الرئيسية / صوت الوطن / المحاكمات الجائرة سلاح الفاشيّة لتصفية الحرّيّات والحقوق وزرع الخوف ولا حلّ إلّا في المقاومة
المحاكمات الجائرة سلاح الفاشيّة لتصفية الحرّيّات والحقوق وزرع الخوف ولا حلّ إلّا في المقاومة

المحاكمات الجائرة سلاح الفاشيّة لتصفية الحرّيّات والحقوق وزرع الخوف ولا حلّ إلّا في المقاومة

بقلم حَمَّه الهَمَّامِي

حدثان اثنان جدّا في الأيّام الأخيرة وأحدثا رجّة كبيرة في مختلف أوساط المعارضة السياسية وفي صفوف منظمات المجتمع المدني والنقابات والمثقفين والمبدعين بل لدى كل المتتبعين للشّأن العام من المواطنات والمواطنين، عدا قلّة من المأجورين الفاشست، الآكلين على كل الموائد والمصفّقين لكلّ حاكم. الحدث الأوّل تمثّلت في صدور الأحكام، في اللّيلة الفاصلة بين الجمعة 18 والسّبت 19 أفريل الجاري في قضيّة “التّآمر “. وقد تراوحت الأحكام بين 4 و66 سنة وشملت 37 ممّن زُجَّ بهم في هذه القضيّة بين موقوف ومحال في حالة سراح أو في حالة “فرار”. لقد بلغ مجموع الأحكام 892 سنة بالتمام والكمال من أجل “تهم وهميّة” حسب تعبير أستاذ القانون الدستوري، عياض بن عاشور. أمّا الحدث الثاني فيتمثّل في مداهمة حوالي 10 أعوان من فرقة مقاومة الإرهاب صبيحة الاثنين 21 أفريل الجاري منزل الأستاذ المحامي أحمد صواب واعتقاله بعد تفتيش منزله والاستيلاء على كل ما فيه من هواتف وأجهزة الكرتونية (حاسوب…). وقد وجّهت إلى أحمد صواب “شكارة” من التهم من بينها الانتماء إلى وفاق إرهابي، وقد استعمل في تركيبها قانون الإرهاب والمجلّة الجزائيّة ومجلّة الاتّصالات والمرسوم 54 الخ… والسّبب المباشر في ذلك تصريح صحفيّ استعمل فيه الرجل استعارة (métaphore une) مفادها أنّ رئيس المحكمة لن يصدر أحكامه باستقلاليّة بل تحت الضغط والتهديد (السّكاكن تحت رقبتو) في إشارة إلى الضغوط المسلّطة من السلطة التنفيذية وهو أمر معلوم ولا يتطلّب إثباتا بعد كلّ الذي حصل في مختلف أطوار هذه القضية من خروقات مفضوحة ومن إدانة سبقت الأبحاث نفسها. وقد مثل الأستاذ صواب يم الأربعاء 23 أفريل 2025 أمام حاكم التحقيق دون حضور المحامين الذين انسحبوا احتجاجا عليه (طلب حضور 4 منهم فقط بمكتبه) وقد أصدر في شأنه بطاقة إيداع ليلتحق بمنوّبيه في قضيّة التّآمر بسجن المرناقيّة.
هذان الحدثان أيقظا وعي العديد من النّاس وأربكا حتى بعض الأطراف التي كانت تساند الانقلاب أو كانت متردّدة أو ترفض أن تصدّق ما يحدث أو تحاول اختلاق ذرائع لتبرير سلوك سعيّد ومنها خاصّة ترويج أنّ المستهدف الرئيسي لا هو الحريات ولا هو الأحزاب ولا هو المجتمع المدني وإنما “حركة النهضة وبعض الفاسدين والعملاء فحسب”. لقد بات واضحا الآن لكلّ من يملك ذرّة نفس ديمقراطي أن سلطة الانقلاب الفاشية ماضية في ضرب كل صوت معارض أو منتقد وفي تكميم الأفواه وفرض صمت القبور على المجتمع وتصفية كافة مكتسبات الثورة الديمقراطيّة. وكما يقول المثل الفرنسي “mieux vaut tard que jamais”، فأن يعي الناس الخطر ولو بشكل متأخّر أفضل من عدم الوعي به والاستمرار في تجاهله. إن الفاشية الشعبوية تزحف وهي تعمل على الإتيان على الأخضر واليابس ومن الواضح أنّها، بحكم طبيعتها المتوحّشة، لن تستثني أحدا ولا تريد أن تستثني أحدا وإنّما لكلّ وقته ودوره وفقا للظروف وموازين القوى. إن قيس سعيّد لم ينقلب يوم 25 جويلية، بدعم من الأجهزة الصلبة على خصومه، لتصحيح مسار الثورة أو إعادة السلطة لصاحبها أي الشعب كما يدّعي وإنما لغلق قوس الثورة وتصفية مكتسباتها الديمقراطية والعودة بالبلاد إلى مربّع الاستبداد خدمة لمصالح غلاة الرجعية في الداخل والخارج من بيروقراطيي دولة وكمبرادور وشركات ودول ومؤسسات مالية أجنبية علاوة على عدد من الأنظمة الرجعية العربية، العسكرية منها والمدنيّة التي عملت منذ الأيام الأولى للثورة التونسية على إجهاضها خوفا من عدواها.
لقد أعدّ قيس سعيّد وفريقه كل العدّة للاستبداد بالمجتمع ووضع ركائز نظام شعبوي فاشستي. وما نعيشه اليوم من محاكمات جائرة ليس إلّا نتيجة لهذا المسار فقد انقلب الرجل على الدستور والمؤسسات والقوانين بل على النظام السياسي الذي جاء به إلى قصر قرطاج، واحتكر كل السلطات وتخلّص من كل رقابة أو محاسبة (لا رقيب عليّا إلا الله هكذا قال) وسخّر كلّ أجهزة الدّولة ومؤسساتها لخدمته وجعل من وزارة العدل، بعد تفكيك القضاء وتطويعه بالكامل، الجهاز الأساسي لإدارة القمع في البلاد وتصفية الخصوم بالاعتماد على مختلف الأجهزة الأمنية لتنفيذ ما تطلبه منها من أوامر اعتقال وبحث وتفتيش وحجز. هذا من جهة ومن جهة أخرى فقد وضع سعيّد بين يديه ترسانة من القوانين التي يؤوّلها ويستخدمها، في غياب أية رقابة، على هواه. ومن بين هذه القوانين قانون الإرهاب والمجلة الجزائية ومجلة الاتصالات وغيرها. وبالإضافة إلى ذلك فقد سنّ بعض القوانين الجديدة لاستكمال الترسانة ويأتي في مقدّمتها المرسوم 54 الفاشيّ الذي يهدف إلى ترهيب الإعلاميين والإعلاميات ووضعهم أمام خيارين إمّا الخضوع أو السّجن وذلك في الوقت الذي وضع فيه يده على وسائل الإعلام العمومية وكثف الضغط على أصحاب وسائل الإعلام الخاصّة الذين لم يجدوا بدّا في الغالب من تغيير خطوطهم التحريرية وتأجير “قوّادين” من أنصار مسار 25 جويلية للدعاية للحاكم بأمره وتشويه خصومه وتبرير قمعهم عبر حملات خسيسة تشمل، إلى جانب الإذاعات والقنوات التلفازية، الشبكة الاجتماعية.
وهكذا فقد سخّرت سلطة الانقلاب الأجهزة والقضاء والقوانين ووسائل الإعلام والاتصال لتصفية الخصوم. لقد طالت المحاكمات كل القوى السياسية تقريبا ولو بدرجات متفاوتة. كما طالت الإعلاميين والإعلاميات والنقابيين والمحامين والقضاة والمدونين والمحتجين وعدد كبير من المواطنين غير المعروفين بسبب تدوينة أو تعليق بسيط. كما طالت هذه المحاكمات العديد من الأشخاص (رؤساء حكومات، وزراء، مسؤولون كبار في الوزارات…) من بينهم من كان مقربا من قيس سعيد وفي خدمته لكنه أصبح من المغضوب عليهم. وأخيرا طالت الاعتقالات والملاحقات والمحاكمات عددا من رجال الأعمال بعنوان مقاومة الفساد وهي كلمة حق يراد بها باطل، تماما مثلما كانت تجري الأمور في ظل المنظومات السابقة فبعنوان مقاومة الفساد يتم الابتزاز وتصفية الحسابات في الوقت الذي يستمر فيه الفساد مع فارق يهمّ المستفيدين منه ذلك أن كلّ منظومة دكتاتورية تنشئ المستفيدين منها مع العلم أن الاستبداد هو في حدّ ذاته فساد مطلق.
لقد عرفت بلادنا منذ العهد البورقيبي عديد المحاكمات السياسية. لقد انتصبت في كل عهد المحاكم الاستثنائية كما العادية لمحاكمة المعارضين والناقدين والمحتجين بمختلف انتماءاتهم. وقد كانت تلك المحاكمات عنوانا للطابع الدكتاتوري والفاشستي لمنظومة الحكم القائمة التي لا تقبل حرية التعبير والتنظيم والاحتجاج وتصادر مشاركة الشعب في الحياة العامة كما لا تقبل وجود نقابات ومنظمات وجمعيات مدنيّة مستقلّة. وقد كان التعذيب في العهدين البورقيبي والنوفمبري ممارسة ممنهجة لاقتلاع الاعترافات وفبركة الملفات وإضفاء صبغة قانونية زائفة عليها. أمّا اليوم فلئن ظلّ الجوهر واحدا وهو معاداة الحريات والحقوق فقد تغيّرت الأساليب بحكم تغيّر الظرف. فالفاشية الشعبوية “حلّت” ببلادنا بعد ثورة مُجْهَضَة تمكّن فيها الشعب من افتكاك الحرية السياسية كما أنها “حلّت” في ظرف عالمي يشهد صعودا لافتا للفاشية في شكلها الشعبوي سواء في كبريات الدول الرأسمالية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية أو في البلدان الأقل نموّا في أوروبا وآسيا وغيرهما. ومن البديهي والحالة تلك ألا تكون الفاشية الحالية في بلادنا مجرّد نسخة من حكمي بورقيبة وبن علي بل هي ستحمل خصائص الظرف الذي جاءت فيه.
إن ما يميّز الفاشية الشعبويّة في بلادنا اليوم هو خطابها الغوغائي والديماغوجي الذي يتظاهر بالدفاع عن السيادة الوطنية والانحياز للفقراء ومقاومة الفساد ويدغدغ الغرائز لا العقول ويتغلّف بالتدين ونظافة اليد. وما هذا الخطاب الغوغائي والديماغوجي إلّا غطاء لانفلات تامّ غير مسبوق في مستوى السلوك والممارسة. فهي، أي الفاشية الشعبوية، لا تحاول التقيّد، ولو في الظاهر بأبسط الشكليات والإجراءات القانونية والدستورية وهو ما حدا بالبعض إلى وصفها بالجنون واللاعقلانية إذا نظرنا إليها بالطبع من منطلق دولة القانون الديمقراطية. فهي تعتقل وتتهم وتقاضي وتصدر الأحكام على هواها دون احترام للإجراءات ولأبسط شروط المحاكمة العادلة. تستعمل قانون الإرهاب فيما ليس فيه إرهاب مطلقا كما هو الحال في قضية “التآمر” أو قضية الأستاذ أحمد صواب. كما تستعمل المجلة الجزائية وفصلها 72 الذي يقضي بالإعدام دون أن تكون ثمة جريمة تقابل هذا الفصل كما هو الحال في قضية عبير موسي الأمينة العامة للحزب الدستوري الحرّ. وتستعمل مجلة الاتصالات والمرسوم 54 ضد الصحفيين بسبب رأي أو نقد تاركة جانبا القانون الذي من المفروض أن ينطبق عليهم (المرسومان 115يعاديهم و116). وتحيل “المتهمين” بملفات فارغة لا أبحاث ولا أدلة جدية ولا مكافحات فيها كما تختلق شهودا غير معلومين يروون “خرافات” لا يصدّقها عقل “لإثبات” التهم وهو ما حصل في قضية “التّآمر”. وتجمع في القضية نفسها أشخاصا لا رابط أيديولوجيا أو سياسيا أو تنظيميا بينهم بل أشخاصا غرباء بعضهم عن بعض ومتنافرين سياسيا كل التنافر عدا كون قيس سعيّد يعتبرهم خونة ومتآمرين عليه. وتقرّر إجراء المحاكمات عن بعد لتغييب المتهمين وحرمانهم من الدفاع عن أنفسهم في محاكمة علنيّة ولا يهمها أن يكون في ذلك انتهاك لأبسط شروط المحاكمة العادلة. وتمنع الإعلاميين والملاحظين ومتتبعي الشأن العام وحتى أفراد من عائلات “المتهمين” من دخول قاعة المحكمة رغم أن المحاكمة علنية ويجيب الأمنيون الذين يسدّون أبواب الدخول في وجه كلّ قادم: “ارجع تعليمات”. وتوزّع المحكمة سنوات السّجن على المتهمين الذين لم يتمكّنوا من الدفاع عن أنفسهم بلا ضوابط وبلا منطق عدا الرغبة في التشفّي والانتقام والترهيب والتخويف. وفي كلمة فإنّ مصير هذه المحاكمات واضح منذ البداية ممّا يجعل سلطة الانقلاب، خلافا لما كان يجري زمن بورقيبة وبن علي، لا تحتاج إلى تعذيب “المتهمين والمتّهمات” لاقتلاع اعترافات إذ هي لا تشعر بالحاجة لا إلى استنطاقهم أو بحثهم أو التحقيق معهم أو السماع لمرافعاتهم ومرافعات محامييهم طالما أنّها تقرر على هواها الإدانة وتصدر الأحكام التي تريد في غياب أي رقابة.
إن هذا الانفلات التام الذي يقرّره الحاكم بأمره الذي لا يخضع لأي مراقبة أو محاسبة ولو شكليّة، وتكرّسه أجهزة وقضاء في الخدمة هو كما قلنا ما يميّز الفاشية الشعبوية التي “حلّت” ببلادنا في ظلّ أزمة محلية وعالمية عميقة وخانقة للنظام الرّأسمالي. ولا يمكن تفسير هذا الانفلات الأرعن بمجرد شخصية قيس سعيد وإنما، وهذا هو الأهم، بغياب أي حلول للأزمة التي تنخر النظام الاستعماري الجديد في بلادنا خارج تعميق استغلال الشعب الكادح وتفقيره وحرمانه من أبسط مقومات العيش الكريم وهو ما لا يمرّ في مناخ حريّة. فإذا كان القمع والمحاكمات وانتهاك الحريات بشكل مفرط أي بلا ضوابط هو وجه تلك الفاشية السياسي أو بالأحرى أسلوب إدارتها للشأن العام فإن وجهها الاقتصادي الاجتماعي هو إغراق البلاد في التبعية والفقر والبؤس والجهل والمرض وهو ما لا يتحقق إلا في إطار نظام استبدادي وفاشي. إن الفاشية الشعبوية تريد شعبا رعيّة، متذرّرا، غير منظّم لا في أحزاب ولا في نقابات ولا في منظمات وجمعيات مدنية، شعب بلا إعلام حرّ يكشف الحقائق وينمّي الوعي، حتى تقدر على السيطرة عليه وتمنعه من مواجهتها وتفرض عليه السرديات التي تريد وهو ما يفسّر هجومها الوحشي على الحرّيات وعلى الفصائل المنظمة من المجتمع. وهو ما كان نبّه إليه حزب العمّال منذ اليوم الأول من الانقلاب وحذّر من الأوهام التي يبثّها أنصاره. وقد ظلّت الوقائع تؤكّد يوما بعد يوم تلك الحقيقة. ومن الواضح اليوم أنّه لا مفرّ، وقد افتضح الوجه البشع للفاشية الشعبوية التي تمثل المحاكمات الجائرة إحدى سمات هذه البشاعة، من التصدّي لها من أجل وضع حدّ لانتهاك الحريات والحقوق والاعتقالات التعسفية والأحكام الاعتباطية وتوظيف القضاء والأجهزة الأمنية وفرض إطلاق سراح معتقلي/معتقلات الرأي واحترام شروط المحاكمة العادلة للجميع وهو ما سيفتح الطريق لتعبئة أشمل وأعم من أجل إسقاط منظومة الفاشية الشعبوية برمّتها وإعادة بناء الدولة على أسس وطنية وديمقراطية وشعبية تمكن غالبية المجتمع الكادحة والمفقرة من بسط سيادتها على الحكم وثروة البلاد لتحقيق طموحاتها.
إن الفاشية لا تقف إلّا إذا أُوقِفَتْ ولا تنتهي إلّا إذا أُنْهِيَتْ. وعلينا أن ندرك أنّها ما كانت لتبلغ هذه الدرجة من الصّلف (cynisme) والعجرفة لو وجدت في وجهها التّعبئة الديمقراطيّة الرّادعة. فإلى النّضال دون خوف أو تردّد. إلى النّضال بصفوف متراصّة. إنّ الفاشيّة الشّعبويّة لا مستقبل لها.

إلى الأعلى
×