بقلم عمار عمروسية
يبدو أنّ الظهور الوحيد المطوّل لـ”مهدي جمعة” رئيس الحكومة المؤقّتة يوم 3 مارس الماضي كان بمثابة الضوء الاخضر والإيعاز لباقي فريقه لدقّ نواقيس الخطر حول الوضع الاقتصادي والمالي الخانق الذي تردّت فيه البلاد.
ولعلّ أغلب تصريحات النّاطق الرسمي لهذه الحكومة “نضال الورفلّي” في الندوة الصحفيّة المنعقدة مؤخّرا أفضل قرع لتلك النواقيس إذ أكّد بصريح العبارة “لجوء الدّولة إلى حيل عديدة لضمان سداد أجور الموظّفين بالنسبة إلى شهر أفريل”ỊỊỊ
وأضاف “هناك نقص بحوالي ستّ مائة مليون دينار بالنسبة لشهر جويلية القادم على الدولة أن تخلقه”ỊỊỊ وبقطع النظر عن الجدل المشروع حول صحّة الأرقام المقدّمة في تلك الندوة أو في غيرها من التّصريحات الواردة على لسان أغلب المسؤولين الذين فكّت عقدة ألسنتهم في هذا المجال فقط فمسؤوليّتنا كعادتنا نحو بلادنا وشعبنا وخصوصا المهمّشين والكادحين في الرّيف والمدينة تدفعنا إلى تقديم الملاحظات التالية:
تشخيص منقوص
قبل أن يتكلّم “جمعة” والبعض من فريقه، كان الرأي العام السياسي والشعبي يتناقل أخبار الأزمة الاقتصادية الحادّة، أكثر من ذلك، فالأغلبية السّاحقة من التونسيات والتونسيين بمن فيهم حتّى الشرائح الاجتماعيّة التي كانت حتّى وقت قريب بمنأى عن الآثار المدمّرة لهذه الأزمة تدفع يوميّا من قوتها وعرقها وأعصابها فاتورة مكلفة ومتجدّدة لذلك التردّي.
بعبارة أخرى فإنّ ما يحسبه البعض جرأة وقولا للحقيقة في رصيد هذا الفريق هو أمر قديم ومشاع والمسألة تنحصر منذ مجيء الوافدين الجدد على السلطة في تحديد حجم الأزمة دون مبالغة وتهويل أو استنقاص وتخفيف.
والأهمّ من كلّ ذلك هو التقدّم في تحديد المسؤوليات عن هذا التقهقر وضبط طرق الخروج من هذا المأزق.
والمتمعن في التّشخيص الرّسمي حتى هذا الوقت يقف على بقاع سوداء تتعلّق بطبيعة الحال بمحاولات يائسة للصمت على الأدوار التّخريبية التي ارتبطت بحكم الترويكا التي لا يمكن لأيّ عاقل غضّ الطّرف عن مسؤوليتها في الواقع الحالي.
الدّاء والدّواء
مثلما أسلف تتكاثر التصريحات الرسميّة حول الأزمة وسط زيارات مكّوكيّة لمهدي جمعة نحو دول الخليج وأمريكا وغيرهما بهدف طلب العون والاقتراض الذي مازال محلّ وعود وفي أحسن الحالات مثلما حدث مع أمريكا مبلغا ماليا زهيدا بمثابة الضمان للإقتراض من الجهات المانحة. وبالتوازي مع ذلك تتكثّف الدّعوات إلى الهدنة الاجتماعية وتنشط من ورائها حملات التّحريض على حقّ الإضراب والاعتصام والتّظاهر بما يصبّ في خانة تجريم النّضال المشروع من أجل لقمة العيش الكريمة وحق الشغل اللاّئق…
فالمتأمّل في المرتكزات الأساسيّة للنّهج الحكومي الحالي يقف على حقيقة واحدة يمكن حوصلتها في استمرارية الخيارات القديمة وتعميقها بما يُفضي بصفة آلية إلى تعميق تبعيّة بلادنا ومزيد الدفع بالانقسام الطبقي الذي يتّجه نحو تقليص دوائر الأثرياء وتوسيع القاعدة الطبقية للمحتاجين والمفقّرين والمهمّشين.
الهدنة المغشوشة، الهدنة المطلوبة
إنّ دواعي السلم الاجتماعية في مثل هذه الأوضاع المعيشية العسيرة وهذا التخلّي المريع للدّولة عن تلبية الحاجيات الأساسية لمواطنيها تصبح دون جدوى وهي مداخل لإعداد العدّة لتصفية الحساب بالقوة مع الحراك الاجتماعي والشعبي وهو أمر لم يعد ممكنا حتى لأقوى حكومة وأكثر المؤمنين بالبطش والقمع. فالهدنة الوحيدة المطلوبة هي إيقاف هذا الارتفاع الجنوني للأسعار والهدنة المعقولة متأكّدة من جهة الدولة وبعض الأعراف العاملين بطرق عديدة على زيادة الأرباح الفاحشة. وهي مطلوبة من مافيات التهريب والاقتصاد الموازي الذين نقلوا معركة تدمير النسيج الاقتصادي إلى مناطق الخطر.
التقشف المغلوط والتقشّف المطلوب
عادة ما يقترن الحديث الرسمي عن الأزمة وسبل معالجتها إلى تحميل الفئات الكادحة والشعبيّة المزيد من الأعباء الإضافية لوضع لا دخل للأخيرين فيه. فالتّضحية ومطالب التّقشف الصادرتان عن الخطاب الرّسمي شعارات لا معنى لها في ظلّ انفلات الأسعار واتساع دوائر الفقر والحرمان. وإذا كان هناك مجال للتقشف والتضحية فهما مطلوبان ضمن أبواب بعيدة عن الأجور المهترئة ومساعي التّرفيع في الأسعار المشتعلة. فالتضحية مطلوبة من القلة التي راكمت وما زالت الثروات الطائلة والتقشّف محمول على أوجه نفقات الدّولة ومؤسّسات السلطة بما فيها جرايات أعضاء الحكومة ورئيس الجمهورية ورواتب أعضاء المجلس التأسيسي الذي يمثل بقاءه الآن عبء ثقيلا على متطلّبات الكادحين.والتقشّف مطلوب في الأسطول الضخم للسيارات الإدارية ووصولات البنزين التي لا حصر لها. وهو مطلوب بإيقاف نزيف الفساد المالي الذي ينخر الدولة. وهو مطلوب بمحاسبة اللصوص والمستثرين في كلّ الحكومات المتعاقبة بما فيها بطبيعة الحال حكومتي الترويكا.