بقلم شريف الخرايفي
لا يخفى على أحد أنّ الأوضاع الاجتماعيّة راهنا هي في أشدّ درجات التأزّم. ولنا أن نطرح في البدء جملة من التّساؤلات حول حقيقة هذا الوضع الكارثي وأسبابه؟ وعن هذه اللّعنة التي حلّت بالمعطّلين وأبناء الكادحين والمفقّرين؟ وعن مدى حضورهم في أجندات الحكم الرّاهن والذي سبقه؟ قبل البدء في كشف الواقع المرير للمعطّلين وما بلغته أوضاعهم من سوء في ظلّ حكم الفرق الانتقاليّة، لنعد قليلا القهقرى إلى ما قبل الثورة.
استبداد وفساد وقمع وعمالة… وبطالة
كلّنا يعلم أنّ “البَطّالة” كانوا وقود الثورة ومن بين “قياداتها” الميدانية، وشعارهم “شغل حرية كرامة وطنية” مثّل بالفعل “كلمة السر” لتلك الهبّة “الأسطوريّة”، وعلى “لضى” هذا الشعار تصدّعت تباعا كلّ القيود التي كبّلت شعبنا طيلة عقود.
لقد مثّل المعطّلون، المحرّك الجبّار لثورة 17 ديسمبر- 14 جانفي، بالنّظر لحجمهم ولشدّة الارتباط العميق لذلك الشعار بكلّ ما اختزن واكتوى من الفساد والرشوة والقمع والعمالة والاستبداد.فالبطالة لم تكن وليدة القرن الجديد، في تونس وفي غيرها، بل كانت بنت منظومة الاستغلال الفاحش وقانون الربح والربح الأقصى المقيت. ولم تكن وليدة “الهزيع” الأخير من حكم بن علي، بل كانت لازمة من لوازم حكمه ورثها عن حكم بورقيبة وواصل فيها بأكثر رعونة وجشع. ولكن المستجدّ هو دخول فئة جديدة معترك الحراك النضالي، فئة المعطّلين خاصة من أصحاب الشهائد، قدّمت في أقل من نصف عقد (بين 2006 و2010) دروسا بليغة كان لها الأثر والتّأثير المحتوم كما يعلم الجميع.
الثورة وتجربة الحكم “الجديد”
وحتى بعد رحيل “الطاغية” لم تتراجع جذوة الاحتجاج بل تصاعدت وتجذّرت وتنوّعت. كيف لا، وقد ذاع صيت “ثورة البطّالة” و”ثورة الجياع والمهمّشين وأولاد الحفيانة”؟ كيف لا، وقد رأينا بأمّ العين، كيف يمشي المعطّلون “الهنيهة” بكلّ فخر وبغبطة المنتصرين، متبجّحين أنّهم “صناع الثورة وأبطالها” (عن وعي وعن جهل أيضا)؟ وكالنار في الهشيم، سرت حمى التنظم في طول البلاد وعرضها وتحوّل المعطّلون إلى قوّة ضغط هائلة، ونتجت صعوبات جديدة، هي كيفية إدارة وقيادة هذه الجيوش الوافدة التي ترنو الظّفر بحقّها ونصيبها في العمل وفي الحياة…”الآن وهنا”. وعلى امتداد ثلاث سنوات ونيف، لم تشفع لهم تلك المكانة وتلك الحظوة، بل واصلوا الاحتفال بذكرى بطالتهم وبذكرى “ثورتهم المغدورة”.
على امتداد أكثر من ثلاث سنوات ونيف تبخّرت كلّ تلك الوعود بالجنة الموعودة، وانقشع غيمها بتوفير التنمية العادلة و400 ألف موطن شغل وبمعالجة الأوضاع الحارقة وفي مقدمتها أوضاع المعطلين عن العمل والمهمشين والمحرومين.
طيلة حكم خمس حكومات، تابعنا أوضاعنا تتدرحج نحو القاع، وبدأت تذوي تلك الشعارات الرنانة، وعوّضتها فتاوي الهدنة والتهدئة وبرزت “من تحت الجبّة” اليد الملوّحة بالعصا ضدّ “المناوئين” و”الحاقدين” والمدفوعين” من “بعضهم”… ولم تخل طيلة هذه الفترة حملات الإيقاف والسجن والتغريم بالخطايا لمن بقي في الشارع مطالبا بالحق في التنمية وفي الشغل ونصيب متواضع من عائد الثروة للتعويض على النهب المفضوح والأمراض القاتلة.
وإلى ذلك، تمّ افتعال أحداث وقضايا مدفوعة الأجر ومعلومة الخلفيّة والدّوافع، عوضا عن الانكباب على معالجة الملفات العاجلة، وللتضليل على المطالب الحية والمشروعة وعلى الأهداف الساطعة للثورة المجيدة.
حكم التكنو–قراط
بعد شدّ وجذب وسجال مرير ومضني، رحلت حكومة العجز والفشل مخلّفة وراءها آثارا لن تمّحى من “عار” الجشع والطمع والتكالب على “الغنائم” ومن العمالة السافرة، رحلت الحكومة وفي جعبتها رصيد من الجريمة ومن الدم ومن أنّات المحرومين ودموع من ترمّلوا أو تيتّموا أو أُقعِدوا في الثورة…وجاءت حكومة “المهدي”…
دون مقدمات، نطق مرّة وخرس إلى حين… مطمئنا من أسنده ونصّبه “عنوة” أنه ماضٍ دون خشية في مزيد إغراق البلاد في المديونية وفي مزيد رهن البلاد لمؤسّسات ودوائر النّهب العالمي وفي رفع الدّعم عن عديد المواد الأساسيّة والاستهلاكية…أمّا اجتماعيّا، فمزيدا من التفقير والتجويع ودون خجل أعلن أن “لا انتدابات في ميزانية 2014”.
سنخاطب التكنو-قراط بلغتهم، لغة الأرقام لا المواقف والشعارات
في عهدكم تجاوزت معدلات البطالة 16% (أكثر من 650 ألف معطّل حسب المعهد الوطني للإحصاء الذي كان يديره أحد المقربين من حركة النهضة) وارتفعت نسبة بطالة أصحاب الشهائد من 31 إلى حدود 35% حاليّا، وتعمّقت بطالة المرأة (44%) مقارنة بالرجل (24%). ومازالت البطالة مرتفعة في المناطق المهمشة “تاريخيا” وتعمّقت في مدن “حزام الفقر” الداخلي. وفي عهدكم لم تتجاوز نسبة النمو3% مع كلّ إجراءات النهب وبيع مؤسسات البلاد، وهو ما لا يمكّنكم من خلق 30 ألف موطن شغل في أفضل الحالات، في حين أنّ الوافدين لجحيم البطالة أكثر من الضعف سنويا، وفي أفضل فترات حكم بن علي (لحظة استقرار وقتي) لم تتجاوز نسبة النمو 6 ولم يستطع انتداب أكثر من 60 ألف بكلّ الإجراءات المتخذة. فكيف في حكمكم المتصاعد فشله باستمرار؟
عيد شغل… بلا شغل
تمرّ ذكرى الاحتفال بالعيد العالمي للعمل وأوضاع الشعب التونسي “على شفا جرف هار”، وأوضاع المعطلين “حدّث ولا حرج”. تمرّ هذه الذكرى وقد اشتد الهجوم على العمّال والفلاّحين والمهمّشين وعلى السّواد الأعظم من الشعب الكادح، عبر تحميله مسؤولية وضع مأزوم.. ورغم كلّ المبادرات والمقترحات التي تقدّمت بها الحركة الديمقراطية، خبراء ونقابات وأحزابا (ومنهم أساسا الجبهة الشعبية) إلاّ أنّ حكومة “المهدي جمعة” لا ترى من حلّ غير الاقتراض وترفيع الضرائب ورفع الدعم عن المواد الأساسية والغذائية، أي عبر تشديد الخناق عن أبناء الشعب، وآخرها فتح الباب لبني صهيون” لكي يرتعوا في البلاد باسم السياحة و”تدوير الدولاب”…أمّا أن تفاوض الحكومة من أجل إمهال تونس دفع الديون لبضع سنوات حتى نتعافى، وأن يدفع المتهرّبون من دفع الضرائب لعقود النزر القليل من حقّ “تونس” عليهم، وأن نقيم الدنيا ولا نقعدها من أجل استعادة أموالنا التي نهبها بن علي والطرابلسية، وأن تتّخذ الحكومة “المنقذة” إجراءات حازمة لترشيد الإدارة، وأن تفرض ضريبة استثنائية على الثروات والمقتنيات الفاحشة الثراء وأن تدفع عجلة الاستثمار في دواخل البلاد ببعث مشاريع ذات قدرة انتاجية وتشغيلية عالية، ووو…كلّ ذلك “عميت عليه أبصارهم” وأغشتهم مخططات البرجوازية التي تريد إجهاض الثورة وقبر أهدافها “فهم لا يبصرون”.
أتذكّر جيّدا أنّ ذات غرة ماي (2007) أصدرنا في اتحاد المعطلين بيانا “عيد شغل دون شغل” وكأن الزمن قد توقّف، وكأنه لم تحدث ثورة ولم يسقط خيرة شباب تونس شهداء وجرحى ولم نشهد تباعا فرقا متعدّدة على سدّة الحكم. الإجابة بالنفي قطعا… لقد حصلت بالفعل ثورة مجيدة عاتية، وتمّ ترحيل أحد أعتى الدكتاتوريات، ودخلنا واقعا جديدا أكثر تعقيدا… ولكن الخيارات التي حكم بها بورقيبة وبن علي واصلت حكومات ما بعد الثورة تنفيذها، بل وأمعنت في العمالة والفساد.
وخلاصة أخيرة لكلّ ذلك، لن يجعلنا الواقع المرير الذي نعيشه نندم أو نتأسّف على طرد بن علي وإطاحة حزبه الفاسد، ولكنّنا ماضون قدما من أجل استكمال مهام الثورة ومن أجل فرض نظام يحقّق العدالة الاجتماعية والكرامة والسيادة الوطنيّتين.