لم يكن يوم 14 أفريل يوما عاديا في المزونة هذه المدينة الريفية، المفقّرة، المسحوقة، المحقورة، مثلها مثل بقية مدن وقرى وأرياف سيدي بوزيد ومعظم جهات بلادنا. سقط جدار المعهد الثانوي على المارّة من التلاميذ، ومات على الفور ثلاثة منهم، وأصيب آخرون حالة أحدهم حرجة.
سقط جدار المعهد وكان سقوطه إحدى علامات سقوط المنظومة الحاكمة. إنّ المنظومات القهرية والاستبدادية تسقط من قلوب الناس قبل سقوطها المادي. سقط الجدار الآيل للسقوط منذ مدة طويلة، ورغم مراسلات مدير المعهد للجهات المسؤولة، إلا أنّ التدخل لم يتمّ علما وأن كلفة الإصلاح لا تتجاوز بضع مئات الدنانير حسب عديد التسريبات. لكن المسألة أعمق فهي مسألة إهمال عام وشامل وتدمير ممنهج للخدمات العامة وفي مقدمتها التعليم الذي أخضع منذ عقود لمعايير الربح. وهو ما يفسّر غضب الناس وخروجهم للاحتجاج. وما كان من سلطة الانقلاب التي لم تغيّر شيئا من الاختيارات السابقة إلا أن أرسلت إليهم على وجه السرعة التعزيزات الأمنية لقمعهم والتنكيل بهم لتقيم العائلات الثكلى مآتمها ومراسم عزائها برائحة الغاز المسيل للدموع، ولم تتردّد سلطة الانقلاب الفاشية لحظة واحدة في قطع التيار الكهربائي والماء الصالح للشراب تنكيلا بالأهالي حتى أنّ العائلات لم تجد ما تغسل به موتاها قبل دفنهم.
لقد شكلت حادثة المزونة لحظة هامة في انطلاق حراك احتجاجي بدأ يتوسّع إلى الجهات القريبة (المكناسي ومنزل بوزيان والرقاب وجلمة)، وهو مرشح ليشمل مناطق أخرى من الولاية، وقد رفع المحتجون شعارات اعتادوا رفعها منذ سنوات لأنه لم يتحقق منها أيّ شيء، إنها شعارات التنمية العادلة وتوفير الخدمات الأساسية لمناطق ظلت مهمشة على الدوام، وبطبيعة الحال فإن الردّ الوحيد للحاكم بأمره هو القمع والمزيد منه، ومخاطبة الناس من شاشة التلفاز لترويج المزيد من المغالطات وتحميل المسؤولية كالعادة لبعض الموظفين حتى لا يحمّلها لنفسه وهو الذي يمسك بين يديه كل السلط منذ سنوات دون أن يحقق شيئا ملموسا للشعب الذي ما انفك يدرك تدريجيا خواء الشعارات التي يرفعها.
لقد كشفت أحداث المزونة عن حجم المعاناة التي يعيشها عموم الشعب كما بيّنت للمرة الألف أنّ دولة الأقليات الاستبدادية ليس لها ما تقدمه إلا القمع، وبيّنت أيضا أنه لا خيار لنيل الحقوق إلا انتزاعها عن طريق النضال، النضال الواعي والمنظم والمُنقاد ببرنامج للتغيير على مختلف الأصعدة. كما بان بالكاشف أنّ التعويل على الحكم الفردي لا معنى له سوى نشر الوهم حول “المنقذ” المزعوم الفاشل والعاجز اليوم حتى عن إنقاذ نظامه الذي بانت عيوبه وتشققت كل زواياه. إنّ احتجاج المفقرين في المزونة وباقي مناطق الهامش المقهور يربط مع الإرث النضالي للجهة وللشعب، إنّ ما يجري في المزونة نهارا وليلا هو استعادة لما جرى في الحوض المنجمي وفي الرديف تحديدا سنة 2008، كما أنّ ما تمارسه السلطة من قمع همجي هو استعادة لنفس ما مارسته سلطة بن علي، والمآل لن يكون إلا مماثلا فمنظومة العجز والفشل، ستتصدع اكثر فأكثر في الوقت الذي ستراكم فيه الجماهير القوى لتصبح قادرة على التخلص من تلك المنظومة بعد ان تكون قد استوعبت الدرس من تجاربها السابقة.
إن مصلحة شعبنا كما بيّنته الوقائع ليست في المنظومة، الحالية، منظومة التبعية والفساد والاستبداد، بل في منظومة جديدة شعبية وطنية وديمقراطية تصوغ خيارات اقتصادية واجتماعية لصالح الأغلبية المفقرة ولصالح المهمشين والمضطهدين. إن دور القوى الثورية والتقدمية هو الربط مع مطالب الشعب والانتصار إليه وتنظيم صفوفه والرفع من درجة وعيه من أجل السير به ومعه نحو تحقيق ذلك الهدف مع اليقظة لتفويت الفرصة على كل القوى الرجعية المتربصة به حتى لا يقع مرة أخرى تعويض منظومة رجعية بأخرى مماثلة لها.
إنّ أبرز درس من كل السنوات التي تلت ثورة 17 ديسمبر – 14 جانفي هو أنه لا يكفي التخلص من المنظومة الرجعية القائمة بل لا بدّ من التفكير في المنظومة الجديدة التي ستعوضها حتى تكون في مستوى طموحات الطبقات والفئات الكادحة والشعبية. وعليه فلا عودة إلى منظومة ما قبل الثورة كما أنه لا عودة إلى منظومة ما قبل انقلاب 25 جويلية 2021 إثر الخلاص من سلطة الانقلاب. إن تحقيق مطالب الشعب لن تكون إلا بخيارات تنتصر للفقراء ضد مصاصي الدماء المحليين والأجانب وضد كل القوى الرجعية التي تمثل مصالحها.
فلنساند أهالينا في المزونة ولا نتركهم وحدهم ولنعمل على تطوير كل بؤر النضال واستنهاض الحركة من جديد فكل العناصر الموضوعية لانتفاضة جديدة قائمة كما أنّ تباشير الغضب ما تنفك تتبلور وهي تتخذ أشكال انفجارات فجائية قد تتحول في أي لحظة إلى انفجار عام سيكون الحاسم فيه مدى استعداد القوى الثورية والتقدمية لحمل مشعل التغيير حتى لا تفوّت فرصة أخرى على نفسها وعلى الشعب التونسي.
