بقلم سناء بعزاوي
“بدّك تصير مثقف، بدك تصير مثقف مشتبك.. إذا ما بدّك تكون مشتبك، لا منك ولا من ثقافتك.”
هكذا عبّر باسل الأعرج عن دور المثقف في المجتمع، وعن واجبه تجاه شعبه.
الفن ليس حيادًا… بل انحياز طبقي
في عالمٍ تحكمه الإمبريالية لا مجال للحياد. من يزعم الوقوف في منتصف الطريق، إنما يخدم السلطة القائمة بصمته. هذه القاعدة تنطبق على السياسي، كما تنطبق – وبشكل أكثر خطورة – على الفنان أو المثقف. الفنان الذي لا يرتبط بقضايا شعبه هو كائن عبثي، يعيش في برج عاجي من الزيف، يتجاهل النار المشتعلة تحت أقدام الجماهير، ويكتفي بمداعبة الغيوم بألوان باهتة.
الفن للفن مقولة مغلوطة، فلا وجود لفن محايد. هناك فن يختار أن يكون إلى جانب المستغَلّين، وهناك فن يُستغَل لتجميل الاستغلال، وتنفق مليارات الدولارات على هذا الأخير لإعادة إنتاج الواقع القائم وتسويقه للعقول على أنه الوحيد الممكن. في المقابل ظهرت المدرسة الواقعية الاشتراكية لتعبّر عن مشروع الطبقة العاملة.
الواقعية: وعي طبقي لا مجرد أسلوب فني
تعود الواقعية، كما صاغها مكسيم غوركي، إلى فكرة بسيطة وعميقة في آن: أن الفن يجب أن يعكس الواقع لا كما هو فحسب، بل كما يمكن ويجب أن يكون أي أنه ليس مجرد تصوير فوتوغرافي. يقول غوركي: “على الفن أن يكون مرآة للواقع، ولكن مرآة تظهر الجذور، تثير الأسئلة، وتحفّز الإرادة”. ليست الواقعية إذن عملية توصيفية، بل تحريض فكري وجمالي يمسّ جوهر الوجود الإنساني في شرطه الطبقي.
أمّا أنطونيو غرامشي، فسلّحنا بمفاهيم أكثر عمقا أو ربما أكثر تفكيكا للواقع، حين تحدث عن “الهيمنة الثقافية”، حيث تتجلى سيطرة الطبقات الحاكمة ليس في السياسة أو الاقتصاد فقط، بل في الذوق، في اللغة وفي الخيال الجمعي. فالفن الواقعي الثوري اذا هو مقاومة للهيمنة، لأنه يفضح البنية، ويفكك الباطن، ويعيد الإنسان إلى موقعه كمنتج للتاريخ لا كمستهلك لحكاياته.
الحرب الباردة وضرب الواقعية باسم الحداثة
ليس صدفة أن تُشن حرب منظمة على الواقعية خلال الحرب الباردة. لقد موّلت الإمبريالية، ممثلة في المؤسسات الثقافية الأمريكية، صعود المدرسة التجريدية، التي روّج لها عالميا كرمز للحداثة والانفتاح، من ذلك الرهان على جاكسون بولوك والتسويق لأعماله على أنها ثورة فنية في حين أديرت حملات تشويه ضد الواقعية بوصفها “ايديولوجية” تقتصر على إعادة تصوير الواقع دون وجود مساحة للخيال والإبداع.
لكن ما تم التستر عليه أن التجريد، في سياقه الجيوسياسي، خدم هدفا واحدا: نزع البعد السياسي من الفن تجريده عن طبقته وتعقيمه من أي شحنة تغييرية.
كان على الرأسمالية أن تفرغ الفن من معناه، كي تسهل إعادة تعبئته في قوالب السوق. لم يكن هذا عبثا جماليا، بل سياسة ثقافية ممنهجة، لإقصاء الفن الملتزم وتحويل الفنان إلى موظف في خدمة “الحرية الشكلية” المفصولة عن الحرية الحقيقية.
بطل خارق… لا ثورة
اليوم، لم تعد التجريدية وحدها في الميدان، فمع التطور التكنولوجي وظهور صناعة الأفلام وما يسمى بثقافة الصورة نجد أن الإمبريالية تأقلمت وطورت أساليبها للحفاظ على هيمنتها الإيديولوجية، في الخمسينات وضعت ما يعرف بقائمة هوليوود السوداء، تمنع ثلة من الممثلين والمخرجين بينهم شارلي شابلن من المشاركة في الأفلام، في محاولة لمحاربة الخطر الشيوعي أو ما سموه بـ”الوباء الأحمر”.
في الأفلام، تهيمن صورة البطل المنقذ الذي يحلّ الأزمات بقواه الخارقة دون أن يغيّر النظام. بطل لا تاريخ له، لا طبقة له، لا جماعة له. هذه السردية تنتج لا وعيا خاضعا، يعوّل على الخلاص الفردي، وينتظر المنقذ بدل أن يصير هو ذاته فاعلا في التغيير.
هكذا تبعد الإمبريالية الشعوب عن الثورة، عبر صناعة ثقافة استهلاكية سطحية، تحوّل الاضطهاد إلى قصة ترفيهية، وتقدّم نظام الهيمنة على أنه “الواقع النهائي” الذي لا يمكن تجاوزه.
لا ثقافة محايدة: الصراع بين رؤيتين للعالم
الصراع الثقافي اليوم هو صراع بين رؤيتين متضادتين:
– ثقافة رأسمالية إمبريالية: تقوم على السوق، الفردانية، التفاهة المنظمة، وتحويل الإنسان إلى مستهلك دائم للأوهام.
– ثقافة اشتراكية ثورية: تنطلق من الإنسان ككائن تاريخي، اجتماعي، مقاوم، وترى في الفن أداة لبناء وعي طبقي جماعي يمهّد، إلى جانب أشياء أخرى، للفعل الثوري.
من يختار أن “لا ينحاز”، فهو في الواقع يخدم الأولى، سواء أدرك ذلك أم لا.
مطرقة غوركي، ومشروع غرامشي
حين قال غوركي إن “الفن هو مطرقة يمكن بها أن تعيد تشكيل العالم”، لم يكن شاعرا أو حالما، بل منظّرا لثقافة تقاتل. في سجونه، لم يكف غرامشي عن الإيمان بأن “كل إنسان يمكن أن يكون مثقفا، إذا ما خاض معركته من موقعه”.
إننا بحاجة إلى فنانين ومثقفين لا يقفون في الظل، بل في الصفوف الأمامية. فنانون يفهمون أن لا حياد في زمن الهيمنة، أن الواقعية ليست موضة قديمة، بل درع ضد السقوط في العبث، أن الفن، في جوهره، إما أن يكون فعلًا تحرريًا، أو زينة على جدار السجن.
فاضربوا بالمطرقة. لا تساوموا. فالفن أيضا جبهة نضال.