بقلم أحمد والمنجي صواب
أولا : الإطار القانوني العام
صادقت الدولة التونسية بمقتضى القانون عدد 16 المؤرخ في 25 فيفري 2008 على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد (31 أكتوبر 2003) والتي نصّت في المادة 5 :
“تقوم كل دولة طرف، وفقاً للمبادئ الأساسية لنظامها القانوني، بوضع وتنفيذ أو ترسيخ سياسات فعالة منسّقة لمكافحة الفساد، تعزز مشاركة المجتمع وتجسّد مبادئ سيادة القانون وحسن إدارة الشؤون والممتلكات العامة والنزاهة والشفافية والمساءلة”.
كما جاء في المادة 6 من نفس الاتفاقية: “تكفل كل دولة وجود هيئة أو هيئات حسب الاقتضاء، تتولى منع الفساد”.
وكذلك في المادة 7 من نفس الاتفاقية: “تسعى كل دولة طرف إلى اعتماد وتدعيم نظم لتوظيف المستخدمين المدنيين، واستبقائهم وترقيتهم وإحالتهم على التقاعد على أساس مبادئ الكفاءة والشفافية والمعايير الموضوعية مثل الجدارة والإنصاف والأهلية”.
وأكدت المادة 8 على على أن “تسعى كل دولة طرف إلى أن تطبق ضمن نظمها القانونية مدونات أو معايير سلوكية من أجل الأداء السليم والمشرف للوظائف العمومية”.
ومن جهة أخرى ومن بين أهمّ المبادئ الدستورية للدولة التونسية ما نصّ عليه الفصل 15 من دستور سنة 2014 “الإدارة العمومية في خدمة المواطن والصالح العام، تنظم وتعمل وفق مبادئ الحياد والمساواة واستمرارية المرفق، ووفق قواعد الشفافية والنزاهة والنجاعة والمساءلة”.
بينما اكتفى دستور سنة 2022 في فصله 19 بمبادئ الحياد والمساواة حيث نص “الإدارة العمومية وسائر مرافق الدولة في خدمة المواطن على أساس الحياد والمساواة. وكل تمييز بين المواطنين على أساس أيّ انتماء جريمة يعاقب عليها القانون”.
ونصّ قانون عدد 46 لسنة 2018 المؤرخ في 1 أوت 2018 والمتعلق بالتصريح بالمكاسب والإثراء غير المشروع وتضارب المصالح على دعم الشفافية ومبادئ النزاهة والحياد والمساءلة.
ومن أهمّ النصوص الترتيبية في هذا المجال، صدور الأمر الأمر المتعلق بمدوّنة سلوك وأخلاقيات العون العمومي والذي أكد في بابه الأول حول قيم العمل في القطاع العام على أن يحرص العون العمومي، أثناء أداء مهامه، على احترام القانون وعلى شرعية الأعمال التي يقوم بها.
ثمّ أكدت على قيم ومبادئ المساواة والإخلاص دون السعي إلى تحقيق مصلحة خاصة والحياد والنزاهة والنجاعة والانضباط والمساءلة.
ثانياً: ضبابية الوضعية القانونية الحالية للإدارة
بمقتضى اتفاق 22 سبتمبر 2015 بين الحكومة والاتحاد العام التونسي للشغل، تمّ تكوين لجنتين مشتركتين لمراجعة قانون الوظيفة العمومية لسنة 1983 وقانون الدواوين والمؤسسات العمومية لسنة 1985 وذلك حتى تكون هذه القوانين متلائمة مع المبادئ الدستورية للدولة التونسية (الحوكمة والنزاهة والشفافية والمساءلة والتصريح بالمكاسب ومكافحة الفساد وتضارب المصالح).
وحتى تتلاءم هذه القوانين مع المعايير الدولية المضمّنة في الاتفاقيات الدولية المصادق عليها من الدولة التونسية (الحق في العمل اللائق والأجر العادل والحق النقابي والحق في التكوين والحق في عالم عمل خال من العنف والتحرش ويضمن حقوق الفئات الهشة والضعيفة).
وحتى تراعي هذه القوانين الراجعة لعهد بورقيبة ما أمكن من فقه القضاء الإداري وهو غزير ومستقر وروحه موازنة بين حقوق العون العمومي وواجباته وكذلك بين مصالح الموظف والمصلحة العامة.
ورغم تعثر المسار التفاوضي لمراجعة هذه القوانين نتيجة للتحويرات الحكومية العديدة على رأس الوزارة المشرفة على الوظيفة العمومية، فقد سجلت المقاربة التشاركية اتفاقا حول المبادئ العامة والحقوق والواجبات والأبواب المتعلقة بالمسار المهني للأعوان العموميين والحق النقابي.
كما سجل المسار التفاوضي نقاطاً خلافية ترجع إلى اختلاف في المرجعيات بين رؤية الاتحاد للمرفق العام في إطار الدولة الاجتماعية ورؤية الحكومة من خلال استراتيجية “لتحديث الإدارة” تهدف إلى التقليص من دور المرفق العام وإقحام القطاع الخاص في الوظيفة العمومية وإدخال آليات تصرّف تحدّ من ضمانات واستقلالية العون العمومي.
ومنذ تركيز سلطة 25 جويلية سنة 1921، انقطع المسار التفاوضي بين الحكومة والاتحاد وأصبحت مشاريع القوانين والأوامر ترسل للوزارات فقط لإبداء الرأي بدون أيّ مقاربة تشاركية مع الطرف الاجتماعي.
ثالثا : الحملات السياسية والتشريعية “لتطهير الإدارة”
بعد حملات سياسية متواصلة تهدف إلى “تطهير الإدارة”، صدر بصفة أحادية الأمر عدد 591 المؤرخ في 21 سبتمبر 2023 والمتعلق بإجراء تدقيق شامل لعمليات الانتداب والإدماج بالوظيفة العمومية والمؤسسات العمومية المنجزة من “14 جانفي 2011 إلى 25 جويلية 2021” (وهي تواريخ تثير عديد التساؤلات).
ورغم انتهاء آجال أشغال لجان التدقيق ورغم إضافة شهرين آخرين لهذه اللجان حيث يصبح الأجل النهائي للتقرير الختامي حسب بعض القراءات في نهاية مارس 2024.
وإلى حد هذا التاريخ ؛ 15 أفريل 2025، لم يتوصّل الرأي العام إلى أيّ نتائج أو نشر التقرير الختامي بعد أكثر من سنة من انتهاء آجال أعمال هذه اللجنة.
وفي نفس الرائد الرسمي عدد 108، صدر الأمر عدد 592 المؤرخ في 21 سبتمبر 2023 والمتعلق بتنقيح الأمر عدد 1245 المؤرخ في 24 أفريل 2006 المتعلق بضبط نظام إسناد الخطط الوظيفية والإعفاء منها.
ويعتبر هذا الأمر من أهم قرارات نظام 25 جويلية لتطبيق سياسة التمكين وتركيع الإدارة إذ أنه يحتوي على فصل وحيد وهو إلغاء أحكام الفصل 9 من أمر 24 أفريل 2006 والذي ينص على ما يلي:
“الإعفاء من الخطط الوظيفية يتم بمقتضى أمر وعلى أساس تقرير كتابي صادر عن الوزير المشرف على التسلسل الإداري يوجه إلى المعني بالأمر لتقديم ملاحظاته الكتابية”.
ومنذ تاريخ صدور هذا الأمر، أي 21 سبتمبر 2023، أصبح بإمكان رئيس الجمهورية إعفاء أيّ مسؤول إداري من خطته الوظيفية (مدير عام، مدير، كاهية مدير، رئيس مصلحة..) بجرّة قلم، وبدون تقرير، وبدون ثبوت ارتكاب أيّ خطأ جسيم، وبدون تقديم المعني بالأمر ملاحظاته الكتابية..
وهو ما يعني حرمان الموظف من الضمانات الأساسية اللازمة ومن حق الدفاع وتكريس سياسة “الولاء والركوع”.
وفي نفس اتجاه “تطهير وشيطنة الإدارة”، تتالت الخطب الرسمية وبلاغات رئاسة الجمهورية ومجالس الوزراء (28 مارس 2025، 4 أفريل 2025، 7 أفريل 2025، 14 أفريل 2025..) للتأكيد على المواصفات والمعايير لتحمل المسؤولية في الإدارة:
الوطنية والعطاء والفداء افضل من الكفاءة..
مسؤولين يستنبطون روح النضال والتضحية والفداء حتى وإن كانت تعوزهم الخبرة..
فآلاف الآلاف من أصحاب الشهائد ومن الوطنيين حتى وإن كانت تعوزهم الخبرة فإنهم لا يفتقدون للوطنية وهم قادرون على تعويض وسيعوضون من يعتقدون أنهم من طبقة خاصة..
ملاحظات ختامية:
- بالتوازي مع تركيع وتجريف السلط المضادة والسلط المراقبة وأساسا القضاء والإعلام، حرص نظام 25 جويلية على تطبيق مخططه في تدجين الإدارة التي تشكل سلطة عقلنة للسلطة السياسية..
L’autorité administrative en tant que pouvoir de rationalisation du pouvoir politique..
وذلك انطلاقاً من المصلحة العامة كأساس للمرفق العام وليست مصلحة الحاكم بأمره. - يمكن التأكيد أنّ الموظف العمومي فقد أعلى الضمانات القانونية المضمنة بالمبادئ الدستورية والاتفاقيات الدولية وفقه القضاء الإداري.
وعليه فإن نظام 25 جويلية كسب أقوى وأقصى الضمانات لجعل الإدارة سلطة ولاء وتبعية خدمة لبرامج سياسية تعتمد على البناء القاعدي (تعدد المجالس المحلية والمجالس الجهوية ومجالس الأقاليم مع عدم وضوح العلاقات بينها وبين الإدارة المركزية والجهوية والمجالس البلدية..) وعلى الصلح الجزائي والشركات الأهلية بدون أفق واضحة وآثار ملموسة في علاقة بدفع الاقتصاد والاستثمار وخاصة في علاقة تنمية الجهات والقطاعات المهمشة. - المحرك الأساسي للموظف العمومي والمحرك الأساسي للمسؤول السياسي يختلفان من منطلق المصلحة العامة واحترام القانون والتراتيب الإدارية وأدلة الإجراءات بالنسبة للعون العمومي ومصلحة النظام القائم وبرامجه السياسية بالنسبة للرجل السياسي..
ويحدث بالضرورة حالات تنافر و”تضادد” بين متطلبات الحياد والنزاهة والشفافية والنجاعة وبين “الإخلاص” والوفاء و”الفداء” والولاء..
علماً وأن واجب الإخلاص والولاء والتحفظ يكتسي صبغة مطلقة بالنسبة للعسكريين وأعوان قوات الأمن الداخلي وبعض الأسلاك..
علماً كذلك وأنّ تقدير هذه الواجبات يكون أكثر صرامة في الأنظمة المستبدة خلافا للأنظمة الديمقراطية.