بقلم مي الأحمدي
إنّ التهميش الممنهج للوضع الطلابي لا يُقاس فقط بمؤشرات الفقر أو مظاهر البنية التحتية المهترئة، بل يتجسّد بعمق في هندسة أكاديمية هشّة، هو ممارسة بنيوية في قلب مشروع طبقيّ لا يرى في المعرفة سوى سلعة، وفي الطالب سوى زبون أو مشروع عامل مؤقّت. التعليم اليوم، بأدواته ومناهجه ومضامينه، لم يعد فضاءً للتحرّر بل مسرحًا لإعادة إنتاج الهيمنة. نحن إزاء جامعةٍ تُرسكل التناقضات الاجتماعية وتُحوّلها إلى مناهج هشّة، تلجم الفكر، وتكبّل العقل، وأيّ فجوة معرفية تُملأ بلُعاب الذل، لا بحثًا عن الحقيقة بل اتّقاءً لخطر التمرّد.
وهكذا، تندمج المؤسسة الجامعية ضمن ماكينة الدولة الطبقية، تلعب دور البنية الفوقية، تشرعن الخيارات النيوليبرالية، وتُهندس الوعي الجماعي بما يخدم منطق السوق. حيث يُصبح النهل من المعرفة فعلًا طقوسيًا لا تحرّريًا.
لم تكتفِ هذه المنظومة باستعمال أدواتها الناعمة، بل تمرّست باستخدام العصا الغليظة: التفقير، الحرمان، التجويع. كليات آيلة للسقوط كحال المعاهد والمدارس، حطامها يردم الأجساد والأحلام، ويحوّل الجامعات إلى مقابر علنية تحت يافطة الدولة. أحياء جامعية لا تتوفّر فيها أبسط شروط الكرامة الإنسانية، حياة طلابية ترزح تحت وطأة الانهيار، ونظام يخطو بثبات نحو خراب شامل، مُمنهج، لا عشوائي متجليا في خراب البنية التحتية، الأحياء الجامعية في حالة مزرية، كليات مهدّدة بالسقوط، انقطاع الماء والكهرباء، لافتقار لخدمات الإعاشة، حرمان ممنهج من حق النقل والصحة… اختناقٌ يوميّ يرافق الطالب من باب الحيّ الجامعي حتى مدرج المحاضرات، وكأن الجامعة قبر مفتوح لا مؤسسة علم.
وفي قلب هذا السياق القاتم، ارتفعت حدّة التناقض لتبلغ ذروتها مع القضية الفلسطينية، حيث ينكشف كل مرّة التواطؤ الرسمي. فالخطاب المكرور الذي يندد بـ”أشكال التطبيع” يسقط أمام الوقائع: شراكات أكاديمية مع جامعات صهيونية، استقبال ممثلين عن الكيان، مؤتمرات مموّلة من دوائر مشبوهة، اختراقات في البحث العلمي مُبررا الانفتاح على الكيان الصهيوني بغطاء “الحرية الأكاديمية”، في محاولة لخلق رأي طلابيّ حياديّ، منزوع الالتزام.
ويتقاطع هذا الوضع مع التراجع العام الذي شهدته الحركة الطلابية في السنوات الأخيرة، من حيث قدرتها على تعبئة الجماهير والدفع بها نحو آفاق النضال والمطالبة بالحقوق، وفي مقدّمتها الحق في التعليم، في الحياة، في الكرامة، وفي الدفاع الشرس عن الأرض، كلّ الأرض. لقد بات واضحًا أن حتى القضية الفلسطينية، التي كانت تحرّك الشارع لعقود، أصبحت تُستحضر موسميًا، بشكل لا يرقى إلى حجمها كقضية تحرر وطني ومركزيّة في وجدان الحركة الطلابية الثورية.
إلا أنه وفي خضم محاولات الاستنهاض، شكّلت الأحداث الأخيرة عنصرًا مفصليًا في مسار الجامعة التونسية. فقد أصدر المكتب التنفيذي الوطني للاتحاد العام لطلبة تونس بيانًا رسميًا يُدين فيه بكل وضوح المتاجرة الرسمية بالقضية الفلسطينية داعيا الجماهير الطلابيّة العصيان الطلابي وإعلان الاضراب الوطني الطلابي العام وقوبل هذا النداء بالتلبية، فأغلقت كل الكليات بكل الجهات أبوابها متجهة نحو الشوارع ، يوم الإثنين 7 أفريل 2025، مساندة للشعب الفلسطيني متبنية لكل خطوات المقاومة بكل أطيافها رافضة لتواطؤ السلطة، مدينة للتطبيع بجميع مستوياته.
وفي حالة سابقة من نوعها تحوّلت ساحات الجامعات في نفس اللحظات بمختلف الأماكن إلى منابر غضب. ورفعت شعارات قوية ومباشرة:
- الشعب يريد تجريم التطبيع
- مطبّعة المنظومة من قيس للحكومة
- جرّم جرّم التطبيع يا منظومة التجويع
- فلسطين عربية لا حلول استسلامية
- الطالب يريد تجريم التطبيع
وتبرز هذه التحركات الأخيرة، التحول النوعيّ في المزاج الطلابي الذي عاد يربط بين النضال الاجتماعي والوطني، بين الدفاع عن المرفق العمومي ومناهضة الكولونيالية الجديدة.
ومن رحم هذا النهوض، سقط شهيد العلم والكرامة، الطالب فارس خالد، بجامعة منوبة، وهو يحاول تعليق علم فلسطين في أعلى نقطة من كليّته، فعل فارس خالد يُعيد للجامعة قدسيتها، ويؤكد أنّ العلم الذي يُرفع في سماء الكلية لا يجب أن يُنزل ويقتضي الاقتران بممارسة جبارة تقطع مع كل أشكال التطبيع.
دمه لم يكن نهاية، بل شرارة. شرارة تعيد تشكيل العلاقة بين الطالب والمجتمع، بين الحركة الطلابية والقضية الأم، بين الجامعة والمقاومة. فاستشهاده كشف هشاشة السلطة، وزيف خطابها، وأعاد فتح الجرح الفلسطيني داخل الوعي الجمعي الطلابي.
ولم تضمّد جروحنا حتى بلغنا استشهاد تلاميذ العلم من منطقة المزونة بسيدي بوزيد أثر سقوط جدار سفر بأرواحهم تاركا كل أصابع البطش موجهة نحو كل السلطات سخطا عليها.
ولا يسع الاتحاد العام لطلبة تونس غير التقدم بخالص عبارات الأسى والدعوة الى وقفات احتجاجية لكل الكليات تزامنا مع الإضراب التلمذي .
لقد أثبتت هذه المعركة مجددًا أنّ الحركة الطلابيّة، حين ترتبط بجذورها التاريخية والنضالية، قادرة على قلب المعادلة، وصناعة التحوّل، وتثبيت معادلات جديدة يكون فيها الطالب فاعلًا لا مفعولًا به، مقاومًا لا مطبّعًا، ثوريًا لا محايدًا.