الرئيسية / صوت الوطن / المحاكمة عن بعد: من الصّعب أن تكون محاكمة عادلة
المحاكمة عن بعد: من الصّعب أن تكون محاكمة عادلة

المحاكمة عن بعد: من الصّعب أن تكون محاكمة عادلة

تصريح الأستاذ حسان التوكابري لموقع صوت الشعب

تعتبر المحاكمة العادلة حقا أساسيّا تضمنه المواثيق الدوليّة مثلما جاء بالمادّة 6 من الاتفاقيّة الأوروبيّة لحقوق الإنسان.

ومن شروط المحاكمة العادلة علنيّة الجلسات، حق الدّفاع، المثول الفعلي أمام المحكمة

ومنذ سنة 2020 تقريبا عرف العالم جائحة تتمثّل في تفشّي وباء الكوفيد، غيّر من سلوكيّات النّاس ومنع التّواجد واللقاءات في الفضاءات لخطورة تفشّي العدوى، فوجدت الدّول نفسها مجبرة على التّكيّف مع هذا الواقع ومنها واقع المحاكم وضرورة النّظر في وضعيّة الموقوفين وحقوقهم الشّرعيّة واحترام آجال الإيقاف والاحتفاظ وفصل قضاياهم بالاستناد إلى الثّورة الرّقميّة التي عرفها العالم والتّطوّر العلمي الهائل فجاءت تشريعات حديثة تبيح المحاكمة عن بعد باستعمال الوسائل السّمعيّة والبصريّة.

وشأنه شأن باقي المشرّعين، صدر بتونس المرسوم عدد 12 لسنة 2020 المؤرّخ في 27 أفريل 2020 عن رئيس الحكومة بموجب تفويض من مجلس نوّاب الشّعب بالنظر إلى تفشّي الوباء وضرورة التّوقي منه وديمومة المرفق العام كمرفق العدالة يقضي بإتمام مجلّة الإجراءات الجزائيّة بإضافة الفصل 141 مكرّر للمجلّة يخوّل بمقتضاه للمحاكم أن تقرّر من تلقاء نفسها أو بطلب من النّيابة العموميّة أو المتّهم حضور المتّهم المودع بالسّجن لجلسات المحاكمة والتّصريح بالحكم الصّادر في شأنه باستعمال وسائل الاتّصال السّمعي البصري المؤمّنة للتّواصل بين قاعة الجلسة المنتصبة بها المحكمة والفضاء السّجني المجهّز للغرض وذلك بعد عرض الأمر على النّيابة العموميّة لإبداء الرّأي.

واشترط لذلك شروطا:

  • موافقة المتهم.
  • أن يكون قرار المحكمة اعتماد وسائل الاتّصال السّمعي البصري كتابيّا ومعلّلا.
  • إعلام مدير السّجن المعني والمتّهم ومحاميه بكلّ وسيلة من شأنها أن تترك أثرا كتابيّا خمسة أيّام قبل تاريخ الجلسة.
  • تمتّع المتهم بكلّ ضمانات المحاكمة العادلة
  • وخوّل المشرّع للمحامي التّرافع من الفضاء السّجني أو من قاعة المحكمة وإن اختار الترافع من الفضاء السّجني ورام تقديم مؤيّدات أو تقارير كتابيّة فعليه تقديمها قبل يوم واحد على الأقلّ من تاريخ الجلسة للمحكمة.
  • وعند حصول عطب أو خلل فنّي فتعلّق الجلسة لمدّة لا تتجاوز السّاعتين أو تؤجّل لموعد لاحق بعد أخذ رأي النّيابة. (ولذلك توقّى المشرّع من مسألة عدم الاستعداد التقني واللّوجستي الكافي للغرض)

كما أنّ قرار المحكمة في اعتماد وسائل الاتصال السّمعي البصري قرار بات لا يقبل الطّعن بأيّ وجه من الوجوه.

إذا وبقراءة سريعة لهذا المرسوم نجده جاء في ظرف استثنائي اتّسم بتفشي جائحة الكوفيد أي ظرف محدّد ومقترن بشرط موافقة المتّهم مع التّأكيد على ضمان المحاكمة العادلة.

فماذا لو رفض المتهم المحاكمة عن بعد، وأصدرت المحكمة قررها غير القابل للطّعن بأيّ وجه يقضي بإجراء المحاكمة عن بعد، هذا ما لم يُجب عنه المشرّع التّونسي وطالما أنّ مصلحة المتّهم الشّرعيّة هي التي تقدّم وضمانات المحاكمة العادلة من أسسها العلنيّة والحضور بالجلسات فإنّه من باب أولى وأحرى مسايرة المتّهم في رفضه المحاكمة عن بعد طالما أنّ الخوف من مسألة صدور المرسوم بموجبها زالت وبذلك تزول الآثار.

وأنّ التّوسّع في اعتماد المحاكمة عن بعد لأسباب أمنيّة مثلا جاء من باب التّزيّد وتحميل التّفويض الممنوح أكثر ما يحتمل، لأنّ رقمنة العدالة وتعصيرها واعتماد الوسائل الالكترونيّة تخرج عن نطاق مرسوم جاء بتفويض في ظرف استثنائي جدّا.

والتّصوّر الشّامل للرّقمنة كما في بلدان أخرى كالجزائر أو إمارة أبو ظبي مثلا جاء في إطار تقني يتجاوز مسألة ظرفيّة عابرة لا كما الأمر عندنا، إذ أنّ المذكّرة الممضاة منذ سنة 2017 ما زالت لم تأخذ طريقها إلى التّنفيذ التّام إلى اليوم.

وأنّ المرسوم خصّ حالة بعينها واقتصر على محاكمة المودعين بالسّجن على عكس المشرّع الفرنسي الذي توسّع ليشمل جميع المحاكمات وكلّ الأطراف شهودا ومتضرّرين ومحامين وأمام سائر الدّرجات إيقافا واحتفاظا، وخوّل لقاضي منفرد تعويض التركيبة الثلاثيّة وهي النجاعة التي توخّاها توسّعا فيمن تشملهم المحاكمة عن بعد في ذلك الظّرف بالذات.

وذهب به الأمر إلى حدّ تقنين مسألة التسجيلات والصّور وآجال الاحتفاظ بها محافظة على المعطيات الشّخصيّة وآجال إتلافها ليظلّ هاجس المحاكمة العادلة هو المخيّم وضرورة احترامها ومن بينها احترام رأي المتهم ومدى قبوله بالمحاكمة عن بعد تماما كالجزائر أو المغرب التي نضّمت حوالي 75 ألف محاكمة عن بعد شملت حوالي 850 ألف شخص وكذلك فرنسا وبلجيكا التي أوجبت موافقة المتهم ووجوبيّة حضور المحامي.

إذا موافقة المتّهم شرط أساسي، فالمتهم يتطلّع إلى الحضور بالجلسة ليحاكم ويخاطب القاضي ووجدانه بملامحه وهيئته وطريقة تجاوبه وأسلوب جوابه حركات وسكنات ونبرات، كلها تساعد وتساهم في كشف ما يريد أن يعبّر عنه. فالمتهم إنسان جسد وروح يدافع عن نفسه ويحاول تبرئتها والمتلقي محكمة تسمع وتدوّن وتلاحظ وتتفاعل سلبا وإيجابا.

إذا، المحاكمة هي كلّ ما سبق الإشارة إليه مع المواجهة بالتّصاريح والكتابات والتّساجيل والشّهادات والصّور والبصمات والمحجوز والآثار

وردّة الفعل الحينيّة أو البعديّة وطريقة الإجابة وغيرها تساعد القاضي على الفهم أكثر والإقتناع.

فكيف للإجابات النمطيّة أو الخشبيّة عن بعد أن تساهم في كشف الحقيقة.

الحضور بالجلسة العلنيّة بالنّسبة إلى المتهم الماثل أمام هيئة حكميّة ووراءه محاميه يشعره بالطّمأنينة على سلامة الإجراءات والتواصل معه مباشرة وهو شعور قلما أن يتوفر بقاعة داخل سجن فضلا عن الجمهور المتكون غالبه من عائلته وأصدقائه تبعد عنه كلّ إحساس بالغربة والوحدانية والضعف وتعطيه شحنة من الأمل والشّعور بالدّفء ولو لحين والاطمئنان لمعاينة حالته الجسديّة والصّحّيّة والنّفسيّة من قبل المحكمة وكلّ هؤلاء أضف إلى ذلك الإعلاميّين والصّحفيّين بالنّسبة إلى نوعيّة من المتهمين الحاضرين تضفي على المحاكمة أكثر عدالة لتكون المحاكمة عن قرب هي المبدأ والأساس، وفي غياب ذلك وغياب موافقة المتهم الصريحة وإرادته الحرة المعبّر عنها كتابة فلا أخال المحاكمة عن بعد محاكمة عادلة مهما صدقت النوايا.

إلى الأعلى
×