بقلم علي البعزاوي
سؤال يطرحه الشباب المعطل وخريجو الجامعات من دكاترة ومهندسين وأساتذة وعموم المهمشين الذين ذاقوا ذرعا بالبطالة، ويرفعه أيضا العامل والفلاح والحرفي والبحار وصاحب المؤسسة الصغرى والمدرس والموظف والنساء والرجال الذين تدهورت قدرتهم الشرائية وباتوا عاجزين عن تلبية حاجياتهم اليومية الدنيا بالنظر للغلاء المتزايد للأسعار والتجميد المتواصل للأجور وضعف المداخيل. مثلما يرفعه السياسي والنقابي والمثقف والإعلامي وغالبية النخب تعبيرا من هؤلاء جميعا عن حالة الحصار المضروب حول حرية الرأي والتعبير والنشاط وغلق الفضاءات الإعلامية في وجه المعارضة وتغييب الحوارات الجادة التي تتناول القضايا الحارقة المتعلقة بالمنوال التنموي وبالسياسات الاقتصادية والاجتماعية والأزمة الدبلوماسية الى جانب الاتفاقيات المتعلقة بالهجرة ومسؤولية السلطة القائمة في العودة القسرية للمهاجرين التونسيين إضافة إلى الإيقافات والمحاكمات الصورية بتهم كيدية.
هواجس وتخوفات باتت تسيطر على الأغلبية وتجعلها في حيرة إزاء استفحال الأزمة على كل المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتربوية والثقافية وغيرها وانعدام أي مؤشر على إمكانية وجود حلول في الأفق وبالموازاة معها يتواصل خطاب التهديد والوعيد ضد “المتآمرين” و”الخونة” و”الصائدين في الماء العكر”.
الاحتجاجات تتصاعد وتتوسع
حالما انتهى شهر رمضان، المتميز بتراجع الحركة والركود عامة، عادت الحراكات المنظمة والعفوية سواء منها المناصرة للقضية الفلسطينية ضد حرب الإبادة ومساعي التهجير أو المرتبطة بمطالب حياتية (تشغيل – ماء صالح للشراب – تنمية جهوية ومحلية – مطالب نقابية لقطاعات مختلفة…) أو لها علاقة بالمحاكمات الجائرة وسياسات تكميم الأفواه وتجريم الأنشطة على قاعدة المرسوم 54 سيء الذكر. ومثلت أحداث المزونة ذروة هذه الاحتجاجات حيث استفاق الأهالي على فاجعة السّور الذي انهار فجأة مخلفا قتلى وجرحى من التلاميذ لينطلقوا وبسرعة البرق في المسيرات الاحتجاجية رفضا منهم للإهمال و”الحقرة” ويطالبوا بالمحاسبة وبتحقيق المطالب المزمنة التي سبق أن رفعوها منذ اندلاع ثورة الحرية والكرامة دون استجابة، وهي مطالب تتعلق بالتنمية والتشغيل والخدمات الاجتماعية الأساسية من صحة وبيئة نظيفة وتعليم وبشكل عام الحق المشروع في العيش الكريم. لكن بدل فتح باب الحوار مع الأهالي والاستماع إليهم والسعي إلى إيجاد الحلول اللازمة سارعت السلطة بإرسال التعزيزات الأمنية لتطويق المدينة والضغط من أجل إنهاء الاحتجاجات وهو الإجراء الأولي الذي تبادر باتخاذه كل دكتاتورية في تعاملها مع الاحتجاجات الاجتماعية قبل المرور الى الحوار الذي عادة ما يكون شكليا الهدف منه امتصاص غضب المحتجين.
وقد تفاعلت جهات أخرى مع الحدث معبرة عن تضامنها مع أبناء المزونة: وقفات بسيدي بوزيد المدينة وإضراب نفذه المدرسون دفاعا عن المدرسة العمومية ورفضا لتدهور البنية التحتية للمؤسسات التربوية وعدم تحمل سلطة الإشراف لمسؤولياتها، وتحركات انتهت بغلق الطريق في جلمة وأخرى في منزل بوزيان الخ…
لقد أشار المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية إلى الارتفاع الملحوظ في عدد التحركات الاحتجاجية خلال شهر فيفري 2025 التي بلغت 138,5 % مقارنة بنفس الفترة من سنة 2024 وأكد على تحول هام في نمط هذه الاحتجاجات التي أصبحت اكثر ميدانية (بنسبة 93 بالمائة) إضافة إلى توسعها جغرافيا لتشمل العاصمة ووسط البلاد وجنوبها.
البلاد تدخل مرحلة جديدة
تؤكد المؤشرات أن حالة الخوف والانكماش تراجعت وهناك وعي متنام بخطورة الوضع الذي يمكن إذا ما تواصل على هذه الحال بدون حلول جدية أن يقود إلى الكارثة. لذا بات البحث عن الحلول أولوية الأولويات، حلول سياسية واقتصادية واجتماعية ودبلوماسية يمكن أن تساعد على تخطي الأزمة العميقة والشاملة الآخذة في الاستفحال. لقد توسعت خارطة المعارضة لتمس الأحزاب والمنظمات والجمعيات والفعاليات الشبابية والنسائية ولم يبق للسلطة القائمة من أنصار وموالين سوى بعض الأطراف والمجموعات التي ليس لها حضور شعبي هام وتفتقد للبرامج والبدائل ولا يمكن التعويل عليها.
وتشمل المعارضة/ات الأطراف اليمينية بخلفياتها الفكرية والسياسية المختلفة وهي أطراف سبق أن مارست الحكم ولها امتدادات داخل الدولة العميقة وتراهن على مساعدة القوى الخارجية سياسيا واقتصاديا للعودة إلى السلطة وتنتظر تدخلها إما لفرض حوار على السلطة القائمة أو لتنظيم انتخابات تكون طرفا أساسيا فيها. هذه القوى لا تحمل خيارات ومشاريع مختلفة عن خيارات التبعية والاستغلال والتهميش الحالية لكنها قادرة على اتخاذ بعض الإجراءات الشكلية على المستوى السياسي بإعطاء دور أهم للمؤسسات التمثيلية من برلمان ومجالس بلدية وإرساء مجلس أعلى للقضاء والسماح بهوامش أوسع للأحزاب والجمعيات والمنظمات للنشاط بحرية وتنشيط وسائل الإعلام العمومية وعلى المستوى الاقتصادي والاجتماعي بإيجاد اتفاق مع صندوق النقد الدولي والحصول على تمويلات خارجية يمكن أن تشكل متنفسا للمالية العمومية.
لكن الإصلاحات التي ستتخذها المعارضة اليمينية لن تكون كافية في كل الأحوال لمعالجة الأزمة الحالية بطريقة جذرية ودائمة. وقد وقف الشعب التونسي على حقيقة فشلها وعجزها في هذا المستوى حينما كانت في الحكم واتبعت نفس الخيارات الرأسمالية التابعة التي تخدم حصريا الشركات والمؤسسات والدول الأجنبية ووكيلها المحلي البورجوازية الكمبرادورية.
كما تشمل المعارضة الأطراف اليسارية الديمقراطية والتقدمية والمنظمات المستقلة التي يمكن في حال توحيد صفوفها أن تشكل قطبا مستقلا عن القوى اليمينية، أو ما يمكن أن نطلق عليه ” الخيار الثالث”، قادرا على اتخاذ إجراءات عاجلة تتمحور حول إطلاق سراح المساجين وتجميد أسعار مواد الاستهلاك الأساسية والزيادة في الأجور وتطبيق الاتفاقيات المهنية الممضاة بين الاتحاد العام التونسي للشغل والحكومة… إلى جانب الحلول الجذرية والمستدامة للأزمة والتي من شأنها ضمان حياة سياسية ديمقراطية سليمة وتثبيت الحقوق الأساسية للشعب السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتوفير الخدمات الأساسية الراقية في مجالات التعليم والصحة والسكن والبيئة.
القوى الديمقراطية والتقدمية عنوان التغيير
إن الأطراف الديمقراطية والتقدمية على عكس القوى اليمينية نظيفة الأيدي لأنها لم تتورط في الحكم سابقا ولم تنهب المال العام ولم تفرط في مقدرات الشعب التونسي وثرواته …وهي تحمل بديلا منحازا لمصالح الأغلبية الشعبية وتتميز خياراتها وسياساتها الديمقراطية والشعبية بالاستقلالية والقطيعة مع كل أشكال التبعية، ودبلوماسيا ستتعامل مع الدول تعامل الند للند بما يخدم المصالح المشتركة والمتبادلة للشعوب بعيدا عن خدمة الأجندات والمحاور. كما ستكون لها مواقف منتصرة للقضايا العادلة وفي صدارتها القضية الفلسطينية التي ستدعمها سياسيا وماليا وستمارس كل الضغوط الممكنة لضمان تحرر الشعب الفلسطيني وإرساء دولته المستقلة على كامل التراب الفلسطيني.
لكن القوى الديمقراطية والتقدمية لن تضع يديها في أيدي القوى اليمينية بما في ذلك المنظومة الشعبوية العاجزة والفاشلة ولن تنسق معها ولن تعول على الدول الخارجية في أي تغيير قادم ولن تنخرط في حوار مع المنظومة الشعبوية بل ستشق طريقها المستقل معتمدة أولا وأساسا على الشعب التونسي ونخبه وفعالياته الديمقراطية والوطنية من أجل إسقاط الاستبداد واتخاذ الإجراءات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الملحة أولا، ثم الانطلاق في بناء الدولة الديمقراطية الشعبية الجديدة وهو بناء سيساهم فيه كل التونسيات والتونسيين أحزابا ومنظمات وجمعيات وفعاليات وكل المؤمنين/ات بالحرية والديمقراطية والسيادة الوطنية باعتبارها مقومات النهوض والتقدم والازدهار.
فلتتوحد قوى المعارضة الديمقراطية حول برنامج تغيير ديمقراطي قادر على إنقاذ البلاد من أزمتها ولتعمل على لف كل الفئات الشعبية من عمال وكادحين وفلاحين فقراء وصغار وأصحاب مؤسسات صغرى ومتوسطة وحرفيين وموظفين ومثقفين ومبدعين وشباب ونساء الخ…حول هذا البرنامج القابل للتطوير والتعميق من كل هذه الفئات حتى يصبح برنامجها فتناضل بلا هوادة من أجل فرضه على أرض الواقع وذلك قبل فوات الأوان.
لقد غيبت منظومات الحكم السابقة الشعب التونسي بكل طبقاته وفئاته وجعلت منه مجرد أداة وصوت مدفوع الأجر أحيانا لإنجاح قائماتها الانتخابية التي صوتت لميزانيات تفقير وتجويع وسنت قوانين وانخرطت في مشاريع تضرب في العمق السيادة الوطنية وتبيح نهب ثروات البلاد. وقد حان الوقت لقلب هذه المعادلة الجائرة بأن تجعل القوى الديمقراطية والتقدمية من الشعب صاحب السلطة السياسية الفعلية وتمكنه من أن يكون سيدا على ثروات بلاده المنهوبة وعلى دولته الجديدة التي ظلت منذ 1956 إلى اليوم دولة الأقلية الكمبرادورية تخدم مصالحها ومصالح مشغليها من القوى الاستعمارية وتحصن سلطتها وتوفر لها الأمن والأمان وتغض الطرف عن جرائمها الاقتصادية والمالية.
فهل تلتقط القوى الديمقراطية والتقدمية والوطنية اللحظة وتبادر بالتوحد وتطرح نفسها كبديل عن منظومات الفشل والعجز وتفوز بثقة الشعب.