بقلم جيلاني الهمامي
تمرّ بلادنا هذه المدّة بأزمة اقتصادية حادّة تلقي بظلالها على جميع أوجه حياة التونسيات والتونسيين. وتحاول الحكومة الحالية، حكومة المهدي جمعة، معالجة هذه الأزمة بما يثير الكثير من الجدل. وقد دعت مطلع هذا الأسبوع إلى حوار وطني اقتصادي في محاولة منها لإيجاد تصوّر مشترك لتجاوز هذه الأزمة التي أضحت تهدّد الاقتصاد والبلاد بالإفلاس على حدّ تصريحات الناطق الرسمي باسم الفريق الحكومي الحالي.
الأزمة بين الحقيقة والمبالغة
أكّد عدد من أعضاء الحكومة، بما في ذلك رئيسها المهدي جمعة، في أكثر من مناسبة أنّ الأزمة الاقتصادية في تونس قد بلغت درجات مخيفة. وراجت في المدّة الأخيرة أخبار عن متاعب مالية لخزينة الدولة تنذر بعجزها قريبا عن سداد أجور العمّال والموظّفين. وقد تركت هذه التّصريحات حالة من الخوف والحيرة لدى أوساط واسعة من الرأي العام الوطني، فيما شكّكت أوساط أخرى في صحّتها واعتبرتها مجرّد دعاية موجّهة لتخويف التونسيين وجرهم للقبول بالإجراءات المريرة التي تنوي الحكومة اتّخاذها تحت غطاء مكافحة الأزمة.
لكن أيّا كانت التعاليق لا بدّ من الاعتراف بأنّ بلادنا تمرّ فعلا بأزمة اقتصادية قلّما عرفتها من قبل. وهي أزمة عميقة شملت كلّ مكوّنات الدّورة الاقتصادية حيث انهار الاستثمار والإنتاج والادّخار والاستهلاك. واختلّت الموازين العامة للدولة حيث سجّل النمو الاقتصادي معدّلات ضعيفة جدا (2،6) وبلغ عجز الميزانية نسبة عالية (حوالي 10 %) وتراجع الادّخار (من 22 إلى 15 %) والاستثمار (من 24،6 % من الناتج الداخلي الخام سنة 2010 إلى 20 % فقط) وتعمّق عجز الميزان التجاري بشكل غير مسبوق ليبلغ ما يزيد عن قيمة كتلة الأجور ويدفع بالعملة الصعبة (نسبة تغطية الصادرات للواردات حوالي 70 % فقط) وارتفعت نسبة التداين إلى 49،1 % من الناتج الداخلي الخام (40 % سنة 2010) فيما استقرت نسبة التضخم فوق 6 % وبقيت نسبة البطالة حوالي 16 % حسب الأرقام الرّسمية.
وفي ضوء هذه المؤشرات الاقتصادية شهدت الماليّة العموميّة انخراما كبيرا حيث ارتفعت مصاريف الأجور إلى أكثر من 10،5 مليار دينار ونفقات الدّعم حوالي 5 مليار دينار فيما تراجعت المداخيل الجبائية. وتتّجه نيّة الحكومة الحالية تماما كما فعلت حكومات الترويكا من قبل إلى التخفيض من ميزانية الاستثمار واللجوء لمزيد التّداين لتوفير الموارد التي تحتاجها الميزانية العامة للدولة ولسدّ الثغرة (الثقب) الذي تعاني منه والذي يقارب 7 مليار دينار تونسي.
ومن المتوقّع في ظلّ المناخ الاقتصادي الدّولي الصّعب وخاصة الأزمة التي تعانيها بلدان الاتحاد الأوروبي أن تجد حكومة المهدي جمعة الحلول العاجلة التي تساعد على تفريج الأزمة علما وأنّ جولته في بلدان الخليج والولايات المتحدة الأمريكية بحثا عن المساعدات (قروض واستثمارات) لم تثمر شيئا ملموسا عدا الوعود ولا شيء غير الوعود.
من المسؤول ومن يتحمّل تبعات الأزمة
لقد سبق أن كشف رئيس الحكومة مهدي جمعة في لقاءاته التلفزية وفي مناسبات أخرى مع عدد من الأحزاب عن الواقع الاقتصادي الصعب. غير أنه لم يقدّم للشعب حقيقة الوضع بالضبط بقدر ما ركز على بعض الجوانب التي قرنها في كلّ مرّة بضرورة اتّخاذ إجراءات لتخفيف العبء عن خزينة الدولة وكرّر على مسامع التونسيين ضرورة التخفيف من كلفة الدعم وترشيده ورفع جزء منه أي بما يعني ضرورة تحرير أسعار بعض مواد الاستهلاك ومزيد دهورة القدرة الشرائية للفئات الشعبية الفقيرة. كما أعلن صراحة عن غلق باب الانتداب في الوظيفة العمومية ومؤسّسات الدّولة في وقت يزيد فيه عدد العاطلين عن 700 ألف “بطال”. كلّ ذلك مع اتخاذ إجراءات أخرى هيكلية لتحريك عجلة الاقتصاد ويعني بذلك تطبيق التّوصيات التي “أوصى” بها صندوق النقد الدولي والبنك العالمي والاتحاد الأوروبي مقابل تمكين الحكومة من بعض القروض. ويتّضح ممّا ورد أنّ الحكومة لا ترى من حلّ للأزمة غير تحميل الشعب تبعاتها.
وقد تحاشى رئيس الحكومة في كلّ تدخّلاته تحديد المسؤول الحقيقي عن هذه الأزمة خشية أن يكشف عن الجريمة الاقتصادية التي اقترفتها حكومتي الجبالي والعريض التي كان من المفروض تتبّعها قانونيّا من أجل سوء التصرف وجرائم فساد في الكثير من الملفات (الطاقة، قطاع الاتصالات، الانتدابات في الوظيفة العمومية الخ…). ولا غرابة في الأمر بما أنّ مهدي جمعة كان عضوا في الحكومة السابقة والمسؤول الأوّل على قطاع الطاقة التابع لوزارة الصناعة التي تقلّدها في حكومة العريض.
لا للحلول المغشوشة
إنّ حدّة الأزمة تستوجب حلولا غير الحلول التي تسبّبت فيها. وبالنظر لكلّ المصاعب الاقتصادية الدولية والمحلية لا سبيل للخروج من هذه الأزمة بغير التعويل على الإمكانيات الخاصة للبلاد ولأبنائها واتّباع منوال تنمية جديد ومغاير لما تمّ اتّباعه حتى الآن وأدّى بالبلاد إلى مأزق حقيقي. تقتضي هذه الإجراءات الشّجاعة اللاّزمة لوقف سياسة التّداين والكفّ عن تسديدها ما لم يقع التدقيق في الجانب الكريه منها وما لم يقع إصلاح منظومة الجباية الفاسدة والمهترئة وما لم يقع ترشيد مصاريف الدولة وسياسة التوريد والتوجّه للتنمية التي تخلق الثروة وتوفّر الشغل.
إنّ الاعتماد على ديماغوجيا “الاستشارات” التي كان يتباهى بها نظام بن علي لن تحلّ الأزمة ولن تخفّف من معاناة الشعب وبالتالي لن تقي الحكومة الحاليّة مثلما لم تق سابقاتها من الهزّات الاجتماعية العنيفة.