بقلم جيلاني الهمامي
صادق المجلس التأسيسي مساء يوم الخميس غرّة ماي الجاري على القانون الانتخابي الجديد في جلسة صاخبة تخلّلتها مشاهد كشفت عن تردّي المستوى الفكري والسياسي حيال قضيّة المرأة بما عمّق نظرة الازدراء تجاه المجلس الذي فقد الكثير من تقدير أوساط واسعة من الشعب التونسي واحترامه.
مواقف متباينة
هكذا إذن انتهت جولة المداولات الطويلة داخل لجنة التشريع العام ثمّ في لجنة التّوافقات وفي الجلسة العامّة بالمجلس إلى المصادقة على نصّ قانون انتخابي اختلفت الأطراف السياسية وعديد مكوّنات المجتمع المدني في تقييمه والحكم عليه. فهو في منظور حركة النهضة “إنجاز جديد يتحقّق لتونس وللشّعب التّونسي، واستكمال للإطار التشريعي المنظّم للانتخابات بعد تركيز الهيئة العليا للانتخابات وسنّ الدستور” ( انظر بيان النهضة بتاريخ 2 ماي 2014) وذهب الغنوشي إلى حدّ تهنئة الشّعب التّونسي وأعضاء كتلة النهضة في المجلس بهذا القانون. وفي تعليقه على موقف نوّاب حركته من الفصل 167 الخاص بعزل رموز النظام السابق ومنعهم من الترشح قال الغنوشي “لسنا أوصياء على الثورة حتى نحصّنها فالشّعب صاحب الثّورة سيحصّنها عبر صناديق الاقتراع”. في نفس الاتّجاه سجّل حزب المبادرة في بيان له بتاريخ 02 ماي “ارتياحه للمصادقة على القانون الانتخابي دون إقصاء ونوايا ثأريّة تشجّع على الفتنة والحقد والبغضاء” مؤكّدا أنه “لا وصاية على الشعب بعد الثورة” ومضيفا أنّه “كان من الأوائل الذين دعوا للعدالة الانتقالية وعبّر مرارا عن أسفه واستيائه لتأخير البتّ من قبل المجلس التأسيسي في المشروع المتعلّق بها لما يناهز السّنة”.
أمّا لزهر العكرمي عن نداء تونس فقد اعتبر أنّ القانون الانتخابي الجديد لا يبتعد بشكل عام عن القانون الانتخابي الذي أنجزت وفقه انتخابات 23 أكتوبر 2011 وعبّر عن ارتياحه لإسقاط العزل السياسي لأنّه يساعد على الاستقرار والانتقال الدّيمقراطي السّليم لاسيما وأنّ العزل السياسي لا يليق حسب رأيه بالشعوب الديمقراطية، مضيفا أنّ “من يدعون إلى العزل خائفون وسيسقطون لا محالة باعتبار أنّ فزّاعة النّظام القديم هي كقصّة الغول التي لا وجود لها لتخويف الأطفال مع فارق واحد وهو أنّ الشّعب التّونسي ليس طفلا يُخيفه غول وهمي”.
في نفس الاتّجاه سار الحزب الجمهوري الذي أكّد أحد قياديّيه أنّ حزبه “ضدّ الإقصاء لأنّه لا يمكن أن يكرّس الدّيمقراطية المنشودة، وهو مع العدالة الانتقاليّة والمحاسبة لذلك فإنّ الحزب الجمهوري أسقط الفصل 167 ليترك المجال للشعب والمجتمع المدني ليعاقبوا من أذنب في حقّه وفي حقّ هذه البلاد عن طريق صندوق الاقتراع وليقف ضدّ رجوعهم للحكم”( انظر كذلك تصريح عصام الشابي – جريدة المغرب 04 ماي 2014 ).
وقال سليم بن حميدان عن حزب المؤتمر أنّ هذا القانون “من الناحية الإجرائيّة والشّكليّة يمثّل مكسبا للمسار الديمقراطي إذ يفتح المجال لإجراء انتخابات ديمقراطية حرّة وشفّافة متلائمة ومتناغمة مع الدستور”، مستدركا “هذا القانون سمح لرموز النظام البائد بإمكانيّة العودة إلى الحكم عبر بوّابة الديمقراطية…”
وقد عبّرت غالبيّة القوى السياسيّة الأخرى بدرجات متفاوتة عن انتقاداتها لهذا القانون. فاعتبرت الجبهة الشعبية أنه سيعيدنا إلى المشهد الانتخابي السّابق الذي لا يخدم مصلحة تونس ولا تجربة الانتقال الدّيمقراطي بل سيسمح بعودة النظام السابق دون قيد وشرط .
وصرّحت النّائبة سامية عبو لأحدى الإذاعات أنه قانون فضيحة سيأتي على آخر مكاسب الثورة.
مساومات وضغوط آخر لحظة
كانت لجنة التّوافقات توصّلت إلى حسم الكثير من الخلافات وقبلت بصياغات توافقيّة فيها، باستثناء بعض النّقاط منها خاصّة فحوى الفصلين 24 و25 الخاصّين بالتّناصف وبتمثيل الشّباب في القائمات الانتخابيّة والفصل 167 الخاصّ بالعزل السّياسي الذين أحيلوا مع بقيّة الفصول التوافقيّة على الجلسة العامة للتّصويت عليها. وقد تمّ في الأخير تمرير الفصل 25 بحذف شرط تخصيص الثلث للشباب في القائمات الانتخابية بعد أن تمّ التّخلّي عن التّناصف الأفقي في الفصل 24 وجاءت الصيغه النهائيّة للفصلين 24 و25 كالآتي :
” الفصل 24: تُقدّم الترشّحات على أساس مبدأ التناصف بين النساء والرّجال وقاعدة التّناوب بينهم داخل القائمة ولا تقبل القائمة التي لا تحترم هذا المبدأ إلاّ في حدود ما يحتّمه العدد الفردي للمقاعد المخصّصة لبعض الدوائر.
الفصل 5 : يتعيّن على كلّ قائمة مترشّحة في دائرة يساوي عدد المقاعد فيها أو يفوق أربعة أن تضمّ من بين الأربعة الأوائل فيها مترشّحا أو مترشّحة لا يزيد سنّه عن خمس وثلاثين سنة. وفي حالة عدم احترام هذا الشّرط تُحرم القائمة من نصف القيمة الجملية لمنحة التمويل العمومي”.
وللتّذكير أيضا كان الفصل 167 في صيغته التّالية حصل في تصويت أوّل على 108 أصوات بصفة استثنائية وإلى حين تطبيق منظومة العدالة الانتقالية وفق الفقرة 9 من الفصل 148 من الدستور على أنه لا يمكن أن يترشّح للانتخابات التّشريعيّة المقبلة كلّ من تحمّل مسؤوليّة صلب الحكومة في عهد الرّئيس المخلوع بداية من تاريخ الانتخابات التّشريعيّة والرئاسيّة لسنة 1994 وإلى تاريخ 14 جانفي 2011. كما لا يمكن أن يترشّح لكلّ من تحمّل إحدى المسؤوليّات التّالية في هياكل التجمّع الدستوري الديمقراطي المنحل: – عضو الديوان السياسي – عضو لجنة التنسيق – رئيس شعبة – أمين عام أو كاتب عام لمنظمات طلبة التجمع الدستوري الديمقراطي – أعضاء مجلس النواب وأعضاء مجلس المستشارين المنتمين إلى حزب التجمع الدستوري الديمقراطي المنحل”.
لكن وبما أنه تمّ التّوصّل إلى جمع 109 أصوات وبطلب من أكثر من 80 نائبا (عبر نصّ عريضة) أعيد إحالة هذا الفصل على التّصويت من جديد يوم 2 ماي (رغم معارضة العديد من الأطراف على ذلك) وفيما كان الكثير يتوقّع أن ينال أكثر من 109 صوتا فوجئ الجميع بتصويت 100 فقط عليه وذلك بعد أن تدخّل راشد الغنوشي شخصيّا لدى نوّاب كتلته في المجلس التأسيسي لثني من صوّت لصالح الفصل عن موقفه وجرّ أكثر من 14 من “النهضاويين” الذي كانوا مع العزل السياسي إلى التصويت ضدّه. وجرت اتّصالات حثيثة بين النهضة ونداء تونس بين القيادات السياسية وبين النواب (الصحبي عتيق وخميس قسيلة) من أجل حشد أكثر ما يمكن من الأصوات ضدّ هذا الفصل وإسقاطه.
يتضمّن القانون الانتخابي جملة من السّلبيّات القانونية التي تمّ تمريرها قصد التحكّم في مجريات الانتخابات القادمة وضمان نتائجها لصالح القوى الرّجعية. وقد صيغت الكثير من جوانبه بما يتنافى وطموحات القوى الديمقراطية وبما يتعارض تماما مع أهداف الثورة لذلك فإنّ العمل بأحكامه من شأنه أن يسمح للقوى الرّجعيّة سليلة النظام القديم والرجعيّة الإخوانية للتّسلّل مجدّدا للحكم والسّيطرة على أجهزته ومن ثمّة الالتفاف نهائيّا على المسار الثوري الذي هو بطبيعته متعثّر على أكثر من صعيد.
أهمّ مواطن الخلل في القانون الجديد
يمكن رصد هذه السلبيّات في الفصول والقضايا التالية:
الفصل 24 والفصل 25: حذف التّناصف الأفقي وتخصيص نسبة 30% للشّباب في القائمات الانتخابيّة المترشّحة
الفصل 66: السّماح للقائمات المترشّحة عن الدّوائر الانتخابيّة في الخارج باستعمال وسائل الإعلام الأجنبيّة
الفصل 78: وخاصّة الفقرة الأولى والثانية المتعلّقتان بالتّمويل العمومي للحملة الانتخابيّة
الفصول 98 و99 و00 : عقوبات المخالفات الماليّة والانتخابيّة
الفصل 167: سقوط العقوبة بالتّقادم إثر انقضاء 3 سنوات من تاريخ إعلان النتائج النهائيّة للانتخابات.
لكن ما يمكن قوله بالاطّلاع على نصّ القانون هو أنه بـ:
– السّماح لرموز النظام السّابق بالتّرشّح للانتخابات القادمة (رئاسية وتشريعية)
– تمكين القائمات الانتخابية من التمويل المسبق (الفصل 78)
قد فُسح المجال للتجمعيين للتّرشّح، وبالنّظر لما لديهم من إمكانيات ماديّة وقدرات انتخابية وخبرة في إدارة الحملة الانتخابية فإنّ هذا القانون عبّد لهم الطّريق للعودة للحكم دون أدنى محاسبة عمّا سبق أن اقترفوه في حقّ الشّعب من جرائم سياسيّة واقتصاديّة وأخلاقيّة. إضافة إلى أنه خلق الأجواء الملائمة لتعدّد القائمات المترشّحة وشجّع على المقاولات الانتخابيّة باعتماد التّمويل العمومي المسبق وساعد على التّشتّت الذي تستفيد منه الأحزاب الكبرى على حساب الأحزاب المتوسّطة والصغرى.
من جهة أخرى تمّ إقرار الفصل 24 وجوب وجود شاب دون 35 سنة في الأربعة الأوائل من كلّ قائمة في حين كان المشروع المعروض للتّصويت يُقرّ بوجوب وجود شابّ في الثلاث الأوائل ولم يكن هذا التّغيير بريئا إذا نظرنا في المعطيات الدقيقة لانتخابات 23 أكتوبر الماضية التي لم يفز فيها من أصحاب المراتب الرّابعة سوى ثمانية مترشّحين من جملة 217 في حين فاز 20 مرشّحا من أصحاب المراتب الثالثة. لذلك فإنّ هذا التّغيير مهما كان طفيفا يشكّل إقصاء مقصودا لصنف الشّباب وتضييقا على حظوظه في النّجاح في الوقت الذي تمثّل هذه الشريحة (أقل من 35 سنة) حوالي ثلثي السكان.
أمّا في ما يتعلّق بتمثيلية المرأة فقد تمّ التّخلّي عن التّناصف الأفقي أي على التناصف في رئاسة القائمات بخلفيّة رجعيّة يعلم أصحابها أنّ الاكتفاء بالتّناصف العمودي لم يسمح إلاّ بفوز 48 نائبة من 219 في الانتخابات الفائتة وهو ما يؤكّد منطق التّمييز ضدّ المرأة في رئاسة القائمات الانتخابية بتعلاّت ممجوجة مثل الكفاءة.
وعلى صعيد آخر تمّ حرمان الأمنيّين والعسكريّين الذين يزيد عددهم عن حوالي 170 ألف مواطن مرّة أخرى من حقّهم في التّصويت واختيار من يمثّلهم ومن حقوقهم المدنية بتعلّة الحفاظ على حيادهم. والحقيقة أنّ عامل الحياد لا يمكن أن يكون سببا كافيا لإقصاء مثل هذا العدد من المواطنين من الاهتمام بالشّأن العام والإصداع بموقفهم، والحال أنهم مثلهم مثل بقيّة موظّفي الدّولة يتمتّعون بالتّمثيل النقابي. كما لا يمكن أن يحول دونهم وتأدية واجبهم الانتخابي والاختيار بين المشاريع السياسية والأحزاب والقائمات المترشّحة. إنّ وقوف بعض الأحزاب ضدّ مشاركة الأمنيّين والعسكريّين في الانتخابات يعود في الحقيقة لمعرفة هذه الأحزاب وخاصّة حركة النهضة بتراجع شعبيّتها عندهم لاطّلاعهم على معطيات وتفاصيل تُدينها.
معارك أخرى
ما يزال الصّراع جاريا داخل مجلس الحوار الوطني حول مسألة تزامن الانتخابات الرئاسية والتشريعية وفصلهما وتسبيق هذه على تلك. وتعمل النهضة بصورة خاصّة على تنظيمهما بصورة متزامنة فيما تكاد تجمع بقيّة الأحزاب على فصلهما. وقد ظهر توجّه عام ينادي بتسبيق الرئاسيّة عن التّشريعيّة. والخطير في الأمر أنّ رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات شفيق صرصار بدا في تصريحاته الأخيرة منحازا لطرح النهضة أي طرح التزامن بتعلّة الآجال والكلفة والتنظيم.
وسواء تعلّق الأمر بهذه المسألة أو بمحتوى القانون نفسه أو بجملة عناصر المناخ العام للانتخابات، يتعيّن على جميع القوى الديمقراطية التي لها مصلحة في انتخابات ديمقراطية وشفافة ونزيهة أن تقوم بحملة دعائية وتحريضية واسعة ضدّ هذا القانون بمحتواه الحالي من أجل إفشال مسعى تطبيقه.
لقد بات واضحا أنّ قوى الردّة، المحلية والدوليّة، تريد غلق قوس الثورة في تونس وتوحيد صفوفها والإعداد لتحالف حكم جديد يجري الشّروع لتشكيله انطلاقا من هذا القانون وستكشف الأيّام القادمة عن سلسلة أخرى من القرارات والإجراءات والتوجّهات الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي ستوحّد الصّفوف أكثر. لذلك فإنّ إسقاط هذا القانون يمثّل خطوة على درب إفشال تحالف الحكم الرّجعي الجاري نَسْجُ خيوطه الآن في تونس.