف المستوطنين وبلا رجعة نحو الدول الغربية وإصرار آلاف الآخرين منهم على عدم العودة إلى منازلهم بشمال فلسطين المحتلة خوفا من ضربات المقاومة اللبنانية رغم توغل جيش الاحتلال الصهيوني داخل بعض قرى جنوب لبنان وتشكيله لنوع من الحزام الواقي من تسلل المقاومين إلى مناطق المطلة ومزارع شبعا وغيرها من المناطق المتاخمة للجنوب اللبناني، يؤكد هذا الواقع الجديد الذي يشكل مكسبا استراتيجيا للمقاومة يمكن البناء عليه على طريق التحرير.
كيان لقيط وهجين
الكيان الصهيوني كيان مصطنع زرعته الدول الاستعمارية على أرض فلسطين العربية التي ليست أرضه وشيدت له المدن والقرى والمدارس والجامعات والمستشفيات ومكنته من كل أسباب الحياة والرفاه في منطقة تعتبر من أخصب المناطق وأجملها في الشرق العربي باعتبارها تطل على البحر ولها شواطئ جميلة تستقبل سنويا ملايين المصطافين والسياح القادمين من مختلف دول العالم. وقد خططت الدول الاستعمارية لتجعل من هذا الكيان الغاصب “نموذجا” للديمقراطية الليبرالية التي يمكن أن تشكل قدوة وقبلة لشعوب المنطقة حتى تنسج على منوال هذه الدولة/الكيان المفبرك على قياس ومزاج البورجوازية الغربية. لقد بات مطلوبا من الدول العربية أن تحترم هذا “النموذج” وتنسج على منواله فتشيع قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والتسامح والتعايش داخل مجتمعاتها مقابل الحصول على المساعدات والدعم المادي والعسكري. وبات الحصول على قرض من المؤسسات المالية النهابة مشروطا بالتعايش مع الكيان الصهيوني والتطبيع معه والنسج على منواله. لكن هذه الصورة المفبركة سرعان ما سقطت أمام تصاعد وتيرة العمل المقاوم وبات الصهيوني “النموذج” فاشيا ومجرم حرب يرتكب المجازر في حق الأطفال (17 ألف طفل شهيد في غزة و39 ألف فقدوا أحد والديهم خلال الحرب على غزة) والنساء ويقتل عمال الإغاثة والصحافيين عمدا ويهدم المستشفيات فوق رؤوس المرضى ويفجر الجامعات والمدارس وآبار المياه وينكل بالمساجين والمعتقلين ويدوس على القانون الدولي وعلى حقوق الإنسان بدل نشرها ودعمها ويغتصب النساء وينتزع الأراضي ويقيم الحواجز والجدران الفاصلة للمناطق ويمنع أصحاب الأرض التاريخيين من التواصل فيما بينهم واستغلال أراضيهم وجني محاصيلهم الزراعية ويجبرهم على العيش في مخيمات أو الهجرة وقد بعث اليوم مؤسسة للهجرة “الطوعية” ستعمل على توفير مستلزمات الترحيل من هبات وعقود عمل وغيرها حتى يتخلص من أصحاب الأرض الأصليين على غرار ما حصل للهنود الحمر في أمريكا عندما اجتاحها الأوروبيون في أواخر القرن الخامس عشر. لقد كشر الصهاينة عن أنيابهم وعادوا إلى جوهرهم الأصلي كغزاة ومحتلين وعصابات فاشستية ممولة من القوى الاستعمارية.
الكيان الصهيوني ذراع الامبريالية
إن زرع العصابات الصهيونية في أرض فلسطين العربية كان مخططا له من قبل غلاة الاستعماريين الغربيين الذين أجبرتهم نضالات الشعوب العربية في سوريا ومصر والعراق وشمال أفريقيا وغيرها على الانسحاب وتمكينها من الحرية والاستقلال. كان لا بدّ من وجود هذا الكيان السرطاني الدخيل لتأمين السيطرة على ثروات الدول العربية والحيلولة دون توحدها في أمة قوية تمتلك بطبيعتها عناصر النهوض والتقدم من ثروات هائلة (بترول، غاز، فسفاط، أراضي زراعية خصبة، آلاف الكيلومترات من الشواطئ…) وامتداد على رقعة جغرافية واسعة جدا والتميّز بتنوع وثراء ثقافة شعوبها وقدرات نخبها إضافة إلى موقعها الاستراتيجي. وهي وفقا لهذه المعطيات تعتبر منافسا جديا للقوى الاستعمارية الأوروبية وتشكل على المستوى الاستراتيجي خطرا عليها.
من هذه الزاوية حددت القوى الاستعمارية الهدف من زرع هذا الكيان اللقيط ورسمت له الأدوار التي يجب عليه الاضطلاع بها حتى يضمن لنفسه البقاء والاستمرار من جهة ويؤمن مصالح القوى الاستعمارية وكبرى شركاتها ومؤسساتها المالية النهابة في المنطقة من جهة أخرى. وفي هذا الإطار تتنزل اعتداءات هذا الكيان على المفاعلين النوويين في العراق وسوريا والهجوم على مصر الناصرية وضرب مقدراتها العسكرية بهدف إخضاعها وإجبارها على التطبيع وهو ما حصل في عهد الرئيس الراحل أنور السادات وتواصل إلى اليوم. وفي نفس الإطار أيضا تتنزل ضربة حمام الشط في تونس والاعتداءات المتكررة على جنوب لبنان لضرب مقومات نهوض المقاومة وأخيرا اجتياح سوريا بعد إسقاط نظام عائلة الأسد وتدمير ترسانتها العسكرية واجتياح غزة وشنّ حرب إبادة وتهجير الفلسطينيين بهدف تحقيق مشروع إسرائيل الكبرى التي تغطي كل فلسطين التاريخية وتقضم أجزاء من مصر والأردن وسوريا ولبنان والسعودية، كجزء من مشروع الشرق أوسط الجديد الذي تهيمن فيه الامبريالية الأمريكية على كامل المنطقة بالاعتماد على وكيلها الكيان الصهيوني. ولهذا السبب تمدّه بأحدث أسلحة الدمار الشامل لضمان تفوقه العسكري وتوفر له أسباب الصمود إزاء المقاومة المتصاعدة والمتنامية جغرافيا وبشريا إلى جانب البيئة الحاضنة والداعمة لها التي ما فتئت تتوسع.
الأنظمة العميلة عقبة أمام تحرير فلسطين
تشكل الأنظمة العربية العميلة عنصر استقرار للكيان الصهيوني فهي تدعمه ماليا ولوجستيا وعسكريا وتتصدى لصواريخ المقاومة المتجهة من اليمن والعراق نحو الأراضي المحتلة وتوفر له المياه والمحروقات والسلع وكل أسباب الحياة وتطبع معه في السر والعلن وتسمح للبواخر الحاملة للسلاح بالرسو في موانئها قبل الوصول إلى الموانىء الإسرائيلية وتحاصر المقاومة في غزة ولبنان واليمن وأينما وجدت وتمنع شعوبها من التعبير عن مساندتها لها. وترفض تدفق المساعدات والسلع الضرورية داخل قطاع غزة وتقبل صاغرة بالحصار المفروض عليه وبغلق المعابر مساهمة بذلك في سياسة التجويع والإبادة للشعب الفلسطيني. إن مشاركة الكيان الصهيوني في جرائمه ضد الشعب الفلسطيني تتم بمقابل يتمثل في الحصول على الدعم من القوى الاستعمارية الراعية للكيان عبر المساعدات والقروض والاستثمارات وضمان الاستمرار في الحكم. وقد هبت الامبريالية في أكثر من مناسبة لنجدة هذه الأنظمة ضد محاولات الإطاحة بها وتهديد مصالحها الاستراتيجية في المنطقة. لقد تدخلت في تونس في 2011 لإبقاء التغيير في مستوى شكل السلطة دون المساس بجوهرها الطبقي التابع والحامي لمصالح كبرى شركات ومؤسسات الدول الاستعمارية وتدخلت في سوريا لحرف الثورة عن مسارها الطبيعي وتحقيق أهدافها وقسمت اليمن وساعدت على إسقاط حكم القذافي ومكنت الملك محمد السادس من ضم الصحراء الغربية للمملكة المغربية مقابل التطبيع.
لقد شكلت الأنظمة العربية العميلة والمطبعة عقبة حقيقية أمام تحرر فلسطين وحالت دون ضرب المصالح الامبريالية في المنطقة التي تتعارض مع مصالح الشعوب العربية التواقة إلى الاستقلال والتحرر والانعتاق.
تحرير فلسطين رهين التحرر من الهيمنة الامبريالية
يمثل الاستعمار الاستيطاني الصهيوني خطرا على الجميع، خطرا على الفلسطينيين أولا، بمواصلة إخضاعهم ومصادرة أراضيهم واستغلال ثرواتهم ومحاولة إذلالهم وتهجيرهم وقتلهم، وخطرا على الشعوب العربية التواقة إلى الاستقلال والسيادة على ثروات بلدانها والتخلص من الهيمنة الامبريالية التي تعيق نهوضها وتطورها المستقل، وخطرا على الأنظمة العميلة ذاتها إذا لم تستجب بالكامل لمطالب الامبريالية ورفضت الانصياع وخدمة الأجندات الصهيو-امبريالية.
إن تحرير فلسطين ودحر العصابات الصهيونية يمر حتما عبر تحرر باقي الشعوب العربية من الهيمنة الاستعمارية الجديدة وأدواتها المحلية البورجوازيات الكبيرة العميلة. هذا التحرر والاستقلال يفتحان طريق التحرر والانعتاق أمام الشعب الفلسطيني لأن بيئة متحررة من التبعية والهيمنة الامبريالية ستشكل حاضنة للمقاومة وداعمة لها بالمال والسلاح وسياسيا ومعنويا. وهي في المقابل بيئة معادية للصهيونية والامبريالية عدوة الشعوب. الكيان الصهيوني في ظل هذه البيئة الجديدة لن يكون قادرا على الحياة وعلى الاستمرار وسيكون بمثابة الكائن الغريب المدعو إلى التلاشي والانهيار مثله مثل النبتة الهجينة التي لا يمكنها أن تنبت وتكبر وتزهر في بيئة لا تقبل بها ولا توفر لها أسباب الحياة.
إن تحرر الشعب الفلسطيني من الاستعمار الاستيطاني الصهيوني رهين تحرر الشعوب العربية من الهيمنة الاستعمارية الجديدة وبناء دولها الديمقراطية الشعبية المستقلة المكرسة للسيادة الوطنية والعدالة الاجتماعية. خارج هذا الإطار يظل الحل الجذري والدائم للقضية الفلسطينية، قضية العرب المركزية، صعب المنال إن لم نقل مستحيلا. إن نضالات الشعوب العربية مترابطة ومتكاملة ولا يمكن فصلها عن بعضها البعض. وتحرير فلسطين التاريخية مرتبط بتحرير باقي الدول العربية. وعلى هذا الأساس، فإن الشعوب العربية مدعوة إلى مواصلة النضال على واجهتين : النضال ضد الهيمنة الامبريالية على بلدانها وإسناد الشعب الفلسطيني ومساعدته على المراكمة من أجل تحقيق استقلاله وتحرره من هيمنة العصابات الصهيونية النازية.