الرئيسية / صوت الوطن / جدار معهد المزونة، جدار الحقيقة
جدار معهد المزونة، جدار الحقيقة

جدار معهد المزونة، جدار الحقيقة

بقلم حسني حمّودي

عاشت تونس يوم الاثنين 14 أفريل 2025 على وقع فاجعة هزّت كيان المجتمع برمته، حادثة سقوط جدار بمعهد المزونة من ولاية سيدي بوزيد، حادثة ذهب ضحيتها ثلاثة تلاميذ شهداءً للمدرسة العمومية كل من التلميذ عبد القادر الذهبي والتلميذ حمودة مسعدي والتلميذ يوسف غانمي.
حادثة في ظاهرها حادث عرضي يمكن أن يحدث في أيّ مكان وزمان ولكنها في حقيقة الأمر هي حادثة فتحت باب حقيقة المؤسسة التربوية على مصراعيه للحديث والتحليل والتقييم، حادثة عرّت بشكل مفضوح واقع المؤسسة التربوية ووزارة التربية بشكل خاص والوضع العام بالبلاد بشكل عام.
وللحديث في هذا المجال أعتقد أنه من الضروري التسلح ببعض الأرقام الرسمية لتكون قراءتنا مادية علمية مستندة على حقائق علمية من أجل فهم ما وقع وما يمكن أن يقع بشكل مباشر ولفهم واقع المؤسسة التربوية وواقع التعليم في تونس بشكل عام.
تقدر ميزانية البلاد التونسية لسنة 2025 بـ 78.231 مليار دينار أي بزيادة تقدر بـ 3.3 % مقارنة بالسنة الماضية، نصيب وزارة التربية من هذه الميزانية لا يتجاوز العشرة بالمائة في حين كان في السنة الماضية يقدّر بـ 15 % من قيمة الميزانية أي أنّ ميزانية وزارة التربية تراجع نصيبها من الميزانية العامة للدولة بحوالي 4 %.
أي بميزانية عامة لوزارة التربية سنة 2025 تقدّر بـ 8044 مليون دينار، في حين أنها تُعدّ أكبر وزارة من زاوية عدد المنظورين والمؤجّرين. فوزارة التربية تشغل أكثر من مليون مستخدم، منهم أكثر من 154 ألف مدرس يباشرون عملهم في 6163 مؤسسة تربوية عمومية التي بدورها تستقبل أكثر من 2 مليون و354 ألف تلميذ من بينهم أكثر من 400 ألف تلميذ يتمتعون بالإعاشة والنقل المدرسي…
كل هذه الأرقام وغيرها من الأرقام التفصيلية الأخرى تبيّن بما لا يدع مجالا للشك أنّ ميزانية وزارة التربية لا يمكنها بأيّ حال من الأحوال أن تلبّي الطلبات الدنيا لإتمام العملية التعليمية التربوية. لذلك نلاحظ أنّ السلوك العام لوزارة التربية ترقيعي من أجل المحافظة على الحدّ الأدنى من تواصل العملية التعليمية ويبدو أنّ مسألة التجهيز والبنية التحتية لوزارة التربية لا تُعدّ من الأولويات بالمرة. ولو أردنا التدقيق أكثر يجب النظر إلى ميزانية المؤسسات التربوية. لا تتجاوز الميزانية السنوية للمؤسسات التربوية 100 ألف دينار في أكبر المؤسسات (الأكبر من زاوية القدرة على استقبال التلاميذ)، ففي سيدي بوزيد مثلا لا تتجاوز الميزانية السنوية للمندوبية الجهوية للتربية 1.5 مليون دينار لتغطية 394 مؤسسة تربوية للتعليم العمومي، ناهيك أنّ مسؤولية الصيانة والبنية التحية هي مسؤولية مشتركة بين المندوبية الجهوية وسلط الإشراف بالجهة أي أنها ليست من مشمولات مديري ومديرات المؤسسات التربوية حسب الفصل 22 من الباب الثالث للأمر عدد 2205 لسنة 2010 المؤرخ في 6 سبتمبر 2010 الذي يتعلق بإحداث المندوبيات الجهوية للتربية وبضبط تنظيمها الإداري والمالي ومشمولاتها وطرق تسييرها.
هذا إضافة إلى أنّ قانون مالية 2025 تغافل عمدا أو لم يراع تماما الغلاء المشطّ للمواد الأساسية والاستهلاكية ممّا يعني ميزانية المؤسسات التربوية تكون ثابتة لا تتطور إن لم تتراجع وأسعار المواد الاستهلاكية (ورق، حبر، طباشير، المستلزمات الرياضية…) في تنامي متواصل، زد على ذلك الزيادات الكبيرة في معاليم الخدمات العمومية (الكهرباء، الماء، الانترنيت…).
كل هذه الظروف السابق ذكرها تُخلي مسؤولية مدير معهد المزونة من الواقعة، وتبيّن بشكل مفضوح وواضح وضوح الشمس أنّ ما وقع بمعهد المزونة ليس إلا قطرة من محيط النوايا الدفينة لمنظومة الحكم وعلى رأسها رئيس الجمهورية قيس سعيد الرامية إلى الخوصصة التدريجية للمؤسسة التربوية عن طريق ضربها المتواتر والممنهج.
بكل المعطيات السابقة لا يمكن أن يتحمّل مسؤولية ما حصل في المزونة وما يحصل في كل المؤسسات التربوية وما يمكن أن يحصل غير رئيس الجمهورية.
لماذا قيس سعيد؟
منذ 25 جويلية 2021 تفرّد قيس سعيد بالحكم بعد انقلابه على جزء من نفس المنظومة التي شاركها الحكم لمدة 27 شهرا، وبذلك نحن اليوم نحمّله المسؤولية الأكبر والأكثر جسامة لأنه في شخصه هو المسؤول على تركيبة الحكومة وتغييرها الجزئي أو الكلي وهو الوحيد المسؤول الذي أعطى التأشيرة للعمل بقانون مالية 2025 الذي يحتوي على كل الأرقام السابق ذكرها والتي لا يمكن أن تكون عفوية أو اعتباطية بل هي توجّه سياسي اقتصادي اجتماعي واضح المعالم ومؤسّس نظريا وفعليا.
وهذا ما سبق أن أعلنا عنه بوضوح أن قيس سعيد لا يمكن أن يكون كائنا خارج الطبقات وصراعه خارج الصراع الطبقي، بل على العكس تماما فهو يعبّر على نفس الطبقة الجاثمة على صدور التونسيات والتونسيين منذ عقود من الزمن مع تغيّرات طفيفة في ممثليها (صلب نفس الطبقة الحاكمة).
إنّ الحادثة الأليمة التي وقعت بمعهد المزونة لها دلالات عدة أهمها:
القناعة الراسخة والواضحة للعموم بانخرام البنية التحية صلب جل المؤسسات التربوية العمومية التي أصبحت عاجزة حتى على توفير قاعات أساسية للدرس، ففي عديد المؤسسات نجد وزارة التربية ممثلة في مندوبياتها الجهوية تستنجد بالأقسام الصناعية الغير ثابتة، فما بالك بقاعات المراجعة القارة للتلاميذ التي أصبح الحديث عنها مدعاة للضحك حيث نجد أكثر من 90 بالمائة من المؤسسات التربوية لا تحتوى على قاعة أو قاعات مراجعة قارة، كما أنّ في مخابر الفيزياء لأغلب المؤسسات التربوية الإعدادية والثانوية نجد مواد كميائية منتهية الصلوحية ويمكن أن تتحول إلى قنابل موقوته في أيّ لحظة، في الأغلبية الساحقة جدا من المؤسسات التربوية الأساتذة مطالبون بنسخ وثائق الدرس على حسابهم الخاص، جل المؤسسات التربوية وخاصة الداخلية تشهد شغورات في كل الأسلاك (أساتذة، إداريين، قيّمين، عملة…).
من جهة أخرى صمّت آذاننا بشعارات شعبوية لا معنى لها بل هي منافية لواقع المؤسسات التربوية بشكل خاص والبلاد بشكل عام، فها نحن اليوم أمام شعار جعلت منه الشعبوية سفينة نوح للنجاة وهو المجلس الأعلى للتربية الذي حسب تقدير رئيس الجمهورية (كلمته ليلة يوم 16 أفريل 2025) سيعوّض بشكل كامل عمل وزارة التربية ما دام هذا المجلس سيحدد استراتيجية التربية والتعليم في تونس في كل مجالاتها الإدارية والمالية والبيداغوجية والتجهيز والبناءات… وإن لم يكن كذلك فما الفائدة من ذكره في أول ظهور له بعد حادثة المزونة الأليمة؟
مرة أخرى نحن أمام شعار شعبوي لا معنى له بل هو أداة لتغطية واقع المؤسسات التربوية وإلهاء الرأي العام عمّا يجري في المزونة، كما أنه إن لم يكن -المجلس الأعلى للتربية- غير شعار أجوف لماذا كل هذا الخوف من حالة الغضب الشعبي بالمزونة وبوزيان وإن لم يكن خوفا من انتشار الاحتجاجات التي يمكن أن تطيح بحكمه لماذا هذا التوجه القمعي الهمجي من بوليسه الخاص.
إنّ ما وقع في المزونة ليس إلا تعرية حقيقية لواقع المؤسسات التربوية بتونس والتي بدورها ليست إلا جزء من واقع منهار في كل القطاعات والمجالات وآيل إلى السقوط المدوّي بمرور الزمن.
لا يمكن بأيّ حال من الأحوال إصلاح التعليم في تونس وكل القطاعات بنفس منظومة الحكم الحالية المتوارثة منذ سنوات وتأسيس نظام حكم جديد أساسه الديمقراطية الشعبية أي أساسه السيادة الوطنية والعدالة الاجتماعية والحريات العامة والفردية.

إلى الأعلى
×